سيكتب التاريخ متسائلا عن اليمنيين الذين هم صنّاع الثورات وقاهروا الظلم والاستبداد، كيف رضوا بالظلم على ذوي القربى وغضّو الطرف عن انتهاكات البعض ضد البعض الآخر، في الوقت الذي خرجوا للتوا من ثورة شعبية أرادوا منها إسقاط الظلمة والمستبدين واستعادة كرامتهم وحريتهم وحقهم في العيش الكريم. وسيذكر التاريخ في صفحاته السوداء أن عصابات القتل وجماعات العنف والتطرف نبتت في أوساط اليمنيين وترعرعت على غفلة منهم وتواطؤ نظام فاسد جثم على صدورهم لثلاثة عقود، لتؤدي دورها التخريبي ضمن مخطط مُعدّ يرمي لإسقاط اليمن في وحل الفتنة ودوامة الأزمات والعنف وصراعات الماضي السياسية منها والطائفية والقبلية والمناطقية، ليظل البلد حبيس قوى الشر وتحالفاتها الانتهازية المرتبطة بالأطماع الخارجية. وبالفعل فقد انغمست تلك الجماعات الإرهابية ذات الصلات المشبوهة بتحالفات قوى الثورة المضادة وشبكة مصالحها الداخلية والخارجية في مخطط القتل والتنكيل باليمنيين وإجهاض ثورتهم، وشرعت تحصد أرواحهم بلا هوادة، وتشردهم من قراهم وبيوتهم، وتلقي بهم في العراء ليعيشوا لاجئين في وطنهم على مرأى ومسمع من العالم، فيما عادت مجددا إلى استغفال اليمنيين ودعوتهم إلى التسامح والتعايش وفتح صفحة جديدة لا مكان لهم فيها، إذ شطبهتم منها وألغت دورهم فيها وأبقت عليهم مجرد رقم متصاعد في مخيمات اللاجئين. لا ندري كيف يستقيم حال هؤلاء الذين يحاولون تسويق مشاريعهم تحت عباءة التعايش ومزاعم المدنية والحداثة بل ويشاركون في مؤتمر الحوار، في ذات الوقت الذي يحملون السلاح ويتمردون على النظام ويُرهبون الشعب وينخرطون في مشروع التآمر ضد ثورته كمقدمة لتدمير الوطن وتمزيقه!! ويوما إثر يوم يتسع التهجير القسري لليمنيين، فمن دمّاج إلى كتاف إلى حجة فعمران والجوف وإب، وإلى كل مكان تصل إليه جماعات العنف والتطرف تلك، والتي استمرأت سياسة التهجير والأرض المحروقة في مواجهة كل من يرفض الخضوع لمشروعها الطائفي، وعوضا عن وقف تمدد وتغوّل تلك الجماعات المسلحة وإعمال القانون بحقها وحماية اليمنيين من عدوانها، تتقاعس الدولة- للأسف الشديد- عن القيام بواجبها، بل وتذهب إلى أبعد من ذلك حين تشارك في إجلاء رعاياها مكرهين إلى مخيمات النزوح وكأنهم ليسوا يمنيين مسئولين منها! وهو ذات الموقف المتخاذل والمريب الذي وقفته للأسف الكثير من منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في اليمن وخارجه، والتي آثرت الصمت وتماهت مع سياسات مشبوهة تصنع في الخارج، ونسيت ما كان يفترض بها القيام به تجاه مثل هذه المأساة الإنسانية التي هي من صميم عملها الحقوقي والأخلاقي والإنساني. إن مشاهد الجلاء والتهجير القسري التي رأيناها خلال الأيام الماضية لأهالي دمّاج وهم يخرجون بالآلاف من ديارهم في ظل عجز وخذلان رسمي محير أقرب للتواطؤ، تلك المشاهد المؤثرة لأولئك اليمنيين وهم يحملون أمتعتهم ويغادرون صوب المجهول فيما العالم يقف متفرجا، تُذكرنا بما حدث لإخواننا الفلسطينيين منذ نكبة 48 ونكسة 67، وما يجري لهم إلى اليوم من بطش وتنكيل وإجلاء قسري من مدنهم وقراهم، وتهديم لبيوتهم على أيدي قوات الاحتلال وعصابات الاستيطان التي تستولي على أرضهم بالقوة لتحيلها إلى كانتونات استيطانية تتكاثر كالسرطان. تلك المشاهد المخزية والمؤلمة ستنطبع في ذاكرة اليمنيين لأجيال، وربما لن تُمحا من ذاكرتهم السياسية إلى الأبد، وهي تشي بخطورة ما تخبأه الأيام لهم من مزيد انتهاكات وإرهاب من قبل جماعات العنف وعصابات القتل وغلاة الطائفية والمذهبية من ذوي المشاريع الصغيرة الذين ما عاد لهم من عمل عدا تأجيج الصراعات وإيقاظ الفتن والنعرات وتمزيق الوطن والتفريق بين أبنائه، تلك هي مهمتهم وذاك هو مشروعهم. لكن ومع كل ذلك، فإن جماعات العنف والتطرف تلك لا مستقبل لها في هذا البلد، وتلك حقائق التاريخ التي لا مراء فيها، وسواء طال الزمان أو قصر فسوف يستعيد اليمنيون زمام المبادرة وينقشع غبار الزيف وتزول الغشاوة عن أعين المخدوعين، وكما أطاح اليمنيون بالطغاة والمستبدين عبر العصور فهم قادرون كذلك على فعل الشيء ذاته مع المجرمين والقتلة والخارجين عن النظام والقانون. المحرر السياسي