اتخذت المواجهات الأخيرة بين السلطات اليمنية وخلايا الذراع اليمنية لتنظيم “القاعدة” طابعي المواجهة المباشرة والحرب المخابراتية بعدما فاجأ التنظيم صنعاء بقدرته على امتصاص آثار الضربات العسكرية والشروع بنقل مركز نشاطه من مناطق القبائل في محافظة مأرب إلى محافظات أخرى كنتيجة للضربات التي قالت صنعاء إنها كانت قوية وأدت إلى تدمير العديد من خلاياه وأوكاره وفرار من تبقى من قيادته إلى مناطق أخرى. وإلى أهداف أخرى فقد استهدفت الحرب المخابراتية في المقام الأول التصدي لمخططات التنظيم التي سعى من خلالها إلى الزج بالقبائل في معادلة الصراع مع الحكومة وتحويلها إلى سياج حام لعناصره وخلاياه على غرار النموذج الذي اعتمده تنظيم “القاعدة” في مناطق القبائل الباكستانية. سعت صنعاء إلى أن تكون عملياتها العسكرية ضد خلايا التنظيم في مأرب مميتة أملا في أن تكون هذه الحرب هي الأخيرة بالتوازي مع الحرب التي قادتها واشنطن على معاقل التنظيم في مناطق القبائل الباكستانية حتى لا تكون اليمن ملاذا للفارين من باكستان وأفغانستان غير أن هذه الآمال تبخرت تماما بعدما كشفت صنعاء عن فرار الكثير منهم من مناطق القبائل اليمنية في محافظة مأرب إلى محافظات أخرى ومنها محافظة عدن القريبة من القرن الإفريقي في التحرك الذي كشف إلى حد كبير عن ملامح خطة بديله للتنظيم في نقل نشاطاته من اليمن إلى الصومال. يؤكد كثير من المسؤولين أن نشاط التنظيم الأصولي في محافظة مأرب تحول في الآونة الأخيرة إلى هاجس أمني لدى السلطات اليمنية ولا سيما بعد الهجمات المتتالية التي شنها التنظيم في الآونة الأخيرة وتجاوزه الدائرة اليمنية إلى التخطيط لهجمات استهدفت عمق الولاياتالمتحدةالأمريكية في عملية التفجير الفاشلة التي استهدفت طائرة ركاب أمريكية ليلة عيد الميلاد إلى الهجوم الانتحاري الذي استهدف السفير البريطاني بصنعاء تيموثي أشيل تورلوت وهما الحادثان اللذان أعادا اليمن إلى واجهة الصدارة في الحرب على الإرهاب ولا سيما بعدما تبين أن النيجيري الذي حاول تفجير طائرة الركاب الأمريكية عمر الفاروق عبد المطلب تلقى تدريباته في اليمن فضلا عن أن الشاب الانتحاري الذي استهدف موكب السفير البريطاني بصنعاء تدرب على هذا الهجوم لدى خلايا “القاعدة” في محافظة مأرب. وإلى هجمات أخرى استهدفت مرافق حيوية واقتصادية ومسؤولين مدنيين وعسكريين في محافظة مأرب فقد وضع النشاط الجديد ل”القاعدة” صنعاء أمام خيارات صعبة في ظل ضغوط دولية متنامية في قدرتها على التخفيف من الخطر الناشئ للتنظيم خصوصا بعد ظهور تقارير دولية وأمريكية تحدثت عن فرار العديد من قياداته ومقاتليه من مناطق القبائل الباكستانية إلى اليمن ولا سيما بعد إعلان التنظيم “تشكيل قيادة موحدة لعناصر التنظيم في اليمن والمملكة العربية السعودية تحت اسم “تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب” إلى إعلانه عن “ولاية مأرب الإسلامية”. منذ الحرب التي قادتها واشنطن على خلايا التنظيم في مناطق القبائل الباكستانية لم يكف جناحه اليمني عن تنفيذ هجماته التي استهدفت مرافق حيوية واغتيال مسؤولين أمنيين وعسكريين ومدنيين، ناهيك عن تبنيه مخططات باستهداف مرافق اقتصادية واغتيال مسؤولين وسفراء أجانب. ورغم إعلان صنعاء أن أجهزة الأمن والجيش اليمني دمرت وفككت كثيراً من خلاياه في العديد من المحافظات منذ العام الماضي إلا أن ظهورها الكبير في محافظة مأرب القى بالشكوك على مدى نجاح صنعاء في الحد من خطر التنظيم بعدما حول محافظة مأرب الشرقية المعروفة بطبيعتها الصحراوية والجبلية القاسية والشديدة الوعورة وتعقيداتها القبلية إلى بؤرة ملتهبة ونجاحه في استقطاب العشرات من رجال القبائل في صفوفه. هذه المعطيات إلى أخرى على صلة بمسلسل الاغتيالات الذي باشره التنظيم ضد قيادات عسكرية وأمنية لعبت دوراً في دفع صنعاء إلى فتح جبهة “حرب مفتوحة “ مع خلايا التنظيم وتصاعدت أكثر بعدما كشفت التحقيقات تورط “القاعدة” باغتيال عدد من الضباط الأمنيين والعسكريين إلى تدريب انتحاريين من الشباب من جنسيات يمنية وعربية وأجنبية. ولم يكن استئناف التنظيم لنشاطه في مأرب المعروفة بتركيبتها القبلية المعقدة والتي يضعف فيها نفوذ الدولة خصوصاً في مناطق القبائل سوى جزء من سيناريو كبير تبناه الجناح اليمني للتنظيم منذ إعلانه تأليف قيادة موحدة لخلاياه في اليمن والمملكة العربية السعودية واستهدفت ضمن أشياء أخرى تحويل هذه المنطقة القبلية إلى قاعدة خلفية لعناصره الفارين من باكستان وأفغانستان نتيجة الحرب التي تقودها واشنطن عليهم هناك وخصوصاً أنها تتشابه إلى حد كبير مع مناطق القبائل الباكستانية التي أثبتت التجارب الميدانية مدى نجاعتها في حماية تكوينات التنظيم الأصولي في ظل الحرب الدولية التي تقودها واشنطن على “الإرهاب”. واتجهت صنعاء إلى شن عمليات عسكرية كبيرة شارك فيها سلاح الجو والمدفعية استهدفت قيادات التنظيم في منطقة وادي عبيدة بمحافظة مأرب ضمن سياسة “الضربة الخاطفة” لتلافي الحرب الطويلة في مناطق القبائل لكنها في الواقع تفاجأت بالتكتيك الذي اتبعه التنظيم الأصولي في موجهة الحملة الحكومية بعدما وجدت أن خلاياه قطعت شوطا في مشروعها الزج برجال القبائل في معادلة الصراع بعد أشهر طويلة من العمل في صفوفهم واستقطاب العشرات منهم على غرار السيناريو الذي اتبعته القاعدة في مناطق القبائل الأفغانية والباكستانية. طبقاً لتأكيدات مسؤولين رفيعي المستوى فقد أدت العمليات العسكرية التي شنها الجيش على أوكار “القاعدة” في محافظة مأرب والتي اتسمت بالقوة الضاربة والمفاجأة إلى تدمير أكثر أوكار ومعسكرات التدريب التابعة للتنظيم إلا أن حلقاتها لم تكتمل في شل قدرته على التنقل والاختباء وشن هجمات انتقامية مباغتة وهو ما عكسته الهجمات الانتقامية التي شنها التنظيم واستهدفت مقراً لجهاز المخابرات اليمني في عدن ومواقع عسكرية وأمنية ودوريات للجيش في محافظتي عدنومأرب والتي رأى محللون أنها خلطت الأوراق ونقلت الجميع من مربع الحرب الخاطفة إلى دائرة الحرب الطويلة. وقياساً إلى عمليات الدهم والملاحقات فقد باشرت صنعاء حرباً جوية وبرية عنيفة في المناطق التي يختبئ فيها عناصر التنظيم الأصولي بوادي عبيدة بمحافظة مأرب ما أدى إلى إشعال احتجاجات في صفوف القبائل. يشير بعض المسؤولين المحليين في مأرب إلى أن خلايا “القاعدة” في هذه المحافظة حاولت جر القبائل إلى دائرة الصراع مع الجيش في مخطط كاد يشعل حرباً شعواء بين الجيش اليمني والقبائل التي شرعت بدورها بجمع رجالها المسلحين وحشد ترسانتها المخزنة من السلاح وشنت هجمات على مرافق نفطية واقتصادية وعلى مواقع لقوات الجيش خلفت خسائر كبيرة. ويلاحظ هؤلاء أن التنظيم الأصولي عبر في بياناته الأخيرة صراحة عن هذا التوجه عندما دعا القبائل اليمنية في مأرب إلى أن تحذو حذو القبائل الأفغانية والباكستانية في التصدي للحملات الصليبية فيما اعتبر “دليلاً على شعور التنظيم بسقوط رهاناته على القبائل التي أعلنت تالياً مساندتها للدولة في جهود الحرب على “القاعدة” ومخططاتها الإرهابية”. لكن العملية التي قتل فيها نائب محافظ مأرب الشيخ جابر الشبواني وهو نجل زعيم قبيلة عبيدة في محافظة مأرب إلى جانب عدد من مرافقيه كانت برأي هؤلاء القشة التي قصمت ظهر البعير خصوصاً بعد اعتراف التنظيم بأنه استدرجه قبيل الغارة الجوية التي يعتقد أن طائرة أمريكية من دون طيار نفذتها وكانت تستهدف قيادياً في التنظيم كان الشبواني يفاوضه من أجل الاستسلام وأخطأت هدفها إلى سيارة الشبواني الذي قضى وعدد من مرافقيه. وبدا أن صنعاء التي لم تكن على علم بهذه الغارة خصوصاً أن الشبواني كان في مهمة رسمية للتفاوض مع قيادات القاعدة المطلوبين لإقناعهم بالاستسلام قدمت للتنظيم الأصولي ورقة رابحة على طبق من ذهب ليبدأ الأخير بحشد القبائل لمواجهة الحملة العسكرية بمبرر “التصدي الطغيان الأمريكي الذي استحل الحرمات بطائراته المغيرة إلى اتهامه صنعاء بالعمالة لأمريكا وهو ما بدا واضحاً في رد فعل رجال القبائل على العمليات العسكرية التي شنتها الجيش على أوكار تنظيم “القاعدة” في وادي عبيدة. ويؤكد وجهاء قبائل في مأرب ان رجال القبائل لم يكونوا في واقع الأمر موالين لتنظيم “القاعدة” بل ان القوة النارية التي استخدمتها الحملة الحكومة عززت الشعور لديهم بأن الحملة العسكرية كانت أكبر من حجم التهديد الذي أعلنت عنه صنعاء خصوصاً أن عدد المطلوبين من أعضاء “القاعدة” والذين قالت صنعاء إنهم متورطون في عملية استدارج نائب محافظ مأرب الشيخ الشبواني واغتيال أركان حرب اللواء 315 مدرع العقيد محمد الشائف لا يتجاوز العشرين شخصاً. ورغم أن مسؤولين برروا ذلك بأنه يعود إلى خشية السلطات من سقوط ضحايا كثر من الجنود وتحسبا من أن يؤدي ضعف الحملات العسكرية إلى فرار المطلوبين إلى مناطق أخرى إلا أن بعض وجهاء القبائل اعتبروا أن الآلة العسكرية الكبيرة التي نشرتها صنعاء في مأرب والآثار التي خلفها القصف العنيف على القرى التي تمركز فيها المطلوبون قوى تنظيم “القاعدة” عوض إضعافه كما عزز المخاوف من أن تجر هذه الأزمة الطرفين إلى تداعيات خطيرة شبيهة بالحالة التي سادت في محافظة صعدة حيث أنتج عنف السلطة عنفا خارج السيطرة أدى إلى اندلاع ست حروب. المصدر : الخليج أسهمت بيانات “القاعدة” في تنامي مشاعر العداء لدى القبائل خصوصاً وهي حاولت استمالتها من طريق بروبوغندا سعت إلى تحريك قيم النخوة والشهامة لدى مجتمعات القبائل باتهام صنعاء تنفيذ أجندة أمريكية لقصف “المنازل والمزارع وانتهاك الحرمات وتدمير المساجد وموالاة الصليبيين” فضلاً عن محاولته إثارة القبائل عن طريق تحريك المشاعر المعادية لأمريكا والغرب. وأدى ذلك إلى اتهام بعض زعماء القبائل صنعاء صراحة بتنفيذ سيناريو معد سلفاً مع الولاياتالمتحدةالأمريكية من دون الاكتراث بحياة المدنيين ما حول الموقف السائد لدى القبائل الرافض لخلايا ونشاطات “القاعدة” في مأرب إلى تأييد مع مضي صنعاء في حملتها العسكرية التي خلفت عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين الأبرياء. وزاد من ذلك أن تصدر الجناح اليمني لتنظيم “القاعدة” مشهد المواجهة باعلان مقاتليه أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي حيال “ما يقع على نسائنا وأطفالنا وإخواننا في وادي عبيدة” إلى تحذيره القبائل عدم السكوت ومواجهة “الحملات الصليبية والطائرات الأمريكية تكشف حرمات بيوتكم”. لكن صنعاء لم تكن بعيدة عن خط المناورة إذ أحبطت مخططات التنظيم في تجنيد القبائل بتحركات أمنية وسياسية واسعة النطاق شارك فيها الرئيس علي عبدالله صالح الذي أمر عقب الغارة الجوية مباشرة بتأليف لجنة لتقصي الحقائق في حادثة مقتل نائب محافظ مأرب الشيخ جابر الشبواني كما تمكن من احتواء غضب القبائل عن طريق ارساله تحكيماً قبلياً إلى زعيم القبيلة والد الشبواني انتهى باتفاق هدنة أوقف المواجهات في سياق توجهات بدا أنها استهدفت بشكل مباشر تقويض نفوذ “القاعدة” الذي حاول التوسع في هذه المحافظة ذات التركيبة القبلية المعقدة والتي كادت تتحول إلى ساحة حرب بين الجيش ورجال القبائل بعد مواجهات خلفت في يوم واحد خسائر قدرها مليار ريال نتيجة تفجير القبائل أنبوب النفط المخصص للتصدير إلى تفجيرهم المحطة الغازية لإنتاج الطاقة الكهربائية. ورأت دوائر سياسية أن الهجوم على مقر المخابرات يندرج في سياق رد الفعل حيال التضييق الذي تعرضت له خلايا “القاعدة” في محافظة مأرب التي كانت حتى وقت من أهم معاقلهم، مشيرين في ذلك إلى بيانات وزارة الداخلية التي تحدثت عن “مواصلة تضييق الخناق على العناصر الإرهابية بعد أن قطعت عليهم أكثر الطرق وأصبحت محصورة في مناطق معينة”. لكن العديد من المسؤولين اعبتروا الهجوم على مقر المخابرات لم يكن دليل قوة قدر ما كان دليل ضعف “فبمجرد أن سقطت رهانات القاعدة في مجتمعات القبائل شن التنظيم أول هجماته ضد مقر جهاز المخابرات في محافظة عدن” في العملية التي أدت إلى مقتل سبعة جنود وثلاث نساء مجندات وطفل وخلفت تداعيات أمنية وسياسية غير مسبوقة، ناهيك عن هجمات أخرى في مأرب استهدفت مواقع عسكرية ودوريات ومرافق اقتصادية. حرب طويلة ورغم أن صنعاء كانت تأمل في أن تكون العمليات العسكرية التي استهدفت خلايا “القاعدة” في محافظة مأرب ومحيطها آخر محطات الحرب على الإرهاب إلا أن هذه الآمال تبخرت بعدما تمكن التنظيم من احتواء آثار العمليات العسكرية بخطط بديلة وتنفيذ هجمات قوية عززت الاعتقاد بأن الحرب على “القاعدة” قد تطول خصوصا أن فرص تقويض نفوذ التنظيم في اليمن محدودة للغاية. وتؤكد دوائر سياسية يمنية أن “القاعدة” تحول في الآونة الأخيرة وبسبب التركيز على اليمن بوصفها قاعدة خلفية لخلايا التنظيم التي تواجه حرباً شعواء في مناطق شتى في العالم إلى قوة صاعدة يصعب تفكيكها عن طريق العمليات العسكرية والقوة المفرطة. فضلاً عن ذلك فقد أكدت هجمات “القاعدة” الأخيرة مدى التطور الكبير في الأساليب الهجومية لدى خلايا “القاعدة”، كما أكد تصاعد قوتها وأنها ربما قادمة على عمليات كبيرة على غرار العملية التي استهدفت طائرة ركاب أمريكية عشية عيد الميلاد والتي تبين أن منفذها النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب تلقى تدريباته في اليمن. ويقول هؤلاء إن الهجوم الأخير الذي أحدث لدى السلطات الأمنية في اليمن هزة عنيفة فقد أكد بالمقابل أن هذا التنظيم لا يزال يمثل تهديداً أمنياً كبيراً خصوصاً بعدما أثبت أنه قادر على خرق التحصينات الأمنية والانتقام من الضربات العسكرية بايقاع أكبر عدد ممكن من القتلى في أوساط رجال الأمن والشرطة مقابل عدم وقوع أي ضحايا أو إصابات من بين عناصره. وثمة من يرى أن الفترة القادمة قد تشهد المزيد من عمليات الكر والفر في سياق الحرب التي تشنها صنعاء على الإرهاب خصوصاً مع التأييد الأمريكي الواسع النطاق للحكومة في هذه الحرب والذي يتوازى إلى حد كبير مع تنامي مشاعر العداء لأمريكا و”إسرائيل” التي تستغلها “القاعد” في تجنيد المزيد من الشباب الجدد في صفوفها.