في الأسبوع الأخير من شهر يوليو 1990 كنت مرافقاً لوالدي أحمد النعمان وصديقه الشيخ علي محمد سعيد أطال الله بعمره في رحلة علاجية إلى الولاياتالمتحدة، وفجر الثاني من أغسطس بدأت الأخبار تتوارد عن غزو الجيش العراقي لدولة الكويت ولم أفلح في إقناعهما بصحة الأخبار وكانا ينكران لأنهما لم يقدرا على تقبل فاجعة مزلزلة لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف كان، وفي وقت لاحق اتصل النعمان بصديقه الوفي الشيخ عبدالعزيز التويجري إلى الرياض فأكد له الخبر وإن القيادة السعودية ستنتقل إلى جدة لمتابعة الحدث. بعد أن أصبح الخبر يقيناً كتب النعمان بخط مرتعش برقية إلى سمو الراحل الشيخ صباح الأحمد أمير دولة الكويت قال له فيها (لا أملك إلا الدموع في هذه اللحظات وأتذكر ما قاله نجيب محفوظ: أتحدى إسرائيل أن تفعل بنا بعض ما نفعله بأنفسنا)، وتفاصيل الحدث وما صار بعد ذلك معروفة ومتروكة للمؤرخين والذين عايشوا لحظاته، ولابد أن الوثائق والمراسلات – وقد اطلعت على بعضها – ستكشف يوماً كم حاول عبثاً قادة المملكة وقلة فيها من الذين كانوا مؤثرين في صنع القرار والراحل العظيم الشيخ زايد بن سلطان تقديم كل المغريات لإقناع صدام سحب جيشه من الكويت إنقاذاً للعراق وتفادياً لدمار نفسي ومادي هائلين أدركوا أنه سيلحق بالعرب ولكن الغرور قاتل والعناد مهلكة. عاشت الكويت بعد الغزو وبعد التحرير صدمة نفسية من هول ما حدث وكانت عصيبة الأشهر التي قضاها من كانوا في الخارج وأشد قسوة على من لم تسمح ظروفهم بالخروج أو فضلوا البقاء بالداخل، وامتدت ردة الفعل لفترة طويلة لأن ما جرى كان خارج المعقول والمقبول والممكن، وانطوى الكثير من الكويتيين على أنفسهم ونفروا من كل ما يمت للعروبة بصلة وأصبح من الصعب أن يجد المرء وسيلة كي يشرح أو يفسر أن تصرفات ومواقف بعض الحكومات تجاه الغزو ما كانت معبرة عن رأى الناس، وكان من العسير على أي حكومة كويتية تجاوز انفعالات الرأي العام وأحزانه. كانت الكويت متفردة قبل الغزو بكونها القوة الناعمة في المنطقة ولعبت أدواراً كلها إيجابية لمد يد العون للجميع دون انتظار شكر ولا جزاء، وعمل أمراؤها جميعاً على أن تكون بلادهم محطة للتصالح والتوافقات بين المتناحرين في كل قُطْر عربي أصابته لوثة الثورية ومصائبها، ولكنها انسحبت من لعب هذا الدور الذى كان يمنحها بريقها ويميزها عن غيرها تحت ضغط عدد من أعضاء مجلس الأمة وعدد من إعلاميين بارزين رفعوا راية القطيعة مع الأمة العربية، وهنا ظهرت حنكة القيادة الكويتية وقدرتها على التخفيف المتدرج من حدة المواقف المتشددة، وكان وجود شخص بحكمة وتجربة وقدرة وقيمة الشيخ صباح الأحمد حين كان وزيراً للخارجية العامل الأكثر حسماً في هذا التوجه فبدأت الأجواء بالعودة إلى طبيعتها وعادت الكويت للعب الدور التاريخي الذي يعرفه كل عربي وكل يمني على وجه الخصوص فأياديها البيضاء على اليمنيين مرسومة في ذاكرتهم سواء من درس في المدارس التي أنشأتها أو المستشفيات والمصحات التي مولت تعميرها وأدارتها أو المنح الدراسية للطلبة في جامعاتها ومدارسها. في 25 فبراير 1991استعادت الكويت سيادتها على أرضها.. أما اليوم فقد تجاوزت غضبها وحزنها وعادت قوة ناعمة قادرة على مد يد العون لأشقائها وتحفيز روح التصالح بينهم والمساهمة في استعادة السلام في أوطانهم، ودولة مثل الكويت عرفت ويلات الحرب والدمار لابد أن تواصل جهودها لوقف النزيف والشقاق في المنطقة. الراية (وكيل وزارة الخارجية اليمنية سابقا) .. لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet