… ظل الجدل سارياً بين كتّاب السرد حول الكتابة هل تكون بالعربية الفصحى ام باللهجة العامية ؟ وانقسم الكتّاب الى ثلاثة مذاهب , الاول ذهب الى الكتابة بالفصحى لأنها لغة الثقافة والارتقاء ونجد ذلك عند الروائي الراحل نجيب محفوظ رغم ان رواياته دارت في سراديب الحارة المصرية فالأقرب ان يكتب بالعامية لارتباطه بهموم العوام لكنه يرى ان هؤلاء العوام يجب ان يرتقوا الى الفصحى بدل ان يهبط الاديب الى لهجتهم الدارجة ، اما الفريق الثاني فرأى الكتابة باللهجة العامية لأنها السائدة والأقرب الى ثقافة القارىء العادي وهمومه، فالتعبير عن تلك الهموم يكون له وقع اذا جاء بنفس ألفاظ تلك الهموم ، اما الفريق الثالث فحاول الخلط بين هذين الرأيين وهو ان يكتب الاديب بألفاظ فصحى لكنها متداولة لدى العوام فيرتقي بلغته ويهبط الى قرائه…. وهنا اقف متسائلاً: ما هو المعيار الذي يحدد عامية اللفظ من فصاحته ؟ هل وجود اللفظ في قواميس اللغة كلسان العرب وتاج العروس وغيرها يجعله فصيحاً ؟ ام تحرر اللفظ من قواعد النحو بالتسكين اثناء تركيبه مع ألفاظ اخرى يجعله عامياً ؟ كم تحفل قواميس اللغة بألفاظ كثيرة قد اندثر استخدامها الى جانب ان ليست كل ألفاظ العربية محتواة في تلك القواميس انما ما استغرقه جهد المؤلف في جمع تلك الألفاظ ؟! اما قواعد النحو والصرف فتطبيقها يمكن ايقافه او اجراؤه فهل تتلون اللفظة بين فصيحة وعامية بذلك ؟ لا ريب ان الرسمية في محافل الفقهاء والنحاة اثناء التدوين في العصر الاموي هي التي هيمنت على تصنيف الألفاظ بين فصحى وعامية فدّون الفصحى منها متجاهلاً الاخرى التي لم تكن لغة الحوار الرسمي محافل اللغة الرسمية كخطبة الجمعة وشواهد الاشعار والآثار ، لكن هذا لا يمنع من وجود لهجة شعبية دارجة متحررة من كل تلك القواعد عاشت معاصرة للفصحى يتم التعبير بها وقد استطاعت تلك اللهجة النفاذ الى ادبنا العربي ومنْ يقرأ ألف ليلة وليلة او السير الشعبية كالزير سالم او عنترة او حمزة البهلوان او غيرها سيجد أثر ذلك .. وما حواراتنا اليوم في مجالسنا ومقايلنا واسواقنا الا امتداد لتلك العامية التي تناقلتها الاجيال المتعاقبة …. الطريق الى العامية نجد الألفاظ مرت بمراحل تدرجت فيها حتى صلت الى محكياتنا اليومية فسميت عامية لأنها لغة العوام مقابل الفصحى لغة الخواص ، فاللفظة اول عهدها قد تكون فصحى ثم لونتها البيئة وصبغتها بصبغتها كالنطق المغاير للاصل والتصحيف الذي يعتريها من ابدال بعض الحروف المتقاربة مثل القاف والكاف او الميم والنون وغيرها. ومن العامية ما هو فصيح في الازمنة السابقة لكن الذين صنفوا ان الفصيح هو لهجة قريش على الاعتبار السائد ان القرآن نزل بلغة قريش – وهذا قول فيه نظر- تركوا وراء ظهورهم لهجات العرب الاخرى المعاصرة للهجة قريش كهوازن وهذيل وتميم واسد وحمير وغيرها مما نطق بها القرآن نفسه ؟ وقد افرد الامام السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن فصلاً ( فيما وقع فيه – أي القرآن – بغير لغة الحجاز ) وعزا كل لفظ الى اصله غير القرشي مثل سامدون/ بعل/مراغم…. الخ ومن العامية جاء من لغات الاقوام التي غزت الارض العربية عبر تاريخها فاستمد منها العامة ألفاظا نطقوها بلسانهم العربي وكتبوها بالاحرف العربية كما هي او جرى لها تصحيف الى جانب ما ورثته شعوبنا العربية من ألفاظ حضارتها المنقرضة كالسبئية والفرعونية والسومرية وغيرها مما بقي في ذاكرة الاجيال… لهجتنا العامية وهنا اصل الى لهجتنا اليمنية العامية اين موقعها من مقاييس الفصيح ؟ الواقع ان عاميتنا - بمختلف اماكنها الجغرافية – لا تبتعد عن الفصحى كثيراً إلا من كلمات المستعمرين الذين غزوها من فرس وترك واحباش وانجليز وما خلفته حضارتنا الغابرة من الفاظ سبئية وحميرية وغيرها ، لكن هذا لم يمح عن لهجتنا العامية فصاحتها التي يستخدمه العوام دون ان درايتهم بذلك وهذا نموذج من هذه الألفاظ:- لفظة (طاقة) التي نقصد بها النافذة مأخوذة من (الطوق) المحيط بأي شيء ولعل شكل النافذة جعل العوام يعبرون بها بالطاقة ثم الحقوا التأنيث لها على غير قياس على غرار الفاظ كثيرة. لفظة (جشر ) أي كح هي فصحى وجاء في لسان العرب “ جشر أي اخرج انفاسه “ ورجل مجشور أي به سعال لفظة (حاسر) أي تعبان رغم ان مدلولها هو كاشف الرأس الا انها تأتي ايضا بمعنى التعب والاعياء وقد نطق بذلك القرآن الكريم. لفظة (شويع) هو اسم الفاعل او المفعول من شايع أي رافق وشيّع ايضا رافق الا نقول شيّعت الميت أي رافقته الى المقبرة ؟!. لفظة (بلس) أي تين وهي كلمة سبئية (بلسن) لكنها فصيحة جاء في اللسان “ البلس التين او ثمر التين والواحدة منها بلسة”. لفظة (قوارة) وهي كساء مدور يغطى به الخبز هي فصيحة مأخوذة من قوراء أي دائرية لأن التقوير مثل التكوير مثل التدوير كلها تدل على الالتفاف. لفظة (محواش) وهي اداة تستخدم لتحريك الطعام الحار على النار هي اسم آلة من الفعل (محش) و«امتحش الخبز أي احترق» جاء في الحديث «يخرج ناس من النار قد امتحشوا وصاروا حمما» وقال المتنبي: وشوق كالتوقد في فؤاد كجمر في جوانح كالمحاش والمحاش ما احرقته النار لفظة (مبرطم) وهو الغاضب والعابس جاء في اللسان “البرطمة عبوس في انتفاخ” لفظة (جدل) أي رمى جاء في اللسان «جدله فانجدل وفي الحديث انا خاتم النبيين في ام الكتاب وآدم لمجندل في طينته» والمجدّل الملقى على الجدالة أي الارض. هذا غيض من فيض الالفاظ التي ننطقها وقد احسن الشاعر الراحل / عبدالله البردوني في تدوين امثالنا الشعبية وردها الى اصلها العربي في كتابه «الثقافة الشعبية تجارب واقاويل» وكذلك ما قدمه الدكتور /عباس السوسوة في كتابه«دراسات في المحكية” من الفاظ عامية واصلها العربي».