تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكهنوت الشيوعي والوهابي وما بينهما "الحلقة الرابعة"
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 12 - 2012


بقلم : عبده النقيب
المدرسة الماركسية واتباعها في الجنوب العربي
كنت قد تعرضت في الحلقات الثلاث الماضية الى لفكرة التطرف أسبابها ومنابعها ومآلاتها وكان لابد على ان استعرض بعض الأمثلة الحية لأتمكن من توصيل الفكرة بشكل واضح بدلا عن الحديث المجرد وفي نفس الوقت تسهيل استيعاب الفكرة من قبل القارئ وهو الذي لمسته بالفعل ان البعض لم يستوعب موضوع البحث من اساسه فأنصب النقاش حول القضايا الفقهية وموقف الوهابية من الدين وهو الأمر الذي لم ابحث فيه. تركز بحثي المتواضع على محاولة الوصول الى ما أراه وحاولت إثباته هو التشابه بين المسالك والدروب التي يتخذونها والمبررات والمألات المأساوية لأفعالهم والانفصام الواضح والكبير بين ما يقولون وما يفعلون .. بين الشعارات الإنسانية والقيم الأخلاقية التي يتغنون بها وبين الجرائم البشعة التي يرتكبونها تحت مبررات السعي لتحقيق تلك الأهداف الإنسانية والأخلاقية. لست بصدد البحث في فتاوي الشيخ محمد ابن عبدالوهاب واتباعه من التكفيريين وموقف الدين الإسلامي منها التي تبدو واضحة للعيان بشكل لا يحتاج الى تبحّر في الفقه انها تتقاطع مع الروح الإنسانية والأخلاقية للدين الإسلامي وسيرة المصطفى والسلف الصالح ومع مقتضيات العصر وحقوق الإنسان وأساءت للإسلام أيما إساءة. في نفس الوقت أيضا لست في هذا الجزء الرابع من البحث بصدد تقيم ونقد الشيوعية والماركسية كفلسفة وكفكر بل أني اتعرض لنتائج ممارسات البعض ممن ينعتون بالمتطرفين .. بين ممارساتهم المتناقضة مع ما يدّعون به ومايسعون إليه في خططهم وافكارهم المعلنة. في هذا الحلقة سأتعرض للمدرسة الشيوعية بإجمال وبشكل مقتضب عبر التعرض لبعض جوانب التجربة الروسية باعتبارها اول تجربة شيوعية تمكنت من إقامة نموذج للدولة التي دعت لها الماركسية وحتى لا يصبح الحديث نظري وغير ملموس بعيد عن اهتماماتنا فإني بدأت في تناول التجربة الماركسية في الجنوب العربي وسأستملكه في الحلقة التالية. النموذج الماركسي في الجنوب العربي من حيث تشابهه مع التنظيمات الدينية المتطرفة في أسلوب العمل والنتائج العكسية لهذه التجربة والانفصام بين النظرية والممارسة الذي اعترى هذا النظام وكيف ولماذا انتصر التيارات اللاعقلاني داخل الجبهة القومية على التيار العقلاني وهو يبدو شيء مألوف يتكرر في أكثر من نموذج في تاريخنا وتاريخ البشرية جمعاء. هو يشبه إلى حد كبير ما جرى في الإسلام حيث سادت منذ نهاية عصر المأمون ثقافة وهيمنة تيار النص الذي يرفض العقل ويتعامل مع النص كقالب جامد .. اسلام أبو حامد الغزالي لا إسلام ابن رشد وإسلام المودودي لا إسلام الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ثم اسلام محمد ابن عبدالوهاب وسيد قطب والزنداني لا إسلام راشد الغنوشي والجابري وخليل عبدالكريم ونصر حامد أبو زيد وعلي عزت بيجوفيتش. مثلما انتصرت في الجنوب شلة الجهل والخراب من رفاق باجمال ومحسن الشرجبي وعبدالله غانم وقتل فيصل عبداللطيف ونفي المكاوي وشيخان الحبشي والشيخ البيحاني .. هذه هي المعادلة بكل اسف التي قادت في النهاية الى قيام تحالف وثيق الصلة بين عصابات المتأسلمين وعصابة المتمركسين في حلف غير مقدس اسمه اللقاء المشترك وهو ما دفعني الى محاولة فك سر الطلسم فلست مقتنع ان ما حصل هو محض صدفة او تكتيك او كما يسميه البعض بمعجزة جارالله عمر.
الشيوعية ليست دين سماوي بل هي عقيدة ارضية متكاملة في الفكر والسياسية والاقتصاد والثقافة تؤمن فقط بكل ما هو مادي ملموس وهي فكر إنساني اعتنقته الكثير من الشعوب وبرزت فيها تيارات متعصبة ممن تؤمن باحتكار الحقيقة واتخاذ العنف وسيلة لمناهضة المخالفين اينما كانوا على وجه المعمورة بمن فيهم المتدينين. الشيوعية عقيدة انتشرت كالنار في الهشيم وتمكنت من عقول الملايين تلك الملايين التي امتلكت الروح الثورية القتالية تماما مثلها مثل التيارات الدينية الإسلامية التي تحوي في اطارها أطياف مختلفة بل وبعضها معادي لبعضه وذاته قبل ان يكون معادي لغيره. عرفنا التيارات الدينية المتطرفة في مختلف الديانات السماوية وحتى غير السماوية مثل الهندوسية وهي تتشابه الى حد كبير مع اولئك المتطرفين من معتنقي الفكر الشيوعي والنازي والقومي ولافرق بين المجاميع الوهابية التي افرزت تنظيم القاعدة المعادي لكل شيء بما في ذلك الحياة نفسها وبين الماركسيين الشيوعين المتطرفين فهم اخطر بكثير فإذا كانت الوهابية مثلا تعلن الجهاد في البلاد الإسلامية وتنهج الدعوة في دار الأعداء او الكفار كما يطلق عليهم الجهاديين الوهابيين فإن ذلك يقابله العنف الثوري عند ماركس و لينين ضد الطبقات الغنية و المخالفين للماركسية اينما كانوا على مستوى المعمورة مما يعني ان كل من لا يؤمن بالفكر الشيوعي يعتبر معادي وخطر يستوجب النضال ضده بلا هوادة بمختلف الوسائل الأيديولوجية والإعلامية والمسلحة.
قالا كارل ماركس وفريدريك إنجلس في بيانهما الشيوعي:
"إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية. حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع وبكلمة ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين. "
اخذ المتطرفين من اتباع الماركسية هذا الفكر كقالب جامد واعتبروا كل ما قالته الماركسية حقيقة مطلقة لا يقبل الجدل ليس هذا فحسب بل ان قراءات مختلفة للفكر الماركسي ادخل الماركسيين أنفسهم في جدل وتصنيفات فهذا تحريفي وهذا تر وتسكي وذاك فوضي وهو امر يتشابه مع القراءات المختلفة للدين الإسلامي والتكفير للمخالفين لقراءة البعض. لم يكن كثيرون يضعوا الفكر الماركسي كفكر قابل للجدل والخطأ في بعضه فكانت الداروينية ونظرية النشوء والارتقاء عمود الماركسية النظري لفترة زمنية ظلت تدرس على انها حقيقة مطلقة قبل ان يتطور العلم والمعرفة وتبدأ عملية طرح الاسئلة حولها، ومثلها ظلت نظرية أنجلس في "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان" على انها حقيقة.
ظهرت في القرن الماضي مجاميع ماركسية متطرفة ترفع شعار العنف المسلح للتغيير دون وضع الاعتبار لظروف نضوج وشروط الثورة بطريقة اختلف معها الكثيرين من المعاصرين الماركسيين وابرزها بعض المجاميع اليسارية في فرنسا والألوية الحمراء بإيطاليا وجماعة الجيش الأحمر بألمانيا إلى جانب الجيش الأحمر الياباني وكذلك ما عرف بنموذج تشيه جيفارا وجميعها لم تحقق أي انجاز في خدمة الفئات التي تناضل من اجلها سوى إراقة الدماء. وتشهد التجارب الثورية الماركسية والنازية والفاشية والقومية المتطرفة والتي آمنت بالفكر الشمولي والعنف انها ارتدت الى داخلها ودمرت ذاتها واضرت بمجتمعاتها رغم كل الشعارات والأهداف التي تبدو نبيلة والتي تبنتها. هاهي الحركة الطالبانية المتشددة في الدين تتحدث باسم الدين الإسلامي الذي جاء لتحرير الإنسان من العبودية، الدين الذي رفع شعار "الناس سواسية كأسنان المشط" تسلك طريق العنف وتحارب العلم والمرأة والنور والحياة وقدمت الإسلام بصورة قاتمة ومنفرة ليس لغير المسلمين بل وللمسلمين أنفسهم وكان نظام بولبوت الذي يدعي الماركسية قد رتب لمجازر رهيبة في كمبوديا بلغ أكثر من مليون ضحية باسم النضال من اجل الكادحين لم تفعلها النازية في حربها ضد من تراهم اجناس رديئة يجب محوهم. وبالمثل كان النظام الشمولي في الجنوب العربي (اليمن الديمقراطي) شرد أكثر من ثلث السكان معظمهم الكوادر القادرين على العمل وكان في حالة عداء مع كل من حوله وفي حالة حرب مع العرب اجمعين بل انها كانت تعتبر من قبل الكثيرين وكرا للإرهاب والعنف تصدر الفتن والعنف. قطعا الدين الإسلامي ليس هو الذي تقدمه حركة طالبان ولا الاشتراكية التي عرفناها في اليمن الديمقراطية. كيف نفهم الماركسية التي تعتبر العامل الاقتصادي هو الأول والأخير في كل شيء في عملية التطور بل وفي تشكيل الفكر والثقافة والسلوك الإنساني وما العوامل الأخرى الا نتاج للعامل الاقتصادي وهو امر تناقض معه الحزب الاشتراكي في الجنوب الذي جاء على أنقاض الجبهة القومية وليس كما يقال امتدادا لها.
إن حديثي هذا لا يعني أنى اميل للنظام الرأسمالي او انفي عنه استغلاله للشعوب في البلدان المتخلفة في اسيا وأفريقيا بل وشعوب البلدان الرأسمالية نفسها. أدرك ان المعركة هي بين الفقراء وبين الأغنياء الذين لا يتورعون في استخدام شتى السبل لتكوين ثرواتهم وأنمائها من عرق الكادحين وبدون سبل مشروعة وهذا امر يحرمه الإسلام ولكن ليس كل نشاط مالي حرام واستغلال فهذا التفكير متطرف وهو ما فهمته الكثير من الأحزاب التي اسقطها تفكيرها. إذا كانت المعركة هي بين الأنظمة الرأسمالية الاحتكارية وبين الأنظمة الاشتراكية التي تبني سلطات الكادحين وتدافع عن مصالحهم فهل من الحكمة ان تجعل هذه الأنظمة الدين عدوها الأول!؟ وهل بريطانيا وفرنسا بلدي المؤمنين مثلا!؟ بالطبع لا فالمجتمعين الفرنسي والبريطاني أكثر الحادا من بلغاريا ورومانيا ومن روسيا نفسها. لكن السياسة الخاطئة للبلدان الاشتراكية جيشت ملايين المسلمين البسطاء وخاصة العرب وجعلتهم ينعتون البلدان الاشتراكية بالملحدين ولانسمعهم يقولون ذلك عن الملحدين وهم الأكثر في بريطانيا وفرنسا فتطوعوا لمحاربة محور الإلحاد فكان لهم موعد معهم في أفغانستان ومرغوا بالإمبراطورية السوفيتية في الوحل بل وكانت معركة افغانستان هي بداية النهاية للإمبراطورية السوفيتية التي ما أن وهنت حتى تساقطت الأوراق كلها كأنها نمور من ورق. هل الاشتراكية التي ترفع شعار العدالة والمساواة هي على النقيض من الدين اليس هو شعار الدين نفسه! الاشتراكية الحقة هي الأقرب الى الدين وازعم ان النظام الشمولي السابق في الجنوب العربي أقرب الى الدين من نظام صنعاء ومن السعودية نفسها. لكن لماذا كل هذه الجموع الغاضبة من جمهور المخدوعين الذين جاؤوا لتصفية الحساب وتصفية ما سموها بالشيوعية في اليمن الديمقراطي في حرب 1994م. أدرك انها حرب إعلامية وأيديولوجية وهي نفس الحرب المستعرة التي قامت بين الإمام علي ابن ابي طالب ومعاوية ابن ابي سفيان بين اغنياء بنو امية وفقراء قريش. لكننا نعزي السبب لوقوف المؤمنين هذا الموقف الخاطئ نتيجة للسياسة الخاطئة لهذه الأحزاب الماركسية التي يفترض انها لا تتجاهل العامل الديني مطلقا فوجوده شيء موضوعي ولايمكن الغاءه عبر معاداته. هو السلاح الذي تخلت عنه طواعية لتأخذه الدول الرأسمالية فجندت المخابرات الأمريكية العرب واموالهم في معركة أمريكا ضد الاتحاد السوفيتي الذي ناصر العرب وجنى العرب من سقوط القطب الاشتراكي ما نراه اليوم بعودة الاستعمار الغربي العسكري المباشر ونسوا ان هذه الدول لها تاريخ استعماري وخاصة في البلدان العربية ونكثت بريطانيا بكل وعودها للعرب وان الحقبة الاستعمارية السابقة انتهت بفضل المنظومة الاشتراكية نفسها التي شكلت عامل دعم عسكري وسياسي لكل حركات التحرر. هذا شيء إيجابي ومضيئ يجب ان نعترف به. لكن سقوط هذا النظام الدولي هكذا بغمضة عين بعد عقود البناء المضنية والتخلي عنه من قبل الجماهير نفسها هو دليلنا على الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها في سياساتها وازعم ان انتصار تيارات التطرف اليسارية ضد التيارات العقلانية هو السبب الرئيس فقد سعى ليون تروتسكي في موقفه الذي وصف بالتوفيقي الى التخلص من المتطرفين اليمنيين داخل التيار المنشفي والمتطرفين اليساريين داخل التيار البلشفي وهو السبب نفسه الذي أدى الى تخلف المسلمين بعد ان سادوا على الأرض وتقدموا على الأمم لكن وما ان تخلوا عن الموقف الوسطي للإسلام حتى سجنوا انفسهم في كهف التاريخ. اعتنقوا اسلام أبو حامد الغزالي الذي أنكر العقل ساد فأباد ودمر واغرقنا في حوارات تاريخية لن تنته حول طول اللحية وشكل السجدة ووضعية النقاب والجدل حول شراء الخيار حلال ام حرام ولن نخرج من هذه الدائرة إذا لم نواجه هؤلاء ونعيد للأمة عقلها ونقدس العلم والحرية ونحشر الكهنة في جحورهم. يا لخطورة هذا السلاح الفتاك الذي يأتي على الأخضر واليابس، السلاح الذي يستخدمه الأعداء بكل فعالية وهاهم المسلمين اليوم وبسلاح التكفير والتطرف نفسه هذا يدمرون المنطقة العربية تدميرا ولا يسلكون دروب التغيير المطلوبة والضرورية.
لقد حشروا الأمة في أنفاق ليس لها نهاية فبعد ان يتم التخلص من الأنظمة الشمولية والتي يجب ان تذهب فإنهم لايقفون عند هذا الحد بل ان هؤلاء لا يكتفون بإزالة الأنظمة السياسية يزيلون الانظمة وحسب بل أنهم يدمرون مؤسسات تلك الدول وكل المنجزات الحضارية والإنسان نفسه وستأتي المرحلة التالية والأخطر وهي تدمير الإنسان من الطوائف الأخرى ثم ستتبعها الحرب على المذاهب التي تحويها كل طائفة بتوجيه امريكي وبأموال عربية. هل حقا هؤلاء يقيمون الدين وشرع الله بأفعالهم المشينة هذه!؟ هكذا تبدو جلية لنا ان هؤلاء مجرد ادعياء فالإسلام منهم براء مثلما تتبرأ الاشتراكية نفسها من تلك الأنظمة الشمولية.
لنىرى عبر التعرف على نماذج محددة كيف انهم بعيدين عن الاشتراكية والعدالة التي يسعون لتحقيقها والكادحين الذين يدعون وصالهم.
لنعرج قليلا على البدايات للتعرف على بعض الحقائق من تاريخ الثورة البلشفية في روسيا عند بواكيرها وما ابتليت به من ثقافة التعصب للفكر عند البعض ممن ترسخت لديهم قناعات بأنهم اهل الحق دون غيرهم وما علاقة ذلك بصفات الكهنوتية.
عندما برز الخلافات داخل حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي وحصل الفرز بين تيارين عرفا بالبلاشفة (الأغلبية) والمناشفة (الأقلية) في مؤتمر 1903م اختلفا حول عدد من المسائل التنظيمية اهمها مبدأ المركزية الديمقراطية الذي تبناه لينين ورفضه المناشفة ومعهم عددا من الشيوعين البارزين الذي اتهموا من قبل مخالفيهم بالفوضويين والانتهازيين والتحريفين وفي مقدمتهم ليون تروتسكي وروزا لوكسمبرج. لكن ثورة 1905 البرجوازية غيرت الموقف عند تروتسكي الذي يعد إلى جانب لينين ابرز الماركسيين حينها دون منازع فقدم فكرة قيام الثورة الاشتراكية في روسيا بشكل واضح قبل ان يطرحها لينين الذي كان يرى بان طابع الثورة مازال برجوازيا وعليها ان لا تستعجل في القفز, لكن تروتسكي الذي بدأ منشفيا رفض الالتحاق بتيار البلاشفة و غادر تيار المناشفة ظل بين البلاشفة والمناشفة ظنا منه ان يتمكن من استقطاب الثوريين في التيار المنشفي الى جانب فكرة استراتيجية الثورة الاشتراكية وهي الرؤية التي تبناها البلاشفة على العكس المناشفة الذين تبنوا فكرة الثورة البرجوازية واكتفوا بما تقوم به البرجوازية من اصلاحات وطالبوا بتحالف العمال مع الليبرالية البرجوازية. وقف ليون تروتسكي هذا الموقف التوفيقي حتى حسم امرة أثناء ثورة أكتوبر عام 1917 م الذي كان هو من أبرز قادتها. اسس الجيش الأحمر وطور نظرية الثورة الدائمة التي صاغها اسسها كارل ماركس الذي شدد على استمرار الصراع حتى يتم إزالة المجتمع الطبقي نهائيا وهي الحقبة الخالية من الطبقات في المجتمع الشيوعي كما تخيلها. طورها تروتسكي على ان الثورة هي استمرار للعنف والصراع فإن نهاية أي مرحلة هي بداية لأخرى. " إن دكتاتورية البروليتاريا التي استولت على السلطة بوصفها القوة القائدة للثورة الديمقراطية سوف تجابه حتما وسريعا مهام ترغمها على القيام بخرقات عميقة لقانون الملكية البرجوازي. إن الثورة الديمقراطية، في أثناء تطورها، تتحول مباشرة إلى ثورة اشتراكية وتصبح بذلك ثورة دائمة. إن استيلاء البروليتاريا على السلطة لا يضع حدا للثورة بل يفتتحها فقط. ولا يمكن فهم البناء الاشتراكي إلا على أساس الصراع الطبقي على الصعيدين القومي والدولي. وهذا الصراع، نظرا للسيطرة الحاسمة للعلاقات الرأسمالية على الصعيد العالمي، سيؤدي حتما إلى انفجارات عنيفة، أي إلى حروب أهلية في الداخل وحروب ثورية في الخارج. بهذا يكمن الطابع الدائم للثورة الاشتراكية ذاتها" ليون تروتسكي كتاب الثورة الدائمة
وفي نقد ستالين لليون تروتسكي حول نظرية الثورة الدائمة قال:
"واذن فلينين لم يكن يحارب أنصار الثورة ((الدائمة)) حول قضية استمرار الثورة. اذ ان لينين نفسه كان يتمسك بوجهة نظر الثورة المستمرة، بل كان يحاربهم لأنهم كانوا يستصغرون دور جماهير الفلاحين الذين هم أكبر احتياطي للبروليتاريا)). ان وصف ((الدائمين)) الروس هذا اعتبر حتى الآونة الاخيرة، معترفاً به من الجميع. ولكن مع انه صحيح بوجه عام فلا يمكن، مع ذلك، اعتباره كافياً. فمناقشة العام 1924، من جهة، وتحليل مؤلفات لينين تحليلا دقيقاً، من جهة اخرى، اظهر ان خطاء ((الدائمين)) الروس لا يكمن في استصغارهم لدور الفلاحيين فحسب، بل وفي استصغارهم لقوى وطاقة البروليتاريا على جر الفلاحيين وراءها، وفي عدم ايمانهم بفكره زعامة البروليتاريا."
جوزيف ستالين .. حول مسائل اللينينية
كان ليون تروتسكي أقرب القادة الى لينين قبل وفاته 1924م لكنه بسبب التململ الذي دب داخل مؤسسات الدولة والحزب قبل وفاة لينين بعد ان سيطر تيار ستالين بشكل شبه كلي على المفاصل الرئيسة للحزب والدولة. لست بصدد الخوض في تفاصيل اكثر بقدر ما اريد ان اصل الى استنتاج اليوم وبعد سقوط الدولة الاشتراكية الاولى في التاريخ وفشل فكرة الثورة الاشتراكية في مجتمع متخلف اقتصاديا وفشل الكثير من التصورات النظرية التي دافعا عنها ليون تروتسكي وفلاديمير لينين على حد سواء هو ان التعصب للفكرة والاعتقاد بصوابها دون وضع احتمالات الخطأ فيها يجعل من الفكرة مقدسة عن صاحبها يدافع عنها ويكفر من يخالفها وهنا يكمن الاساس النظري والمبرر الأخلاقي للعنف لدي المتطرفين من الشيوعين او المتأسلمين او القوميين وغيرهم فلا فرق سوى بالأقنعة .
ما يهمني ايضا في معرض هذا الأمر هو تتبع فكرة تقديس الرأي الذي يقود للعنف ونتائجها الملموسة على الأرض فنظرية العنف الثوري التي أسس من اجلها فلاديمير لينين البوليس الثوري ( التشيكا) وقمع بقسوة كل المعارضين البرجوازيين والمناوئين فكريا واعدم بوحشية القيصر وعائلته بمن فيهم الأطفال والنساء وقمع بقوة انتفاضة الإقطاع ( الكولاك) واعجب لينين بالقلب الغليظ لرفيقه جوزيف ستالين الذي اثخن الجراح بأعداء الثورة فأوصله الى منصب الأمين العام للحزب ولم يدرك لينين خطر ستالين على الحزب نفسه الا قبل وفاته وبعد فوات الأوان حين اقعده المرض الناتج عن محاولة الاغتيال التي تعرض لها. هكذا نشأت فكرة العنف والقناعة بقمع الآخر عبر الاعتقاد باحتكار الحقيقة وآلت تلك الاعتقادات الخاطئة والممارسات العنيفة الى تأسيس تيار بقيادة ستالين ارتكب الأهوال والمجازر الشنيعة التي اودت بحياة معظم قادة الثورة البلشفية ممن عارضوا سياسته وتمت تصفيتهم على يدي رئيس الحرس الثوري "بيرية" ومنهم بوخارين المنظر الماركسي الأبرز و جاغودا رئيس (التشيكا)وعدد كبير من قادة الجيش الأحمر وتمكن تروتسكي من الإفلات الى تركيا ثم استقر به المقام في المكسيك لكن رجال ستالين تمكنوا من اللحاق به واغتياله بطريقة وحشية بواسطة فاس شقوا به راس في اغسطس 1940م..
وجهت الانتقادات بقوة من قبل خليفة ستالين (خروتشوف) للإستالينية ولكن بعد سنوات عدة وبدأت تبرز للعيان فضائع ستالين واساليب القمع التي لا تضاهى ابدا .. ومن المفارقات العجيبة ان جوزيف ستالين درس في طفولته في مدرسة الرهبان ليتأهل ككاهن لكنه صار بلشفيا شيوعيا وارتكب أبشع الجرائم بحق البلاشفة والكنائس والمساجد على حد سواء بما في ذلك تدمير الآثار التاريخية.
هذا العنف الذي أطل على البشرية جليا في أكثر من مكان وفي أكثر من زمان تحت غطاء النضال من اجل المبادئ والأفكار وبكل اسف تلك التي تتوق لتحقيق العدل حسب الشعار الاشتراكي الأبرز "تحرير الإنسان من اخيه الإنسان".
ليست صدفة ان تتكرر الاهوال والمآسي في معظم التجارب الثورية التي تبنت الفكر الكهنوتي الشيوعي في كامبوديا واليمن الديمقراطية ورومانيا ونيكاراجوا واثيوبيا وانجولا وافغانستان وغيرها. لقد أدت فكرة احتكار الحقيقة إلى تكفير المناهضين ومن ثم ملاحقتهم وتصفيتهم. ومن المحزن ان هذه الكتلة من النار بعد ان تأتي على كل ما حولها تنحسر وترتد إلى داخلها فتقضي على نفسها وهو ما حصل بشكل جلي في الاتحاد السوفيتي واليمن الديموقراطية والكثير من البلدان التي تبنت ذلك الفكر المتعصب.
في الحقيقة انا هنا لست بصدد توجيه النقد للفكر الماركسي اللينيني فهذا ليس مجال بحثي هذا بقدر ما اتناول جزئية معينه في الممارسة الثورية للماركسيين المتعلقة بالتعصب والتطرف الذي ادى الى الجمود والسقوط وهو أمر لا يحتاج الى جدل فقد سقط النموذج الاشتراكي الذي عرفناه وهوت المنظومة الاشتراكية بين عشية وضحاها. لا شك ان الماركسية هي إرث إنساني متصل بالماضي الفكري والفلسفي السحيق الممتد الى اثينا القديمة وفلاسفة اليونان وللفلاسفة المسلمين اسهاما كبير في هذا الإرث، وكان للمحاولات العديدة في اقامة انظمة تستلهم هذا الفكر لتحقيق غاية اساسية وهي العدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال والظلم الفاحش للنظام الرأسمالي إنجازات إنسانية كبيرة. ولست مجافيا للحقيقة اذا قلت وهو ما اكد عليه الكثيرون بان العديد من المفكرين الماركسيين قد اطلعوا بدقه على القرآن واشادوا به وقرأوا فلسفة اخوان الصفا وابن رشد والفارابي وغيرهم واستلهموا الكثير من المبادئ والأفكار منها , فالاشتراكية تتبنى المبادئ الاقتصادية التي كان قد دعي لها الإسلام وأرسى اسسها امير المؤمنين الفاروق عمر وهو امر ملموس لدى الكثيرين من مفكري الغرب فقد قال الكاتب والفيلسوف الإيرلندي برناردشو " الإسلام دين الديموقراطية وحرية الفكر هو دين العقلاء ولكن هناك أمراً مهماً يجب ألا أغفله, وهو أن الإسلام شيء والمسلمون اليوم شيئا آخر الإسلام حسن ولكن أين المسلمون ؟!وليس فيما أعرف من الأديان نظام اجتماعي صالح كالنظام الذي يقوم على القوانين والتعاليم الإسلامي ".
وكان المفكر الفرنسي البارز والماركسي المعاصر روجيه جارودي قد طرد من عضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي ومن الحزب بشكل نهائي بسبب نقده المستمر لسياسة الاتحاد السوفيتي وأعلن اسلامه بعد قراءة معمقة للقرآن والفكر الإسلامي ليثير ضجة كبرى على مستوى الغرب كله. هذا يقودنا الى مسلّمة هي ان الفكر الاشتراكي والماركسي شيء وتطبيقه شيئا آخر يختلف باختلاف الزمان والمكان. لا يعني ان الممارسات الفوضوية التي مارسها انصاف المتعلمين في اليمن الديمقراطية انهم كانوا يطبقون ويستلهمون الفكر الماركسي والمبادئ الاشتراكية المعروفة. وهكذا ايضا نؤكد في انتقادنا للنموذج الطالباني والوهابي والأفكار المتطرفة للجهاديين اننا لا نوجه النقد للقيم العظيمة التي جاء بها القرأن على العكس تماما لأن الدمار الذي يسببه هؤلاء يتقاطع بشكل صارح مع مبادئ الإسلام الذي يدعو للسلام وعدم الإضرار او الضرر. الم يتمعنوا في الحديث الشريف الذي يقول لهدم الكعبة حجرا حجرا أهون من قتل المسلم) الذي يطعن البعض الفقهاء بصحة اللفظ لكنهم يعتبروا فحواه صحيحا لتوافقه مع الحديث الصحيح (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق) وذلك يتوافق مع نص الآية في قوله تعالى: ((من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً)) المائدة 32
قال الله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما).
لم يكن استثناء ما حصل للثورة في الجنوب العربي "اليمن الجنوبي" حيث تجلت بشكل واضح الخلافات بين ما سمي باليمين واليسار في المؤتمر الرابع للجبهة القومية في مارس 1968م في زنجبار. وكانت نقاط الخلاف الرئيسة التي بدت بين التيارين هي حول (الإصلاح الزراعي والتأميم وتأسيس المليشيا الشعبية على أنقاض الجيش الجنوبي المحترف) وعدد من القضايا الأخرى. ذلك الانقسام الغير واعي اسس لمرحلة من الصراع الغير واقعي والذي اتى على الثورة والبلد واوصلها الى ما هو عليه اليوم. اشك في ان ذلك الصراع كان فكريا بالمعنى الواقعي الذي يعكس الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الجنوب فقد كان مدفوعا بانقسامات حدثت في إطار مركز حركة القوميين العرب في بيروت وبالذات بين ابرز قادتها الدكتور جورج حبش ونائف حواتمة ومحسن ابراهيم والهندي والجبوري والخطيب وغيرهم وافرز ذلك الانقسام الذي أدى الى نهاية الحركة نفسها فصيلين هما الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نائف حواتمة والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش التي كانت الأخيرة قد حافظت الى حد كبير على التقاليد التنظيمية والفكرية لحركة القوميين العرب لوقت لاحق بينما كانت الجبهة الديمقراطية قد نحت في السير يسارا نحو الفكر الاشتراكي العلمي الراديكالي الذي انعكس بشكل مباشر على موقف مجموعة داخل الجبهة القومية التي تعد امتداد لحركة القوميين العرب شكلوا ما سمي بالتيار اليساري للجبهة القومية بقيادة عبدالفتاح اسماعيل وعبدالله الخامري وسلطان أحمد عمر وغيرهم.
"حدث أول تناقض جدي في الفريق المركزي للحركة إثر مؤتمر 1963 (نهاية آذار – أوائل نيسان)، إذ دعت "اللجنة التنفيذية" إلى مؤتمر قومي غير اعتيادي (استثنائي)، لمناقشة حركتي 8 شباط و8 آذار عام 1963 في كل من سورية والعراق، إذ كانت "الحركة" قد أصبحت يومئذ على جزمٍ بان بعثيي دمشق وبغداد يُسوّفون بمسألة الوحدة ويماطلون بها، تمهيداً لسيطرتهم على الوضع الداخلي والتحكم به.
وكان هذا المؤتمر في حقيقته اجتماعاً قيادياً موسّعاً أكثر منه مؤتمراً، فهو قد ضم لأول مرة مندوبين عن قيادات الأقاليم.
برز في هذا المؤتمر تياران: أحدهما يدعو إلى تبني الاشتراكية العلمية والتيار الآخر يتمسك بالمثالية ويرفض الاشتراكية هدفاً لنضاله، ويبدو أن جيل الصف الثاني قد وجد إقرار "الميثاق" (21 أيار 1962) لمصطلح "الاشتراكية العلمية" بوصفها الصيغة الملائمة لإيجاد النهج الصحيح للتقدم، سنداً مرجعياً يطرح صيغة "الاشتراكية العلمية" والالتحام بالآفاق الراديكالية الممكنة للناصرية.""
حركة القوميين العرب: (النشأة – التطور – المصائر) تأليف: محمد جمال باروت أيار 2007
كانت القيادة التقليدية للحركة تطرح فكرة تماهي الحركة مع التيار الناصر وتشكيل حزب اشتراكي عربي وناصري على أنقاض الأحزاب القومية والشيوعية في الأقطار العربية كلها وهو الخلاف الذي انعكس على فروع الأقاليم وخاصة فرع الجنوب العربي المحتل.
بعد ان تأسس فرع الحركة في كل من الجنوب واليمن طرحت الحركة وحدة الفرع واعتبار اليمن إقليم واحد رغم انه عملية التأسيس جرت بشكل مستقل فالبداية كانت في عام 1959م في حي الشيخ عثمان على يدي فيصل عبد اللطيف الشعبي ثم ان الحركة طرحت إقليم الجنوب المحتل من عدن حتى البحرين في مسعى لتوحيد ما سمته باليمن الطبيعية التي تمتد من اقصى اليمن شمالا وحتى البحرين.
تسربت الى الساحة العربية الخلافات بين الأحزاب القومية واليسارية بمن فيهم حركة القوميين العرب والناصريين وطرحت الأحزاب اليسارية الراديكالية التي تبنت الفكر الاشتراكي العلمي ان الثورات العربية لن تنجز مهامها إلا عبر بناء الأحزاب الطليعية المسترشدة بالفكر الماركسي وهو قفز على الواقع الذي يمور بمختلف التيارات الأخرى. هنا تبرز بذور التطرف لدى اليسار الماركسي الراديكالي الذي يرفض أي فكر آخر بما في ذلك الفكر اليساري المتمثل بالناصرية والبعث وحركة القوميين وبدأ في مواجهة الآخر وهو أمر يتناقض مع أسس ومبادئ الماركسية نفسها. من غير المنطقي ان ترفع شعار الثورة ضد الإمبريالية والرجعية وفي نفس الوقت لا تجد ابسط القواسم المشتركة مع التيارات اليسارية الأخرى وهو الآمر الذي يضرب فكرة الوحدة العربية في الصميم. الوحدة على طريقة الماركسيين تعني تصفية المجتمع ممثلا بتيارات تقليدية وقومية يسارية وناصرية وغيرها بكل ما تحمله من إرث ووزن اجتماعي واقتصادي بغية سيادة الفكر الراديكالي للحزب الماركسي. هل يريدوا ان يتوحدوا مع أنفسهم. هذا ما يبدو من سلوكهم!! لكن هذا حتى في الفكر الماركسي يعتبر خطأ وهو ما يدعوه في الأدبيات الماركسية بسياسية حرق المراحل. يعني تجاهل الواقع ورفع شعارات لم تنضح الظروف بعد لتحقيقها وبالتالي دخول في حالة صدام مع الآخر ثم مع الذات بعد الفشل. كان الجنوب العربي مرة أخرى نموذج لهذا التطرف والتصادم مع الواقع والسقوط العمودي.
الجنوب العربي هو البلد الوحيد الذي تمكنت حرمة القوميين العرب من الوصول الى السلطة فيه وإقامة دولة لكنها سرعان ما انتهت عبر تصفية التيار التقليدي للحركة ممثلا بقحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف وسيف الضالعي وغيرهم وانتصار التيار الذي أعلن القطيعة مع الحركة الأم بقيادة عبدالفتاح إسماعيل ونحا يسارا باتجاه الماركسية وهذا ما حصل في المؤتمر الرابع للجبهة القومية في مارس 1968م.
تمكن نائف حواتمة من لعب دور المنظر لهذا التيار الذي يضم عدد من الشباب الصغير في السن ذوي المستوى التعليمي المتدني ولم تثبت الايام ان أحد منهم كانت له اسهامات نظرية تذكر تؤكد انخراطهم عن وعي في اتون مثل هذا الصراع. كان هناك على الطرف الآخر ممن سموا باليمن بقيادة قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف عدد لا بأس به من الكوادر الجامعية المؤهلة التي تبوأت وظائف واكتسبت خبرات عملية وعلمية كبيرة ويبرز بينهم جميعا فيصل عبداللطيف الذي يجمع الكثيرين على تميز قدراته ونبوغه. على العكس مما هو في بيروت من وضع لقادة الحركة المثقفين خريجي الجامعة الأمريكية كالدكتور حبش والدكتور وديع حداد وحواتمة والخطيب والهندي والجبوري وغيرهم التي احتضنت مرحلة نشوء وتأسيس حركة القوميين العرب كان التيار اليساري الراديكالي في الجنوب أغلبهم من ذوي التعليم المتدني او المنعدم فرغم كل ما قيل عن زعيم التيار عبدالفتاح إسماعيل من امتلاكه لثقافة عميقة فإن خلفيته التعليمية متدنية جدا فهو كان قد طرد من المدرسة الابتدائية لتعثره فيها والتحق للعمل في مصافي الزيت ولم يبتعث للدراسة في أي مكان وتؤكد الشواهد عدم وجود أي اسهامات نظرية تذكر غير تلك التي تمثلت بوثائق التيار والتي اكدت مجموعة بيروت انها وراء اعدادها وهو أمر يثير الريبة.
ومن المخجل ان تتحول بلدنا الى حقل تجارب لعدد من القادة في حركة القوميين العرب والشيوعيين العرب فيما بعد الذي كانوا يديروا كل شيء وبالذات في اعداد الوثائق والأوراق النظرية وهنا اقتبس للقارئ الكريم جزءا مما قاله نائف حواتمة مؤخرا في مقابلة له على قناة روسيا اليوم التي تم بثها في مايو 2011م:
"انشغلتُ بالقضايا الخاصة باليمن بين عامي 1963 و1968، وفي اليمن كان الصراع محتداً قبل تحرير وتوحيد جنوب اليمن (21 سلطنة وإمارة إضافة إلى عدن)، وبعد إنجاز الاستقلال بين الفريق اليساري وبين الفريق الوطني اليميني، فالفريق الوطني القومي اليساري برئاسة عبد الفتاح إسماعيل والفريق الآخر برئاسة قحطان الشعبي؛ الذي أصبح أول رئيس جمهورية، والصراع كان يدور أثناء حرب التحرير على دور واستقلال الجبهة القومية لتحرير الجنوب ورفض انقلاب يناير 1966 وقضايا الصراع بين الجبهة القومية وجبهة مكاوي الأصنج. وبعد الاستقلال كان يدور الصراع على قانون الإصلاح الزراعي ويدور على قوانين لها علاقة بالملكية العقارية خاصة في عدن، حيث كان هناك قطاعات برجوازية ناشئة في عدن تعتبر هي الأقوى مادياً ومالياً في عموم الجنوب اليمني، وكان شعارها "عدن للعدنيين" ورئيس وزراء عدن أيام الاستعمار لعدن كان من هذه المجموعة عبد القوي مكاوي، وأيضاً كان متحالفاً مع الحزب الاشتراكي الذي كان يرأسه عبد الله الأصنج ومحمد سالم باسندوه، وكان هذا الحزب على صلة بحزب العمال البريطاني (أقترح العودة إلى كتابي "أزمة الثورة في الجنوب اليمني" 1968).
ويواصل قوله: "عشيةً وبعد استقلال جنوب اليمن كنت على علاقة حميمة مع الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن ومع الحزب الديمقراطي الثوري شمال اليمن. ساهمت في إنجاز البرنامج اليساري الاقتصادي والاجتماعي والتنظيمي والسياسي والديمقراطي للجبهة القومية في المؤتمر الرابع في زنجبار آذار/ مارس 1968 وكنت شريكاً، كتبتُ مسودات برنامج "المؤتمر الرابع للجبهة القومية" الذي انعقد في محافظة أبين في زنجبار، كنت ومحسن إبراهيم معاً في عدن، غادر محسن إبراهيم إلى بيروت عشية المؤتمر، انعقد المؤتمر؛ وغادرت عشية انعقاده إلى شمال اليمن وكان معي في شمال اليمن المناضل القيادي في الحزب الديمقراطي الثوري (التنظيم السابق لحركة القوميين العرب في شمال اليمن) محمد سعيد الجناحي، وكان لنا عمل في شمال اليمن مع الحزب الديمقراطي الثوري ومع قوى أخرى بما فيها مع ضباط بثورة 26 أيلول/ سبتمبر الشمال، هي كانت تتويج لسلسلة من النضال على مدار سنوات في النضال المشترك في الجنوب وثورة 14 أكتوبر (أقترح العودة إلى كتابي: "أزمة الثورة في الجنوب اليمني ... تحليل ونقد""
أدى التعصب الفكري لكل ما يملى على قيادة الجناح الذي سمي باليساري الى تبني العنف وتصفية الأغلبية الساحقة من القادة والكوادر المجربة عبر الاغتيالات والدسائس فحواتمة هو صاحب مقولة " لن تأمنوا منه ولو وضعتموه في قنينه" في اشاره منه لخطورة الفكر الذي يحمله فيصل عبداللطيف حتى وهو في معتقله في سجن الفتح وهو ما دفع برئيس جهاز "الشلكا" الجنوبي جهاز أمن الثورة " محسن الشرجبي الى الذهاب الى المعتقل واغتيال فيصل عبداللطيف بنفسه وبمسدسه الشخصي حسب رواية الكثيرين. ثم توالى مسلسل الصراع بين الرفاق في الجناح اليساري في عدد من دورات العنف تلتها فواصل تصفيات ظاهرة ومبطنه حتى جاءت مأساة يناير 1986م لتقضي على عدد كبير من القادة السياسيين والكوادر العسكرية والمثقفين الذين كان يمكن ان يشكلوا قاعدة بشرية لجيل التفكير والعقل يقومون بكبح جماح التطرف وتصحيح المسار لإنقاذ البلاد من الغرق والنهاية المأساوية التي قادوها اليها فتركت تلك الأحداث ندوب عميقة في جسد المجتمع الجنوبي في جريمة تكاد ان تكون غير مسبوقة على مستوى الساحة العربية كلها. وهنا مرة اخرى أعود لاقف على الاسباب التي تؤدي الى مثل كل هذا العنف والدمار فلا اظن ان هناك شيئا آخر غير التعصب الأيديولوجي الأعمى الذي ارتد على اصحابه بالطريقة نفسها التي نراه اليوم لدى تنظيم القاعدة والسلفيين الوهابيين. التعصب الأيديولوجي والفكري واحتكار الحقيقة هي القاسم المشترك لكل التيارات الاسلاموية والشيوعية والقومية على حد سواء وهي صفة تدمغ هؤلاء بصفات عبادة الفكرة .. التعصب للأيديولوجيا انها "الكهنوتية" بعينها.
كم تتشابه الصورة فيما فعلة الداعية محمد ‘بن عبدالوهاب واتباعه من قطيعة مع كل ما حوله من تعدد واطياف بالإضافة الى الموقف العدائي للتراث نفسه ليس هذا فحسب بل اعتبار كل هذا كفر وشرك وجب الجهاد ضده وتصفيته هكذا كان التيار اليساري الراديكالي في الجبهة القومية قد اعتبر كل التيارات الوطنية الجنوبية عميلة وثورة مضادة استبعد أي فكرة للتنسيق والالتقاء معها على قواسم الوطن المشتركة وجعل من الدائرة تضيق حتى قسّم الجبهة القومية الى يسار ويمين وأعلن الحرب على اليمين باعتباره خطر على الثورة يجب تصفيته.
لننظر كيف كانت القطيعة بين اليسار الراديكالي وكل ما حوله. كانت كل القوى التقليدية من مشائخ وسلاطين وحزب الرابطة وجبهة التحرير والتنظيم الشعبي الناصري والبعث وحركة القوميين العرب والناصريين ورجال الدين وحزب الشعب الاشتراكي وماسمي بيمين الجبهة القومية. ايضا كان لليسار الراديكالي قطيعة كاملة مع التراث الجنوبي البلد الذي يتميز بأصاله انتماء ضاربة القدم ثقافة إسلامية عربية تقليدية عريقة تنتمي للمدرسة الشافعية الوسطية المعتدلة بمرجعيتها الحضرمية في تريم. هكذا حاول الراديكاليون اظهار ثورة الرابعة عشر من أكتوبر 1963م وكأنها ليس لها صله بالماضي صوروها في حالة قطيعة مع الإرث النضالي للقبائل والمشايخ والسلاطين الذين قادوا الانتفاضات الوطنية ضد الاستعمار البريطاني بل وضد غزوات الأئمة وتطلعاتهم وأطماعهم في الجنوب. خلت بشكل واضح المناهج التعليمية في المدارس والمواد التثقيفية للحزب والمنظمات الجماهيرية من هذا الإرث النضالي وهو امر يندرج ضمن الحالة العدائية للكل والتي تشبه ما هو عليه لدي التيار الوهابي السلفي المتطرف.
لقد حاولوا الربط بشكل متعسف بين ثورة الرابع عشر من أكتوبر وانقلاب سبتمبر1962م. ذلك الانقلاب الذي لم تسبقه أي مقدمات يمكن وصفها بالظروف الموضوعية والذاتية لأي ثورة فانقلابي 1948 و1955م فشلا لهذه الأسباب فالمجتمع في اليمن مازال يغط في سبات عميق وهو ما استدعى تدخل مصر عسكريا بكل ثقلها لنجدة انقلاب سبتمبر حتى وصل عدد القوات المصرية في اليمن الى اكثر من سبعين الف مقاتل بمختلف تشكيلاتهم القتالية مدفعية واسراب الطيران ودبابات وغيرها وهو ما يؤكد صلابة القاعدة الاجتماعية والاقتصادية للقوى التقليدية في اليمن ورغم حجم التضحيات التي قدمه الجيش العربي المصري في اليمن ورغم تدفق فرق المقاتلين من الجنوب للقتال الى جانب القيادة التي اتى بها الانقلاب فقد كانت النتيجة سقوط الثورة بأيدي القوى التقليدية ومازالت تمسك بمقاليد السلطة حتى اللحظة.
على العكس نجحت الثورة في الجنوب في تسديد هزيمة كبيرة للإمبراطورية دون أي تدخل خارجي فقط حصل الفدائيين على التدريب والتمويل الضروري ولم يستقبل الجنوب أي مقاتلين من اليمن فقد كانت السلطات الجديدة في اليمن تعيش أوضاع مأساوية وتحتاج للمساعدة والنجدة فكيف لليسار المتطرف في الجنوب ومن بعدهم اليوم الطامعون بالثروات الجنوبية ان يتحدثوا عن واحدية الثورة محاولين ربط ثورة أكتوبر في انقلاب سبتمبر بل وحاولوا وصف انقلاب سبتمبر بالأم وثورة اكتوبر بالابنة.
هنا أستطيع استخلاص التشابه الكبير في الأسلوب والوسيلة بين ما قام به الوهابيين من دمار وهدم لكل ما اعتبروه مخالف لهم وبين ما قام به التيار اليساري المتطرف في الجبهة القومية فاستولوا على ممتلكات الناس ونكلوا برجال الدين المعتدلين وحاربوا الشيوخ الوطنيين والمثقفين ولاحقوا فئة السادة التي تحوي بداخلها الكثيرين من رجال العلم المتنورين واستخدموا كل الوسائل المحرمة رغم انهم سلطة فاغتالوا القادة في السجون واخفوا جثثهم عن اهاليهم ودبروا المكائد لمناويئيهم. ليس غريبا ان نسمع قبل عدة أيام وعلى شاشة التلفاز في مؤتمر الحوار اليمني علياء فيصل عبداللطيف تطالب بمعرفة مكان رفاة ابوها فكم هو عار ان يحصل هذا في بلدنا.
لماذا صمت الجميع .. اين مذكرات اثنان من الذين توليا منصبي الأمين العام للحزب الرئيس علي ناصر والرئيس البيض. هل السكوت يعني الخوف من قول الحقيقة. إذا لم نطلع على الحقائق فإن هذا يعني اننا مازلنا نتعرض للتآمر. إخفاء المعلومات جريمة بكل المقاييس والتصالح والتسامح لن يكتمل ولن يتم دون الكشف عن الحقائق والاعتراف بالجرائم. الجريمة مستمرة لا شيء غير ذلك.
التشابه بين ما تعرض له الجنوب العربي من قبل اليسار المتطرف مع جرائم محمد ابن عبدالوهاب واتباعه يجعلنا نقول ان المسالة ليست صدفة .. تعددت الصور والرسام واحد.
تناقض الحزب الاشتراكي مع الفكر الماركسي في اهم جوانبه وأعلن حالة العداء للرأسمال الوطني دون ان يكون لديه القدرة للقيام بما هو ضروري في تلبية احتياجات المجتمع فارضا الحصار على نفسه واحكم القبضة على البلد حتى تجمدت فأدى ذلك الى تفجر الصراعات العنيفة وتخلي الشعب عن ما تسميه السلطات بمكتسبات الكادحين في حالة فقدان الثقة بتلك السلطة مثلما خرجت الجماهير الغفيرة في اوروبا الشرقية وروسيا وكل البلدان ذات التوجه اللارأسمالي ضد السلطات والأحزاب التي تدعي النضال من اجل الفقراء والكادحين وكان للمواجهات التاريخية التي بدأت بها حرمة التضامن (اتحاد نقابات العمال البولنديين ) والتي وصل عدد أعضائها حينها الى ما يقارب ثلت السكان 10 مليون والتي اسقطت الحجر ألأولى في مبنى المنظومة الاشتراكية في عام 1989, مواجهاتها مع الحزب الشيوعي , حزب الطبقة العاملة نفسه قدمت علامة استفهام كبيرة , كيف تنتفض نقابة العمال ضد حزب العمال ! لابد ان هذا الحزب لم يعد يمثل العمال ولا مصالحها وهي المسالة التي طرحها ليون تروتسكي في معارضته للمبدأ الرئيس في البناء التنظيمي للحزب الشيوعي "المركزية الديمقراطية " المبدأ الذي خنق الديمقراطية حيث ان ذلك المبدأ يختزل الحزب في المنظمة والمنظمة في اللجنة المركزية ثم في الأمين العام الديكتاتور. ويبرر لينين بأن وجود الديمقراطية في ظروف العمل السري أمر طوباوي وسخيف وهو أمر مبرر الى حد ما لكن ان يتم التمسك في هذا المبدأ بعد ستين عاما وفي بلدان يكون الحزب هو المسيطر والوحيد فإنها السخافة بعينها وهذا امر يدعو للغرابة ويؤكد هيمنة العقول المتجمدة.
هكذا شخّص ليون تروتسكي هذا المبدأ الذي يحكم الحياة الداخلية للحزب ويقرر المستقبل السياسي للحزب وبالتالي البلد ا.. الحزب الذي لا يقبل أي قوة سياسية أخرى بالمشاركة في السلطة.
في معض نقده لمبدأ المركزية الديمقراطية وهي إحدى أبرز نقاط الخلاف التي أدت إلى انشقاق حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي إلى أغلبية (بلاشفة) واقلية (مناشفة) يقول ليون تروتسكي ال\ي انضم إلى المناشفة حينها:
"في السياسة الداخلية للحزب، تقود هذه الطرائق، كما سنرى لاحقا، منظمة الحزب للحلول محل الحزب، واللجنة المركزية للحلول محل منظمة الحزب، وأخيرا الديكتاتور للحلول محل اللجنة المركزية، وتقود علاوة على ذلك إلى قيام اللجان بوضع "التوجيهات" وإلغائها بينما "يظل الشعب أبكما"
ليون تروتسكي. كراسة مهامنا السياسية.1904
هذه هي نقطة الخلاف المركزية بين تروتسكي ولينين بالإضافة الى نظرية الثورة الاشتراكية التي صاغها لينين حول قيامها في بلد واحد كروسيا والتي لم تنضج شروط الثورة الاشتراكية فيها بعد حسب تعبير ليون تروتسكي
كم كان تروتسكي محقا في ذلك لكنه للأسف نقد فكرته هذه وتراجع عن اراءه حول هذه النقطة الهامة فيما بعد وأنظم الى لينين.
لم تعد المسالة نظرية كما كان السجال حينها بين لينين وتروتسكي فقد شهدنا مأساة الأحزاب اليسارية القومية والماركسية منها التي اعتمدت هذا المبدأ أساسا لبنائها الداخلي فتحول حزب البعث العراقي والسوري وكثير من الأحزاب اليسار العربي الى صنم يعبد في شخص الديكتاتور الذي الغى الحزب وحوله الى أداة لتثيبت ديكتاتوريته وتم إلغاء النظام الجمهورية وتأهيل ابنائهما لخلافتهما، وكان الحزب الاشتراكي ا أسواها على الإطلاق فتلك الأحزاب فرّطت بالنظام الجمهوري لكن الحزب الاشتراكي فرّط بالبلد واستقلاله وهويته وهي جريمة لم يفعلها حتى الاستعمار البريطاني.
مبدا المركزية الديمقراطية يعني تناقش اي مسألة داخل المنظمة الحزبية او اللجنة المعنية بشكل ديمقراطي ثم تحسم بالأغلبية وعندها يخضع 49 % ل 51 % ثم يتم مصادرة قناعة وراي الأقلية عبر مبدأ وحدة الإرادة الذي يعني منع أي تكتل داخل الحزب ولا يسمح للأقلية الترويج لقناعاتهم بغية كسب المزيد من الأصوات ويعد الخروج عن هذا المبدأ خرق للنظام الداخلي يعرض صاحبه لأعنف العقوبات. قمع الديمقراطية على هذا النحو هي السبب الرئيس للانفجارات العنيفة التي تعرض لها الحزب الاشتراكي وقبلها الجبهة القومية ثم رأينا كيف تم استخدام هذا المبدأ للالتفاف التنظيم السياسي للجبهة القومية نفسه ففي خضم الصراع بين جناحي سالم ربيع علي – علي صالح عباد مقبل مع جناح عبدالفتاح أسماعيل – محسن الشرجبي اجرى فريق عبدالفتاح )ما سمي بالحوار بين فصائل العمل الوطني الطليعة (البعث سابقا) واتحاد الشعب الشيوعية من مجاميع عبدالله باذيب وهما المجموعتين اللتان لا يمتلكان أي قاعدة شعبية وعضوية تنظيمية تذكر فقط فتمت عملية التوحيد عبر اعلان قيام التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية وهو الذي رجح الكفة داخل اللجنة المركزية لصالح جناح فتاح ومن ثم القضاء على تيار سالم ربيع علي والتخلص نهائيا من الجبهة القومية بالإعلان عن قيام الحزب الطليعي من طراز جديد ( الحزب الاشتراكي) فخلى الجو لتيار عبدالفتاح إسماعيل لإعلان الوحدة مع حزب الوحدة الشعبية مما يعني حسم مسالة القرار لصالح التيار اليمني في الحزب عبر فرض عملية التمثيل التي لا تستطع القواعد الحزبية تجاوزها فتشكلت قيادة لا تمثل إراداتها.
كان الحزب محكوما بهذه الآلية الصارمة التي استخدمت كوسيلة للتآمر على الثورة والبلد. فلم يعد الحزب يمثل التوازن السياسي المعبر عن القوى الاجتماعية لشعب الجنوب بل أصبح لدينا أكثر من نصف قيادة الحزب صاحب القرار هم أصلا حزب معارض في بلد آخر وهو أمر غير مسبوق في التاريخ السياسي للأحزاب في كل البلدان.
طالما وقد أصبح التوازن داخل اطار اللجنة هو الذي يتحكم في القرار السياسي للبلد ولا يهم من هي قواعد الحزب والثقل الاجتماعي التي تمثل في الساحة الجنوبية فقد ظهر هذا الخلل واضحا في هيئات الحزب العليا حيث تمت الاستفادة القصوى من العناصر التي لا تمتلك أي قواعد في الحزب او أي ثقل داخل المجتمع وكان وجودهم فقط لترجيح كفة التصويت كشخصيات دائما ما تصطف الى جانب الأمين العام فقد صار عدد المنتمين الى (الطليعة واتحاد الشعب) سابقا داخل المكتب السياسي تقريبا الثلث ولعبوا دور المنظرين والمبررين لسياسية الأمين العام الديكتاتور وكانوا الى جانب العديد من أعضاء المكتب السياسي المنتمين لحزب الوحدة الشعبية اليمني هم السبب في فشل الحلول السلمية للصراع العنيف الذي نشب داخل الحزب في ثمانينات القرن الماضي وادى الى كارثة يناير 1986م ثم ان هذا الفريق كانوا أيضا من وراء هزيمة التيار الجنوبي الى ناهض علي سالم البيض في توجهاته للذهاب للوحدة دون أي أسس او ترتيبات معقوله. هكذا كانت رؤية تروتسكي عميقة ودقيقة بما يكفي فقد اختزل شعب الجنوب بالحزب واختزل الحزب باللجنة المركزية واختزلت اللجنة المركزية بالمكتب السياسي ومن ثم بالأمين العام حين صعد علي سالم البيض وخطب خطبته الشهيرة التي تشبه خطبة الحجاج ابن يوسف حين بعث لإعادة الأمن في العراق والقضاء على الشغب والتمرد فاتخذ قراره المنفرد بمصير الوطن دون العودة للمكتب السياسي وصمت المناهضون داخل المكتب السياسي واللجنة المركزية خوفا من المصير المخيف لمعارضة الوحدة وتم تجاوز الدستور واتفاقيات الوحدة والمؤسسات الدستورية وتم تجاوز الحزب بكل مراتبة ومنظماته بقرار ديكتاتوري واحد. أعجب كيف ان الفريق الذي ينتمي إليه علي سالم البيض قبل احداث 1986م كانت كل حججه على الأمين للحزب حينها علي ناصر بانه لا يلتزم بقواعد النظام الداخلي وعندما تولى الأمانة العامة علي البيض رمى بالحزب والدولة وبكل مصالح الجنوب عرض الحائط وانفرد بالقرار الكارثي.
يقولون مالا يفعلون اشتراكيون وماركسيون الأمس في عدن ينامون في صنعاء اليوم في كنف وحضانة حزب الإرهاب والتطرف حزب الإصلاح اليمني مثل الكثيرين من المتطرفين الإسلاميين الذين يحصون الأنفاس على الأمة في الفتاوي والوعظ وهم في الخفاء يعقدون الصفقات مع من يسمونهم أعداء الإسلام والأمة. لا خلاف بان علي ناصر كان يسير بالبلد غربا فرغم خطبه العصماء التي كان يختتمها دائما بعبارة "عاشت الاشتراكية العلمية والأممية البروليتارية" لكنه في الحقيقة لا يؤمن بالماركسية وربما لم يقرا عنها شيء ليس هو فقط بل اجزم ان الأغلبية من قادة الحزب في مراتبة العليا لم يمكن بمقدورهم القراءة والاستيعاب للفكر الماركسي فقد كانت مجموعة بيروت وعدد من البروفسورات العرب يتولون مهام التنظير واعداد الوثائق المطلوبة. وكان يسانده في توجهه هذا المنظرين المتمركسين كباذيب وانيس حسن يحي. قد يكون علي ناصر قد صحا بعد غفوة في مراجعة سياسة الجنوب وعلاقته بدول الجوار والتعامل مع الرأسمال الوطني إلا انه استخدم الوسيلة الخاطئة لذلك. لم يستخدم حججه المقنعة في كسب أكبر عدد ممكن ويؤخذ عليه انه لم يجيد اللعبة ولم يعر للتوازن الاجتماعي في الجنوب أي أهمية وحاول اقصاء الاغلبية بطرق شتى ومنها الاغتيالات وخلق لنفسه بنفسه معارضة طامحا بتأسيس ديكتاتورية خاصة به يحيط به عدد من الذين لا يعارضون مهما كانت الأسباب[n1] .
وددت من الاستعراض لجملة المعلومات والاستنتاجات هذه ان ابين حجم التناقض بين الأقوال والأفعال التي تتجلى في سلوك الأحزاب او الجماعات السياسية التي ترفض الديمقراطية والتي تفتقر للشفافية، فلجأت إلى ممارسة الديماغوجية والتظليل وهي سمة لازمة للأحزاب اليسارية الراديكالية والجماعات الاسلاموية على حد سواء وتلك نتيجة طبيعية للصفة الكهنوتية لهذه الأحزاب والجماعات في تقديس النص وتحريم مناقشته.
ولهذا فليس غريبا ان تقوم نقابات العمال في بولندا بالثورة على حزب الطبقة العاملة وإسقاطه. بكل تأكيد هناك شيئا ما بل وخلل فضيع ارتكبته تلك الأحزاب الشمولية المتطرفة عند تجاهلها لحاجة الإنسان للحرية والديمقراطية. لا يكفي ان يأكل الإنسان ويلبس بل لابد من ان يتنسم هواء الحرية فالإنسان في هذه المجتمعات تم احتقاره وإذلاله فكان الإنسان الجنوبي لا يستطيع مغادرة البلد هذا إذا سمح له بدخول الكثير من البلدان التي تعتبر كل جنوبي إرهابي، وإن غادر فإن جواز سفره محاطا بالقيود والأختام التي لا تسمح له سوى بالسفر سوى إلى الدول الاشتراكية وسوريا واثيوبيا وعند عودة الجنوبي من السفر يتم حجز جوازه ولا يسلم له الا عند المغادرة بتكليف حكومي او إذن خاص. تلك السياسية التي حبست العقل الجنوب فب القفص فتوقف العقل الجنوبي عن التفكير وفي لحظة ما تم اقتياده الى المسلخلة كالقطيع دون أي مقاومة بل انه ظل مشدوها لا يشعر بما يدور حوله من تآمر لأكثر من عقد من الزمان حتى بدأت الصحوة الجنوبية وبدا العقل الجنوبي يعود لوعيه.
لم أتمكن من أنزال باقي البحث لعدد الصفحات الكثيرة لهذا سأواصل في الحلقة القادمة بالتركيز على التجربة الثورية والسلطة في الجنوب العربي.
*ناشط سياسي وباحث من الجنوب العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.