"مرور عام على وفاته" حتى الاحبة الذين نفتقدهم في غربة الوطن المشطور، لا نستطيع ان نراهم ونلقي عليهم نظرة وداع!! يا إلهي!!.. ما الذي تفعله به بنا هذه اللعنة التي ترفض مغادرتنا؟ ليتك خلقت لنا قلوبا من الصَوّان.. حتى نتجرد من احاسيسنا فلا نشعر.. لا نحس.. لا نئن.. لا نذرف لفقد اعزاء.. ولا نتألم لوداع.. بل حتى لا نأبه لهذا الموت اليومي.. ولا نكترث لكل هذا القتل العدمي العبثي بين المرء واخيه في الدين والعشيرة والوطن.. ولا نبالي بجار يتجرأ على جاره ليصنع كل هذه المآتم!! رحل عرفات.. هكذا سمعت.. لم اتمالك.. ذرفت بلا شعور.. وسرعان ما تداعت ذكريات الامس بحلوها ومرها.. منذ اول لقاء جمعني بك.. هل تذكر ياصديقي؟؟ كان ذلك في بدء التسعينيات وفاتحة دراستي الجامعية وعملي الصحفي.. كنتُ مناوباً في صحيفة الوحدة منهمكا بتصحيح موادها وإقفال صفحاتها.. اوشكنا على الطباعة.. فإذا بشاب اسمر نحيل.. في عينيه الغائرتين مسحة حزن وخجل، وبؤس ابن الريف المكابد.. يُقبل نحوي بابتسامة هادئة، يناولني خبراً بخط يده من منطقة المنصورية بالحديدة : - فين الاخ توفيق؟؟؟..التفت اليه: من انت؟؟ - عرفات مدابش الاهدل.. مراسل صحيفة الوحدة في الحديدة - تشرفنا.. لكن لدينا مراسل معتمد للحديدة.. ماينفعش اثنين مراسلين لمدينة واحدة!! - اقبل رئيس التحرير مقاطعا: لا بأس.. فليكن عرفات مندوب خاص بمنطقة المنصورية من الحديدة! - قلت: إذن هو قادم من طرفك؟ - اجاب: هذا شاب مكافح ونشيط، من شباب الاشتراكي بالحديدة وسيكون له مستقبل.. خذ الخبر وطلعه في ص2.. ضروري يطلع اسمه من هذا العدد لنشجعه.. ومن الان انت المسئول عن استقبال مواده لثقتي بك.. وانتبه أي حد يضيعهن! بحثنا عن حيز مناسب لخبر عرفات.. ومن يومها استمر يوافيني بتغطياته.. وكنت حريصا على مواده لخلق توازن! كان رئيس التحرير الحبيشي ربما يتوقع حساسيات من مراسلنا المعتمد في الحديدة، أو ربما مضايقات سياسية.. فمن النادر ان تجد شابا اشتراكيا آنذاك في محافظة شبه مغلقة كالحديدة.، وهذا ماحدث فعلا.. فأحياناً كنت اواجه احراجات واعتراض على اخباره بسبب الحساسيات الحزبية انذاك، لدرجة ان البعض في هيئة التحرير اذا رأى اسمه في صفحة كان يقوم بنزع خبره.. فأقوم باعادته في الخفاء ونشره، كالتزام مهني، باعتبارها صحيفة رأي ورأي آخر.. وكان يوقّع اخباره بلزمة (عرفات مدابش- المنصورية) كي لا يتصادم مع مراسلنا بالحديدة، ويوافيني في كل عدد كي لا يغيب اسمه، مقابل اجر لايسمن ولايغني، الى ان اندلعت حرب صيف94 المشئومة، فاختفى اسمه من صحيفتنا وتغيرت سياستها، لكنه ظل يظهر في صحف اخرى (كالثوري) فقد غدا مندوبها لتغطية جلسات البرلمان، وهناك ايضا لاحقته المتاعب! بعدها التقيته مرتين: الاولى في جامعة صنعاء اثناء دراستي بعد الحرب، اخبرني انه يحاول الاستقرار بصنعاء ومواصلة مؤهله الذي لم يستطع اكماله بعد الثانوية بسبب ظروفه البائسة.. والثانية بعد سنوات في اذاعة صنعاء، اثناء دوامي في احدى الورديات بعد 2000 تقريبا.. كان اللقاء حميمياً.. سألته عن سبب تواجده في الاذاعة، اخبرني انه يقوم هذه الايام بتدريبات على فنون الالقاء الاذاعي.. لم يفصح لي عن سبب تدربه بهذا المجال رغم ان عمله في الصحف.. لكن فيما بعد سمعت صوته ذات ليلة في اذاعة (سوا).. أدركت انه اصبح مراسلها.. وانه استقر في صنعاء مع عائلته في منزل ايجار بالمدينة السكنية سعوان.. ومن يومها صار التواصل بيننا شبه شهري، تارةً في منزله مع صديقه نبيل الكميم واخرين، واحيانا في فعاليات ومؤتمرات صحفية.. كنت اشعر بسعادة وانا ارى صديقي العصامي الطيب يتطور بخطى متسارعة مهنياً ومعيشيا.. فقد انفتحت له مع راديو (سوا) آفاق واسعة.. اصبح يتعامل مع الخبر بشكل يومي.. وأطلق موقعا اخباريا مبكراً بعنوان (التغيير نت)، نصحته ببعض اللمسات لتغيير شكله السابق، وباسم الموقع كان يقيم ندوات شبه شهرية مع مأدبة غداء او عشاء، بدعم خيري من منظمة وقفية غربية مستقلة تدعم الحريات في البلدان الناشئة، ويحرص على حضوري، ربما لما يحمله لي من ذكريات البداية.. الى ان فاجأني بأنه صار مراسلا مساعدا لصحيفة (الشرق الاوسط) اللندنية بتحقيقات اسبوعية، ثم مراسلا يوميا، بجانب راديو سوا.. وسرعان ما تحول منزله لخلية نحل واتصالات لا تتوقف، وظل مثابراً ومحبا لزملائه وعلاقاته الواسعة.. حتى عندما تعرض قبلها لحادث مروري مروع ونجا من الموت باعجوبة مع زملاء، تعرض لرضوض وكسور شاملة اقعدته لاسابيع وكلفته خمس عمليات داخل الوطن وخارجه في المفاصل والعمود الفقري، ورغم ذلك فاجأنا في احد المؤتمرات بحضوره على عكاز ين يحملانه بصعوبة، ليمارس عمله قبل ان يتماثل للشفاء.. عاتبته بشدة على تهاونه بصحته.. فأفاد انه لا يريد ان يشعر بالعجز ولا يحب نظرات الشفقة والبقاء في المنزل.. وفعلاً.. هزم العجز بالعمل.. وقاوم الاحباط بالارادة.. وحافظ على لقمة عيشه وكسب احترام الجميع، فقد ظل عمله لشهور بالعكاز مثار تقدير واعتزاز . آخر ايامه في صنعاء، كنا على تواصل وتعاون منذ بدء العاصفة المشئومة.. كانت بعض اخباره تثير حفيظة الحوثيين، وكنت احاول ان اجعل صياغته متوازنة، لكنه كان قد حدد موقفه، لأن البعض اتصل يستفزه بحضوري، شعرت بأن وضعه مع الوسيلتين حساس جداً، فمن سوء حظه ان احداهما سعودية (الشرق) والاخرى امريكية (سوا)!! وماهي الا ايام حتى حزم امتعته وغادر، على وعد ان نلتقي عندما تهدأ النفوس.. وظل بين القاهرة وعدن، وهناك حصل على منصب وكيل لوزارة الاعلام ضمن درزن وكلاء، وهو الذي لم يسعى لأي منصب او وظيفة حكومية.. ولم يفرح به كثيرا، فقد داهمه القلب، وغادر قبل اوانه.. ليترك غصة في حلوقنا.. وإني لفراقه لمحزون! "نشرت في 13 نوفمبر 2017"