إن اللغة العربية صارت ميداناً يتدرب بالهجوم عليها كل من أمسك بالقلم، غير مبقين لها على حرمة، ولا مقدرين ما حملته وتحمله من ذخيرة، وما تكتنزه من كنوز، والملاحظ أن كثيراً من الكلام الذي يقال في انتقادها يتضمن معلومات خاطئة، تهدف إلى تصوير العربية لغة شاذة مملوءة بالغرائب والأعاجيب التي يتوجب علينا أن نبترها، والتي تنتهي في واقع الحال إلى اغتيال العربية نفسها ووأدها. ووجدت أن من الواجب التصدي لهذه التحديات التي تظهر نفسها على أنها صادرة من حرص، ومن حداثة ورغبة في التطوير.. كان ذلك بعضاً من مقدمة كتاب «العربية تواجه التحديات» لمؤلفه أ.د طالب عبدالرحمن الصادر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قطر في السلسلة الدورية «كتاب الأمة» العدد:116 ذوالقعدة 1427ه.بعدد صفحات /143صفحة. ومما دفع الكاتب هنا لعمل قراءة لهذا الكتاب هو التهجم الحاصل والانتقاد والسخرية والقضم الجغرافي ومص الدم في مختلف الجبهات، واللغة العربية ليست بمنجى من هذا الهجوم، وذلك من خلال استخدام سلاح قديم جديد من العدوان على اللغة العربية في محاولة للنيل من القيم الإسلامية والحضارة الإسلامية، والحط من قدرها لصالح (الآخر) باستخدام مغالطات وتدليس لغوي وثقافي وسيكولوجي، وتحميل بعض الألفاظ الكثير من المعاني والتفسيرات، التي لا تتطلب كثيراً من الجهد لكشف انحيازها وشعوبيتها. ذلك أن الهجوم على العربية، تاريخياً، تلون بكل الألوان الأيديولوجية والثقافية، واستخدمت له الكثير من المذاهب النفسية والاجتماعية في محاولة لإلصاق كل إصابات التخلف والانحراف والتراجع الحضاري باللغة، وكأن هذه اللغة لا تاريخ لها ولا حضارة ولا علوم ولا ثقافة وكل ذلك ناقشه هذا الكتاب بأسلوب شيق ولون جديد تصدره بقوله تعالى:{نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين} الشعراء (193195) بداية: قدم للكتاب عمر عبيد حسنة في “عشرين” صفحة ابتدأها بالحمدلله الذي جعل لسان الرسالة الخاتمة العربية، لتصبح بذلك لغة الدين والعلم والتراث والتاريخ والحضارة، ومفتاح المعرفة ، وسبيل فهم الخطاب الإلهي، والتعرف على مراد الله للإنسان، ثم صلى وسلم على محل الرسالة الخاتمة وذكر قوله تعالى:{الله أعلم حيث يجعل رسالته}الأنعام 214وقوله تعالى:{إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}المزمل/5 ثم ذكر أن اللغة هي الركيزة الأساس في وسائل الاتصال والبلاغ والإعلام، وهي أداة العلم والمعرفة والحضارة ووسائل الاتصال جميعها ثم ذكر أنها لغة الحضارة والتاريخ والتفاهم والتواصل، وتشكل ذاكرة الأمة ووعاء تفكيرها وطرائق تعبيرها وملامح ثقافتها التراثية المعاصرة والمستقبلية إضافة إلى أنها لغة التنزيل للنص الإلهي الأخير للبشرية وهو القرآن الكريم، وهي لغة محفوظة بحفظ القرآن وخالدة بخلود القرآن، وقال: إن التدليس الحاصل على اللغة ظهر بسبب الخوف والجبن الناتجين عن الاستبداد السياسي والظلم وغياب الأمن والحرية، وبسبب العمالة الثقافية، ثم أكد أن سبب تخلف الشعوب هو التعلم من أجل القراءة فقط وليس التعلم من أجل التفكير والفهم والتعمق فقال: أصبحنا نتعلم لنقرأ لا نقرأ لنتعلم، وبعد التقديم جاءت محاور هذا الكتاب التي ابتدأها المؤلف بالمقدمة ثم قسم فصول الكتاب إلى ثلاثة فصول وانتهى بالخاتمة، ليطلع القارئ الكريم أن العربية تواجه تحديات فما الدور الذي سيقوم به تجاهها؟ العربية ونفسية العربي تناول هذا الفصل الدعاوى، التي تربط بين العربية من جهة، ونفسية العربي من جهة أخرى، وكيف أن القائلين بهذا الربط يصورون الموقف وكأننا بإزاء تلازم بين مرض وجرثومة، وقد ناقشها مبتدئاً بمدخل وضح فيه العلاقة بين اللغة والفكر مستنداً إلى الفكرة القائلة: اللغة هي العربة والفكر هو الحصان، والقول الشائع: اللغة مرآة للواقع، وأنها بمثابة النظارات التي نرى العالم من خلالها. ثم ثنى المؤلف بذكر آراء الدكتور نصر حامد أبي زيد في كتابه “دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة” التي ذكر فيها أفكاراً مست اللغة العربية منها ما يخص الأسماء الأعجمية ومنها من الصرف والتمييز بين العربي وغير العربي على مستوى بنية اللغة والتذكير والتأنيث، وعمل المؤلف على تفنيدها بعدة أدلة منها: “ألا لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى” والأسماء الأعجمية ليست كلها ممنوعة من الصرف ثم ذكر اعتزاز العربي بلغته والترادف في التذكير والتأنيث وغيرها ثم ثلث المؤلف بذكر آراء الكاتب “ي. شوبي” الذي سمي بحثه “أثر اللغة العربية في نفسية العرب” ومنها: أن العرب أقل تمكناً في العربية وابتعدوا عن الفصحى والغموض في المعنى وصعوبة النحو، والتراخي في الأداء والتلاعب بالألفاظ والكلمات وغيرها، وفنّد المؤلف ذلك وغيره في أقوال مهمة أهمها: خلو بحثه شوبي من الحقيقة التي تأتي بواسطة التجارب والاستبانات وغيرها وعدم الدقة في الحكم وانتقاله من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى الماضي دون ذوق واحد منسجم إضافة إلى الخلط وعدم الرجوع إلى علمي النفس والفلسفة، ناهيك عن الترجمة الصحيحة التي افتقدها مختتماً بالحديث النبوي الشريف عند البخاري “إذا لم تستح فاصنع ماشئت”. الدعوة إلى العامية ذكر المؤلف في هذا الفصل الحجج التي استند إليها الداعون إلى العامية والردود عليهم وعمل تقويماً لتلك الدعوات ونوع المغالطات والأخطاء التي وقع فيها الدعاة. ومن تلك الدعوات: إلغاء الفصحى وإحلال العامية محلها، لأن العربية الفصحى هي سبب تخلف العرب عن الابتكار والاختراع.. ومنها صعوبة بالغة مقارنة بسهولة العامية. ووجود فصحى وعامية في الوقت نفسه يؤدي إلى فصام لغوي، وهي من أسباب قلة الإقبال على المطالعة وتشجيع الاستعمال السيء للغة كالشتم والسباب، وأن المتكلم بالفصحى غالباً ما يتجه إلى شكل الكلام على حساب مضمونه، ومن شأن إلغاء الفصحى والاكتفاء بالعامية إشاعة للسعادة بين الناطقين للعامية. وقد رُدّ على تلك الحجج بردود أهمها: الغرض من هذه الدعوة برمتها هو قطع العلاقة بين الشعب العربي من جهة وقرآنه ودينه وتراثه من جهة أخرى، وأن هجر الفصحى وتبني العامية من شأنه فصل الدول العربية الواحدة عن الأخرى، إضافة إلى افتراض الداعين أن اللهجة مفهوم سياسي لغوي والواقع يرفض ذلك وانما الصحيح أنها مفهوم لغوي جغرافي اجتماعي، متدرج، ووجود تنوع لهجي ضمن اللغة الواحدة يكاد يكون ملازماً لها وخاصة إذا اتسعت الرقعة الجغرافية لأصحاب اللغة الواحدة، ولا مانع من وجود عامية وفصحى للاطلاع والقراءة، والعامية تستخدم في شتى أنواع الكلام كالغزل والشتم ومثلها الفصحى تستخدم للشتم والسب مثل قصائد الهجاء وتستخدم في الغزل والمعاملات.. وبُعد العامية عن الفصحى خطأ لأن بعض المفردات العامية فصيحة لكنها حُرفت أو أهمل استعمالها. أما صعوبة الفصحى فرّد بأن الحضارة الإنسانية لم تبن إلا بالجهد والعرق ولم تبن بالتهاون والكسل والنحو هو رياضيات اللغة، أما المترادفات فهي مصدر غنى وخصوبة، وإسقاط الإعراب يعني اللجوء إلى الطريقة العامية في التعبير، وهذا غير صحيح، لأن الإعراب هو لب فهم المعاني، وإلغاءه إلغاء للفصحى بتراكيبها ومعانيها ورهافتها الدلالية التعبيرية، والقول بالفصام اللغوي تدحضه تيارات الفلسفة الحديثة وعشرات الآلاف من الأبحاث التي تكتب باللغات الأوروبية يكتبها أناس ليست لغتهم الأم لغة أوروبية، أما القول بأن المتحدث بالعامية يركز على المضمون في حين أن المتحدث بالفصحى يفكر في الشكل فهذا كلام من يجهل أو يغالط كي ينتقد لا غير والدليل: إن الفكر هو الذي يسبق ثم تأتي اللغة والإنسان يفكر ثم ينطق، أما الادعاء أن الاكتفاء بالعامية يؤدي إلى السعادة يعد دعاية ليس إلا، لأن المتكلم في التلفزيون إذا كان يتحدث الفصحى فلا تعرف جنسيته، لكن إذا تحدث بالعامية فسيكون بمقدورك تحديده على الفور، ولا مانع من الاستغناء عن الفصحى في حالة سكن مع مجموعة لغوية صغيرة لا تمتلك لغتهم أي عمق حضاري، وهذا من باب التيسير والتسهيل. وهذا كله يقودنا إلى التخطيط اللغوي للحفاظ على الهوية الاجتماعية والقومية والسياسية للبلد المعني وخاصة عند تعدد اللغات واللهجات في البلد الواحد، ومن ثم كان تعلمنا للفصحى وتفهمنا لها هو الذي يوفر لنا هذا السلم. اللغة العربية ومواكبة الحضارة ناقش هذا الفصل اتهام اللغة العربية بعجزها عن مواكبة العصر، وأنها تصلح للناقة والسيف والحب والغزل، وليست مهيأة لاستيعاب هذه الحضارة بمنجزاتها العلمية ومخترعاتها الكثيرة. إضافة إلى أنها تخلو من المختصرات التي باتت سمة مهمة من سمات اللغات الأوروبية وتوفر على أصحابها الكثير من الوقت في الكتابة والتفاهم، وبالتالي دعا أنصار هذه الاتجاهات إلى إلغاء جمع التكسير والمثنى والبدء بالساكن وتركيب الكلمات وغيرها. وقد فند المؤلف هذه الأقوال بحجج علمية ناصعة البياض بقواعد مهمة أهمها: أن القاعدة النحوية هي مفتاح للاستعمال اللغوي، فاللغة سيدة والقاعدة خادمة، واللغة متبوعة والقاعدة تابعة، فإذا وجدنا أكثر من طريقة أو أسلوب يمكننا من معرفة اللغة التي أمامنا اختيار ماهو أيسر أو أشمل أو أدق مثل: تعدد الأوزان الكثيرة لصيغة منتهى الجموع وقاعدة: أن كل جمع تكسير بعد ألفه حرفان مثل: مساجد هي الطريقة الأيسر للفهم، ونبه المؤلف أن التقعيد يشمل النحو والصرف والأصوات، وأن القاعدة مستنبطة لامخترعة، والنحوي مصور بالكاميرا ينقل الواقع تحت مناهج معينة مثل المنهج الوصفي والمعياري ومبدأ عدم تفصيل لغة على أخرى، أما القول بعجز اللغة وأنها بنت الصحراء والسيف والناقة.. إلخ وهذا ينقصه ماجاء في لغة أخرى مثل اللاتينية التي أصبحت اللغة المشتركة للعالم المسيحي والأوروبي وإلى الآن مازالت ذات تأثير كبير، إضافة إلى أن العربية معروف عنها أنها استوعبت مجمل الحضارة الإنسانية من علم وفلسفة وتاريخ ..إلخ ولايحتاج إلى إثبات، أما القول بأن العربية تصح للشعر والتغزل بالحبيبة والعواطف فهذا مجانب للصواب، لأن ذلك يدل على الثراء وكثرة الشعر عند العرب إضافة إلى كتب التاريخ، التي تثبت أن العربية تصلح للتاريخ دون غيره وليست مخصصة في فرع معين، وهذه كلها اتهامات هلامية خالية من التحديد. أما الانتقادات الأخرى للعربية في هذا الفصل فردها المؤلف إلى علم اللغة التقابلي الذي يدرس أوجه التشابه بين لغتين أو أكثر تنتميان إلى عائلتين لغويتين منفصلتين كالعربية “سامية” والانجليزية “هندوأوروبية” ومن خلال هذه الدراسات ترفد الدراسات اللغوية بمعلومات لغوية يمكن أن تثريها وتساعد المتعلم على معرفة الفروق بين اللغتين لتجنب الوقوع في الزلل، وفي النهاية نستنتج أن العربية مليئة بجموع التكسير المتعددة وبالمثنى منذ القدم وأن العربية مليئة بالدلالات الحديثة والمورفيمات والمشتقات، ومن أجل ذلك لانجد موقفاً واحداً للعربية من الأشكال اللغوية الأجنبية يسوغ لنا الاعتقاد بأن العربية عاجزة أو تعبر تعبيراً مترهلاً عن المفاهيم أو المصطلحات الأجنبية وما المعاجم العربية إلا ثراء للعربية، والعربية الحديثة تتألف من زهاء”3” آلاف جذر. وفي الأخير أكد المؤلف أن اللغة هوية، وتراث، وتاريخ، وعمق حضاري، وليست بضاعة تشترى اليوم لترمى غداً. ربط الخيوط استخدم المؤلف معطيات علم اللغة الحديث والنحو العربي وعلم النفس والفلسفة لمناقشة الصورة الشاملة، وأكد أن هناك ممن يريد الشر للأمة العربية بحيث يوهمون أن الصورة في الغرب صورة وردية وأن العرب وحدهم موطن المساوئ كلها، وليست اللغة إلا جانباً من تلك المساوئ.. ولأن واقع الحال أنه “لا ضريبة على الكلام” فيمكن لكل حاطب أن يحطب ليلاً فيهرف بما لايعرف، ولا عقوبة على الرأي المحشو بالأكاذيب، فلم لايطلق لقلمه العنان، خاصة أن ما سيأتي بعد ذلك هو الشهرة التي ترضي النرجسية وهي أهم شيء ومن هذا يريدون أن يقودوا سفينتا إلى الهلاك والجهل والتمييز الخاطئ بدون دليل.. وختاماً: إذا كانت اللغة العربية تواجه التحديات الصعبة بدءاً من الهجوم والإساءة مروراً بالاتهام بالنقص واختلال النفسية العربية والالتجاء إلى العامية بدلاً عنها، وانتهاء باتهام العربية بالعجز عن مواكبة العصر، فهذا يدعونا إلى قهر الظروف القاتلة ومحاربة تلك التحديات جميعها، والبحث عن كنوز اللغة العربية لغة القرآن ومعرفتها حق المعرفة باعتبارها شرطاً لأداء العبادات التي لايجوز أن تؤدى إلا بالعربية ومعرفة أن القرآن عربي كما قال تعالى { قرآناً عربياً غير ذي عوج} ولانترك أحداً يعبث بتاريخها، مهما كلفنا ذلك من ثمن وبالله التوفيق.