(5) وتنحدر النخب الثقافية والسياسية قبل تصنيفها إلى يمين ويسار وهلم جراً من الطبقات الاجتماعية القديمة والجديدة والمستمرة في التلاقح والتداخل من حيث ثقافتها الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية والبدوية، وهي في حنين معبر عنه باطنياً ومخزوناً في قعر الذاكرة، ومعلناً عنه عند إثارة النزاعات بين الأطراف الغالبة والمغلوبة، وهذه الطبقات الاجتماعية يمكن القول بأنها أيضاً فسيفسائية تطوي تحت إبطها القيم الماضوية التي تشد النخب التي تعجز عن إدارة خلافاتها وصراعاتها بأساليب حضارية إلى متنها وتحولها إلى قوى متغولة تختطف كل ما هو قيمة إيجابية وتوسخها عمداً مع سبق الإصرار والترصد. وتم تقديم دراسات عن التركيب الطبقي والاجتماعي للأحزاب والتنظيمات السياسية التي ظهرت في فترة انتعاش الفكرة الشوفينية (القومية) في ألمانيا وأوروبا، والتي حاولت غزو المنطقة لتغيير تقاسم العالم بين الأقطاب التي أنتجتها الحرب العالمية الأولى، ولم تكن للتحديدات الاشتراكي أو الشيوعي للتركيب الطبقي أي نصيب من الصحة؛ لأن الواقع الموضوعي لم يستطع استيعاب هذه الدراسات التي أريد لها أن تطبق على واقع اجتماعي وثقافي مغاير للحالة الروسية والحالة الأوروبية. والسؤال هو هل هذه الظروف الموضوعية التي حملتها حقة الاحتلال العسكري الأجنبي والرياح السياسية والفكرية التي حملت الفكر اليساري وفرت الشروط الضرورية لتكن ركيزة لنشوء اليسار؟ وهل هذا اليسار كان انعكاساً للوجود الاجتماعي المحلي أم كان انعكاساً سلبياً لذرات الرياح الفكرية التي هبت من الاتحاد السوفيتي؟. من وجهة نظر محددة لنشوء وتطور الظاهرة الحزبية في المنطقة فإن ذلك كان يصب لمصلحة قوى الحداثة الناشئة بكل فصائلها أو مكوناتها، وهو بنفس درجة الحرارة لمصلحة تخليع ضروس العلاقات الإقطاعية والاستعبادية الأكثر استبداداً والأمقت تعصباً وتمييزاً اجتماعياً وعنصرية. ومن وجهة نظر منظري اليسار القديم والذين خاضوا معارك الخلافات فيما بينهم وبين قوى حركة التحرر الوطني، وخاضوا الصراع مع قوى الإقطاع ونخبها السياسية والثقافية، وبسبب مد الاتحاد السوفيتي والتغيير السافر في موازين القوى والقوة العالمية فإن الحقائق التي نجمت عن هذه التجربة هي حقائقهم الثابتة والمسلم بها وهي اتسمت بالحتمية، والتي كان من الصعب حلحلتها من متارسها الأيديولوجية، هؤلاء المنظرون الذين سبحوا في بحر الأيديولوجية المشوهة، رغم الانكسار والتراجع والانهيار لتجربة الاشتراكية كسلطة (نظام أساسي) مازالوا يتدفأون ببقايا معطف الأيديوجية. إن منظري اليسار الذين ظهروا كصدى للمدارس الأيديولوجية الاشتراكية القديمة امتلكوا قدرة هائلة لإحراق القوانين الموضوعية والشروط الاقتصادية والاجتماعية لظهور المجتمعات الطبقية المحددة والواضحة، وقدرة هائلة لإحراق المراحل التاريخية التي قطعها المجتمع البشري منذ البدائية وحتى عصر الرأسمالية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. والمدارس التي غزت مثقفي الطبقة الوسطى المرتبطة ثقافياً بروابط الريف في المنطقة الناطقة باللغة العربية هي: المدرسة السوفيتية، وهي التي هيمنت عليها التنظيرات والممارسات السياسية للسلطة المطلقة لجوزيف ستالين، والذي اختصر الطابع الإنساني للنظرية باجتهاده الذي خدم ويخدم سيطرة الفرد القائد والزعيم التاريخي، وهذه المدرسة قفزت على السياسة الاقتصادية التي طرحها (لينين) والتي كان يهدف من خلال تطبيقها إلى تجاوز الرأسمالية المتخلفة الروسية إلى بناء قاعدة مادية تكنيكية تستطيع تقديم الأفضل للطبقة العاملة وحلفائها الاجتماعيين، وهذه المدرسة بسطت نفوذها على الكيانات الحزبية في هذه المنطقة ليس فقط لأنها ذات قوة عسكرية عظيمة بل لأنها المدرسة التي امتدت تجربتها منذ 1917م وحتى ظهور المدرسة (الماوية) أو الصينية سنة 1949م، وكان هذا الزمن هو زمن نهوض قوى حركة التحرر الوطني. وظلت المدرسة السوفيتية هي الأكثر سيطرة على الأحزاب الشيوعية. رابط المقال على الفيس بوك