خلال العقود القليلة الماضية، بدأت الديمقراطية تشق طريقها على استحياء إلى منطقتنا العربية، حينها كان المنظّرون يحذّرون بإلحاح شديد من أن الديمقراطية سلاح ذو حدّين، حدّ يدافع عنك وعن مصالحك وحدّ قد يصيبك في مقتل. كان حال هؤلاء المنظّرين المتوجّسين كمن يصرخ في واد. فُرضت ديمقراطية الغرب على بعض الدول العربية واستجلبتها دول عربية أخرى كشعار فضفاض لإرضاء الأنا والخارج وليس كممارسة صادقة. وتشكّلت على هذا الأساس المؤسسات الدستورية والأحزاب والمنظمات الجماهيرية تحت مختلف المسمّيات الديمقراطية، وسارت جميعها ومنذ الوهلة الأولى في الإتجاه المعاكس لمسار الديمقراطية الحقّة، بل تبعت نفس النهج الذي وصفه ابن خلدون الحضرمي في مقدمته قبل قرابة سبعة قرون، حينما قال " إن العرب لا يصلون إلى سدة الحكم إلا عن طريق عصبية النسب أو عن طريق الدّين". ضلّت هذه الديمقراطية طريقها وآلت الأمور إلى ما آلت إليه اليوم وعلى كافة الإصعدة. فعلى الصعيد السياسي، إنتهت العمليات السياسية في معظم هذه البلدان كالعراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين والصومال ومصر والسودان وليبيا والجزائر إلى صدام مسلح بين الفرقاء السياسين، صراع ما زلنا نعيش فصوله المأسوية حتى يومنا هذا. وهذه نتيجة متوقعة، ففي ظل الديمقراطيات الغربية رغم عيوبها وجوانب القصور التي تعتريها كما يحلو للبعض تصويرها على أنها ديمقراطية مرهقة ومكلّفة تنتهي دوماً بإستبدال الكوكا كولا بالبيبسي، إلا أن النخب السياسية فيها تلتقي حول غاية واحدة وهي بناء مجتمعاتها وازدهارها ورفاه شعوبها وإن اختلفت حول الفكرة والوسيلة فإنها تعمل على تحقيق برامجها البنّاءة من خلال السلطة ومن خارجها، وإن حصل وحادت عن النهج المطلوب وقف لها القضاء والإعلام والنقابات والشارع بالمرصاد. بينما تسعى النخب السياسية العربية للوصول إلى السلطة من أجل السلطة فحسب أو الدوران في فلكها، وإن جاهرت باختلاف الفكرة فلا تمتلك سوى وسيلة التدليس أو العنف والإستقواء وحمل السلاح لتحقيق المكاسب. وتتسم جميع هذه النخب بخاصية التمدد أمام الإمتيازات والإنكماش أمام المسؤوليات. على الصعيد الإقتصادي، تمارس النخب السياسية الحاكمة والمعارضة في هذه الدول التي تعيش ديمقراطية مشوهة أسلوباً هدّاماً في إدارة العملية الإقتصادية لا يقوم على برامج ناضجة ومدروسة على المدى المتوسط والبعيد، بل يعتمد على وسائل ومشاريع آنيّة لإثراء شريحة براجماتية مستغلّة على حساب مكتسبات ورفاه وصحّة عامة الشعب. ولا تتوانى هذه النخب في التشجيع على الفساد المالي والإداري والتغاضي عنه بل والتصالح معه بغية تهميش ومواجهة القوانين النافذة. أمّا على الصعيد الإجتماعي فقد خلّفت هذه الممارسة المشوّهة للديمقراطية آثاراً بالغة الخطورة على النسيج الإجتماعي والعيش المشترك، فطغى على السطح صراع حزبي محتدم، واقتتال طائفي ديني مرعب، وتناحر مناطقي مخيف وفوضى لا حدود لها. كما تركت هذه الممارسات بصماتها على الإسهام المجتمعي ودوره في عملية التّنمية والبناء والتطوير، فظهور شريحة منتفعة وفاسدة اختزلت المراحل والزمن في الوصول إلى الثروة والجاه، هَزم الطّموح البنّاء لدى الكفاءات والشباب، أصيب البعض بالإحباط ولجأ آخرون إلى الهجرة أو التطرّف أو الإنحراف، ومنهم من أغراه هذا السلوك وسعى لتفريخ المزيد من هذه الكيانات التي تمارس ثقافة الهدم بمعول الديمقراطية. وأمّا القلّة القليلة الباقية الطامحة والقادرة على التغيير الإيجابي فقد حوربت من الجميع وحجّمت. في ظل الديمقراطيات الإيجابيّة البنّاءة حيث العمل أبلغ من القول، لا يتباهى الأشخاص بانتمائهم السياسي وخاصة في مقار أعمالهم أو في حياتهم اليوميّة، يُقيّمون النخب السياسية من خلال الأداء ومستوى الرفاه والإنجاز الذي تحققه، ويعبّرون عن غضبهم واستيائهم عن طريق الإضرابات والمظاهرات المؤطّرة، لا يؤمنون بالإنتماء الأعمى، فنجد من الشائع أن يصوت أشخاص ذووا توجهات يسارية لمرشحي اليمين والعكس صحيح، إذا ما اقتنعوا بالبرامج الإنتخابية المطروحة وصدق النهج. وتتم عملية الإدلاء بالأصوات أثناء الإنتخابات بسلاسة ودون ضجيج، وتعدّ من الخصوصيات لا يفصح عنها إلا للمقربين جداً، وعندما يطلعك شخص لمن أدلى بصوته فإنّه يعدّك من الحلقة المقرّبة جداً منه. نأتي إلى بلداننا العربية، وخاصة لدينا في اليمن، فكل من له انتماء سياسي فهو يجاهر به في الجامعة والمسجد ومقر العمل وفي المجالس والمقاهي وعلى شبكات التواصل الإجتماعي وحتى في الشارع وبطريقة استفزازيّة مبالغ فيها، ويدافع باستماتة عن سلوكيات حزبه وجماعته الخاطئة منها قبل الصائبة، حتى لو كان يتضوّر جوعاً ويلتحف الخوف. وأما الأحزاب أو الجماعات ذات السحنة الدينية، فعلاوة على تقاسمها دور العبادة ومناطق النفوذ، فلن يحتاج المرء إلى فراسة التمييز، فهيئة الإخواني تختلف عن هيئة السلَفي، ولا تجد صعوبة تذكر في معرفة من ينتمون للطوائف الشيعية أو أولئك الذين يدّعون انتماءهم لتنظيم القاعدة ومشتقّاته. هذا السلوك يشجع بل يفضي حتماً إلى التشرذم والتصادم وإلى الطائفية المذهبيّة والتحزّب الأعمى والغلو وجميعها تتعارض مع النهج الديمقراطي السليم والتسامح الديني والمواطنة المتساوية والعيش المشترك، ويشكل قنبلة عنقودية موقوته انفجرت في بعض البلدان كالعراق وسوريا ولبنان واليمن وما زالت قابلة للتشظّي. ومع أنّ تاريخنا العربي والإسلامي مشبّع بهذه العثرات التاريخية إلّا أننا لم نتّعظ وما زلنا نقع في نفس العثرات بل ونستدعيها. وكي نخرج من هذا النفق المظلم، فلا بدّ من جلد الذات وإعادة النّظر في هذه الديكتاتوقراطية التي تتكئ على الكلاشينكوف وتغلّب العنف الفكري واللجوء للسلاح لفرض الرؤى، تغيّب القانون، وتُعلي من شأن المغامرين والظواهر الصوتية على حساب رجالات الدولة والفكر وتقف حائلاً أمام تكافؤ الفرص ولا تحمي حقوق الضعفاء من أطماع ذوي النفوذ، وفيها من المساوئ ما لا يتسع المجال للسرد. لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet