في عام 1996، أتيحت لي ولمجموعة من الزملاء الدّارسين في قسم العلاقات الدولية والترجمة في جامعة استراسبورغ الفرنسية، زيارة مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل لاطلاعنا على مرفقاته ومكوناته وطبيعة العمل فيه. إحدى المحاضرات التي ألقيت علينا كانت بعنوان "المهام المستقبلية لحلف الناتو" والتي كانت تتمحور حول فكرة إعادة تكييف مهام الحلف الذي لم يعد لبقائه داع أو مبرر بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ومعسكرها الشرقي، ونية الدول الكبرى للإبقاء عليه لمواجهة الخطر القادم من الشرق، وتحديداً من الجماعات الإسلامية المتطرفة. تولّد لدي شعور وهميّبأن الكلام كان موجهاً لي وبأن نظرات زملائي ترمقني بعين الريبة والشك، كوني كنت المسلم الوحيد، وكانت الأهوال القادمة من الجزائر على وجه الخصوصوبشاعة المناظر الدموية التي كنا نشاهدهامعششة في أذهان الجميع. وقبل أن تختتم المتحدّثة الفرنسية محاضرتها، التي طالت دهراً بالنسبة لي، وتفتح باب النقاش، كانت يدي مرفوعة لأطرح عليها سؤالاً كاد أن يلتهمني. كان سؤالي يعبر عن دهشتي الصادقة ومن قبيل حسن النيّة. قلت لها "هل يُعقل بأن يكون الهدف الرئيس من الإبقاء على الحلف بهيلمان أعضائه وقوته العسكرية وترسانته الحربية لمواجهة جماعات إسلامية متطرفة هنا وهناك، ليس لها وزن ولا حول لها ولا قوة". أصيبت بالارتباك قليلاً وهي تحاول إقناعي والحاضرين بأمر ما زاليتكوّر في رحم المستقبل، وأسهبت في إعادة سرد سيناريو تطور هذه الجماعات واتساع رقعة انتشارها وقدرتها المستقبلية على ضرب أهدافها في أوروبا وأمريكا. لم نكن حينها على اطلاع على نظرية "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" للمفكر السياسي والاجتماعي الأمريكي فرانسيس فوكوياما، الذي خلص في عام 1992 إلى أنّ قيم الديمقراطية الليبرالية ومبادئ الليبرالية الاقتصادية يمثلان قمة هرم التطور الإيديولوجي للإنسان، وتنبأ بانتصار الفكر الليبرالي وتربّعه على عشر العالم دون عناء لعدم وجود بديل يستطيع تحقيق رفاه أفضل للإنسانية. وعلى الرغم من أن ما في هذا الطرح ما يدعو لزهو الغرب بانتصار ايديولوجيته، إلا أنّه لم يرق لدوائر صنع القرار في الغرب المعروفة بالدهاء والمكر، لأنه يمثل عبئاً أخلاقياً والتزاماً سياسيا واقتصاديا واجتماعياً لتحقيق رفاه فعلي للإنسانية، وهي لا تقدر على تحقيق ذلك ولا ترغب فيه ، فتمّ الإيعاز إلى أستاذ فوكوياما، صمويل هنتنغتون، الذي فنّد رؤية فوكوياما، عام 1993بمقال، تحوّل إلى كتاب قبل أن يتخذ شكل نظرية،كونية مدوية، تحت عنوان "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي". ذهب هنتنغتون بأن نهاية الحرب الباردة أسدلت الستار على النّزاع الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية بتفوق الأولى، لكنّها، في الوقت ذاته، شرّعت الأبواب مفتوحة أمام صراعات ستكون أشدّ ضراوة ولا تقوم على الاختلافات السياسيّة والاقتصاديّة، بل على الاختلافات الثقافيّة والدينيّة التي ستتخذ منها محركاً ومبرراً رئيسيّاً لها. تهدف هذه المقدمة الطويلة للإشارة فقط إلى أنّ القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا تجد دوماً الأدوات والمبررات لتنفيذ مشاريعها واستراتيجياتها العابرة للحدود. كانت خلال الحقبة الاستعمارية تروج لمشاريعها الاستعمارية بأنها ذهبت حاملة رسالة إنسانية للإسهام في "تمدين الشعوب البدائية المتخلفة"، وها هي اليوم تستخدم نفس الذرائع وتدعي بأنّ مبادئها تمثل قمة هرم الإنسانية مما جعلها محل حقد ونقمة وتهديد دائم من قبل قوى الشر الغاشمة. وفي هذا دلالة واضحة على أنها لا تستطيع البقاء دون عدو حقيقي أو وهمي حتى لو اضطرت لصناعته. وهذا ما عملته مع الجماعات الإرهابية التي تنسب نفسها للإسلام زوراً وبهتاناً وهي لا تمثله لا من قريب ولا من بعيد، وليست سوى مجاميع إجرامية دموية لا تمت للدين ولا للأخلاق الإنسانية بصلة. الدوائر الغربية وجدت ضالتهافي هذه التنظيمات الغبية التي أضرت بالإسلام والمسلمين، قبل إضرارهابمن تسميهم بالكفار، وجعلت النظرة لكل مسلم بأنه مشروع إرهابي كامن وخطير. أضرت بالاقتصاد، ضربت قطاع السياحة، شلت حركة السفر، أضعفت التبادل العلمي والثقافي والتفاعل الإيجابي بين الشعوب، وضعت العراقيل أمام الأقليات المسلمة والمغتربين المسلمين في شتى بقاع الأرض، هتكت النسيج الديني وزرعت بذور الشك في ديننا حتى من قبل المسلمين الذين يتكؤون على ثقافة دينية ضحلة. وخلاصة القول، بأنّ متطرفي السياسة في الغرب، يتعاملون مع هذه الكيانات كفئران تجارب، جعلوا منها فئران تحت الطلب تستجيب للمحفزات والمؤثرات كلما اقتضت الحاجة لذلك. والنتيجة ما نشهده اليوم من قتل وسفك غير مبرر للدماء والإرهاب والإرهاب المضاد الذي كان آخر حلقاته الهجومين الإرهابيين على المسجدين في نيوزيلندا وعلى كنائس سيريلانكا.