يظهر أننا أمام نوع جديد من الثورات، قد سيطرت الثورات العسكرية أكثر من نصف قرن، والثورات العسكرية سنقول فيها كما قال الله في الخمر والميسر: (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) البقرة. وسنستقبل من الآن الثورات الشعبية، قوات ليس فيها طائرات ولا مدافع ولا دبابات، بل ولا حتى بندقية، فيها فقط المظاهرات ومواصلة ذلك حتى يتحقق المطلوب، هكذا علمتنا ثورة تونس، ثوار لا يريدون سفك دماء ولا تخريب ولا تدمير ولا إتلاف أي ممتلكات وإذا سقطت ضحايا في مثل هذه الثورات فإنما ذلك من قبل الطاغوت الذي هو صورة من الماضي المرير، الطاغوت الذي ما زال يحاول فرض نفسه بالقوة ويتشبث بالبقاء. وهنا نقول: وداعا للثورات العسكرية التي جعلتنا في أغلب الأحوال نندم على مفارقة الماضي.. ولا نقول ذلك اتهاما لهذه الثورات، ولكن لأن الرياح في أكثر الأحوال تجري بما لا يشتهي السفِن، السفِن بكسر الفاء أي الذي يسير السفينة، هذا إذا أحسنا الظن بهم، أما إذا فحصنا الأمر جيدا فقد يظهر غير ما رآه الناس على السطح، وفي الحقيقة فإن كتابة التاريخ، تاريخ العصر الذي نعيش فيه، وكل ما نقرأ، فإنما هو صادر عن أناس هم جزء من الحقبة التي يكتبون عنها، وإذا كان لم يظهر كتاب إلى الآن يكشف حقيقة هذه الحقبة التي نعيشها، فلا يسقط ذلك، فإن أكثر من ألف سنة في تاريخ اليمن لم تكتب حتى الآن الكتابة التي تكشف حقيقتها، ولعل في ثورة تونس ما يفاجئنا بأشياء ما كنا نعرفها ويعري أنظمة كانت مغطاة على الناس. إن اللحظات الأخيرة قبل سقوط حاكم تونس وفراره بجلده، فقد حاول أن يسترضي شعبه الغاضب، وقال: الآن فهمتكم واعتذر بأن مستشاريه قد خدعوه، وتعهد لهم بأنه سيعمل ويعمل وأكد أنه لا جمهورية للأبد وهؤلاء الذي قال بأنهم غشوه وخدعوه، لو أن شخصا قال له وهو مازال في عنفوانه قال له: بأنهم يغشونك ربما سيساق إلى السجن. كشفت الثورة بأن أشخاصا كانوا مسجونين منذ عشرين عاما، والأستاذ راشد الغنوشي الذي أمضى عشرين عاما في المنفى في بريطانيا، هذا الأستاذ الذي كان متهما من بعض الإسلاميين بأنه منفتح أكثر من اللازم، هذا لم يرض عنه طاغية تونس ولم يسمع له، ولم يجد في وطنه موطن قدم، وكأنه قد خلق في بلد ليعيش في غيره هكذا قضى الطغيان، وهكذا حكم على شعبه، وفي لحظة انفجر شعبه ولم يبق له في تونس مواطن قدم، بل سارع إلى الهرب قبل أن تحيط به الجماهير.