كتب/د.حميد محمد علي اللهبي أود أن استهل الموضوع بالحديث عن ما كان يفترض أن يكون رغم أن الوضع الحالي يتطلب تقديم الحلول والمخارج للأزمة السياسية الطاحنة التي تمر بها اليمن منذ ما يقارب التسعة أشهر. فما كان مفترض أن يكون هو تحقيق ما نحلم به في إقامة دولة يمنية مدنية حديثة بما تعنيه الكلمة من معنى كما هو موجود في الكثير من بلدان العالم .. دولة يسود فيها النظام والقانون وتتحقق فيها العدالة والمساواة والمواطنة الكاملة..دولة تقوم على نظام مؤسسي حقيقي بغض النظر عن شكل النظام السياسي.. دولة تجنب الوطن مزالق الفتن والفرقة وويلات الحرب التي لا تبقي ولا تذر كون الحاكم الفعلي فيها والكلمة الفصل تكون للقانون وليس للرشاشات والمدافع التي أصبحت في متناول الأطفال ناهيك عن الكبار سواء من أنصار السلطة أو المعارضة يعبثون بها في شوارع المدن الرئيسية عندما لم توجد دولة القانون والمؤسسات. أقول: إن إقامة الدولة المدنية الحديثة هو المخرج مما نحن فيه اليوم وهو الطريق الموصل إلى مستقبل أكثر أمانا وتقدما وتطورا لليمن وشعبه كون تلك الدولة ستقوم على الأسس والمبادئ التي كان تغييبها سبب الاخفاق في الوصول إلى مرحلة الدولة المدنية, بل وسببا لما وصلنا إليه اليوم من تدهور في شتى المجالات, فلو أننا أدركنا منذ البداية سلطة ومعارضة مثقفين وعلماء وشباب ووجهاء تلك الحقائق التي لا جدال فيها ولا مفر منها وهي أن الوطن يتسع للجميع وأنه لا يحق لأحد إقصاء الآخر أو إلغاؤه, وأن السلطة للشعب وهو وحده الذي يملكها ويمارسها وليست لحزب أو فرد, وأن الثروة ملك الشعب وهو وحده المتصرف فيها, وأنه لا يحق لأي شخص كان أو تنظيم أو فئة أو قبيلة الاستئثار بالسلطة أو بالثروة أو بهما معا, وأن الديمقراطية الحقيقية هي سيادة القانون وليس الحزب أو القبيلة بل ولا حتى الأكثرية, وأنه في ظل غياب وإلغاء هذه الحقائق والأسس لا يمكن بحال من الأحوال بناء الدولة المدنية الحديثة, بل ولا يمكن أيضا تحقيق مفهوم (التوافق الوطني) الذي نطالب به اليوم باتعتباره أحد الحلول للأزمة الراهنة. وإنني أتمنى على الجميع أن نعي الدرس المؤلم الذي تلقيناه إبان ما سميت بثورة السادس والعشرين من سبتمبر1962م عندما (ثار) الجمهوريون على الملكيين وتحاربنا جمهوريين وملكيين قرابة الثمان سنوات حتى دمرت الحرب البلاد ثم بعد أن ازهقت الأرواح وأريقت الدماء وأنهكت الأطراف المتقاتلة(محلية وإقليمية)عاد الجميع وقتها إلى جادة الصواب وجلسوا على طاولة الحوار وأدركوا أخيرا أن الوطن للجميع والسلطة والثروة ملك للجميع وأنه لا يمكن لأحد إقصاء الآخر فعادوا إلى مبدأ الشراكة وشكلوا دولة جديدة وحكومة (وفاق وطني) حكم فيها الجمهوريون والملكيون سويا استنادا إلى ما عرف حينها بوفاق1970. إذا, فواجب المواطنة والانتماء لهذا الوطن المعطاء والحرص على اليمن وشعبه للخروج من هذه الأزمة الطاحنة التي أزهقت أرواح اليمنيين الطاهرة وسفكت دمائهم الزكية وقضت أو كادت أن تقضي على حياة اليمنيين وممتلكاتهم ومقدراتهم وسبل معيشتهم وأسلوب حياتهم خلال أشهر - فكيف لو استمر سنوات- يحتم على كافة أبناء الشعب اليمني سلطة ومعارضة سياسيين ومثقفين علماء ووجهاء وشباب رجالا ونساء مسؤولية وقف هذا الجرح النازف الذي لا يمكن أن يندمل إلا بترسيخ أسس ومبادئ الدولة المدنية التي أشرنا إليها آنفا, وهو ما يتطلب بداهة في الوقت الراهن الاتفاق على (حكومة وفاق وطني) بما تعنية الكلمة من معنى. مدركين فيالوقت ذاته الحقيقة التي لا جدال فيها وهي أنه لا يمكن أن يتحقق مبدأ التوافق الوطني الذي نتغنى به ليل نهار إلا عندما يكون هناك توزيع عادل للثروة والسلطة بين أفراد الشعب بمختلف فئاته وأطيافه وبالعمل سويا وفقا لمبدأ الشراكة الفعلية والمواطنة الحقيقية وأن الاتفاق الجزئي بين طرفين أو أكثر من أطراف العمل السياسي لا يمكن بحال - وإن تم- أن يحقق مبدأ التوافق الوطني المنشود ما لم يشترك فيه كافة أطراف وفصائل العمل السياسي داخل اليمن وخارجه, واضعين في الاعتبار أنه ليس عيبا أو ضعفا إذا قدم هذا الطرف أو ذاك بعض التنازلات من أجل اليمن, بل ستعد تلك التنازلات منجزات مشرفة تضاف إلى سجله التأريخي. وإذا كنا نرى اليوم أن تشكيل (حكومة الوفاق الوطني) هو الحل للأزمة فعلينا أن نقدم المقترحات والتصورات لهذه الحكومة بكل حيادية وبلا أنانية لكيفية وآلية تشكيلها وأن تتاح الفرص الكافية لمناقشة تلك الآراء والأفكار في مختلف المنابر الإعلامية لإثرائها, لا أن نظل متمترسين وراء أفكار وآراء وتوجهات هذا الطرف أو ذاك, بل يجب أن نقف صفا واحدا من أجل اليمن واليمن فقط باعتبارها في الوضع الراهن هي الحزب الوحيد لكل اليمنيين. ولذا نرى أنه من الواجب علينا كما هو واجب الجميع أن نستمر في تقديم المقترحات والحلول لكيفية الخروج من هذه الأزمة. ومن هذه المنطلقات, وإذا كنا متفقون على تشكيل(حكومة وفاق وطني) كحل للأزمة فإن مدى نجاحها أو فشلها مرهون بأن لا يستثنى منها طرف من الأطراف السياسية الفاعلة سواء في الداخل أو الخارج. وإسهاما منا في تحقيق هذه الغاية لا نكتفي بمجرد تقديم وجهة نظر فقط, بل نتبعها بتصور ومقترح عملي لآلية تشكيل هذه الحكومة وهو ما يسهم في انفراج الأزمة بشكل حقيقي, وهذا المقترح والتصور يقوم على الآتي:- أولا: إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين ومعتقلي قضايا الفكر. ثانيا: تشكل حكومة (الوفاق الوطني) من كافة أطياف العمل السياسي والحزبي في اليمن بمن فيهم (الحراك الجنوبي) و(المعارضة اليمنية في الخارج) و(حركات الشباب) و(الحوثيون) ويتم تقاسم الحقائب الوزارية وفقا لآلية معينة ونسب يتفق عليها الجميع حتى يكون هنالك توافق وطني حقيقي. ثالثا: يكلف أحد قادة المعارضة اليمنية في (الخارج أو من الحراك الجنوبي) برئاسة حكومة (الوفاق الوطني) وتكون مدتها أربع سنوات من تاريخ أدائها اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية. رابعا: فور تشكيل حكومة (الوفاق الوطني) يعلن رئيس الجمهورية تخليه عن سلطاته الرئاسية وفقا للمادة(116)من الدستور على اعتبار أن حالته الصحية لم تعد تمكنه من الاستمرار في أداء مهامه الرئاسية ويتولى نائب الرئيس مهام الرئاسة وفقا للدستور. خامسا: تلتزم حكومة (الوفاق الوطني) فور إعلان الرئيس تخليه عن مهامه بإزالة كافة أشكال ومظاهر التوتر الأمني والسياسي ورفع كافة الاعتصامات ووقف المظاهرات والمسيرات والعمل على عودة الحياة الطبيعية إلى البلاد. سادسا: يمارس نائب الرئيس مهام وواجبات رئيس الجمهورية استنادا إلى المادة(116)من الدستور ولكن لمدة عامين يعمل خلالهما مع الحكومة على: 1- فرض سيادة القانون ولا أحد فوق القانون. 2- حصر كافة القتلى والجرحى من أبناء اليمن الذين قضو في المظاهرات والمسيرات وأعمال العنف التي جرت خلال الأزمة السياسية منذ فبراير2011 ومعاملة كافة القتلى كشهداء حرب ورعاية أسرهم والاعتنا بالجرحى ورعايتهم رعاية صحية كاملة على نفقة الدولة. 3- العمل بجدية ومصداقية وحيادية كاملة على كشف المتورطين في عمليات قتل وسفك دماء اليمنيين أثناء المسيرات والمظارهات منذ تفجر الأزمة بما في ذلك المتورطين في حادث محاولة اغتيال الرئيس وكبار رجالات الدولة ومحاكمة المتورطين محاكمة عادلة. 4- إخراج المجاميع المسلحة من المدن اليمنية والمنع الصارم لمظاهر حمل السلاح وإطلاق النار داخل المدن ومصادرة قطع السلاح التي توجد بحوزة المدنيين الذين يجوبون الشوارع أو الذين يتمترسون في المنازل والحارات أو أية مباني أو أماكن أخرى مهما كانت الجهة التي يتبعونها. 5- حصر الأضرار المادية التي لحقت بالمباني والمحلات والشركات الخاصة وتعويض مالكيها تعويضا عادلا. 6- تشكيل لجنة حوار وطني من كافة أطياف العمل السياسي والجماهيري في اليمن بمن فيهم المتخصصين لإعداد دستور وطني جديد للجمهورية يحدد فيه ملامح الدولة اليمنية المدنية الحديثة والأخذ بالنظام (البرلماني) كتجربة جديدة لا ضير في الأخذ بها وكذا الأخذ بالنظام (الفيدرالي) إن تم الاتفاق عليه, إضافة إلى تضمين الدستور الجديد العديد من المبادئ الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها الدولة الجديدة والتي من أهمها (تحييد الجيش وإعادة هيكلته وأن يكون تحت إمرة البرلمان), والتأكيد على أن تكون فترة رئيس الجمهورية دورتين انتخابيتين فقط مدة كل دورة خمس سنوات لا يحق له الترشح بعدهما. 7- فور الانتهاء من إعداد وصياغة الدستور الجديد والاتفاق عليه يتم عرضه على الشعب للاستفتاء عليه. 8- فور الانتهاء من عملية الاستفتاء على الدستور الجديد وإقراره من قبل الشعب يعلن رئيس الجمهورية المكلف عن إجراء انتخابات رئاسية, على أن تجرى هذه الانتخابات في الشهر الأخير من السنتين المحددتين لرئيس الجمهورية المكلف. 9- يقوم رئيس الجمهورية المنتخب بالإعداد والتحضير لإجراء انتخابات برلمانية جديدة وفق الدستور الجديد على أن تجرى هذه الانتخابات خلال الشهر الأخير من الأربع السنوات المحددة (لحكومة الوفاق الوطني). 10- يتاح المجال ودون عراقيل لكافة أطياف العمل السياسي في داخل اليمن وخارجه ممن ليس لهم تنظيمات حزبية وسياسية معتمدة قانونا أن يشكلوا لأنفسهم أحزابا وتنظيمات سياسية أو أن يندمجوا مع الأحزاب الموجودة ليتمكنوا من خوض الانتخابات البرلمانية ومن ثم المشاركة في الحكومات الائتلافية المتتالية. 11- فور الانتهاء من الانتخابات البرلمانية وتشكيل هيئة رئاسة البرلمان يتم تشكيل (حكومة ائتلاف وطني) جديدة من الأحزاب والتنظيمات السياسية وتكتلات المستقلين -إن وجدت- والممثلة جميعها في البرلمان حسب نسبتها ووفقا للآلية التي يحددها الدستور الجديد. سابعا: إثباتا لحسن النية من الأطراف المتنازعة على السلطة في الوقت الحالي وعلى وجه الخصوص: الرئيس علي عبد الله صالح وكافة أقاربة بمن فيهم المنشقين عنه وكافة أولاد المرحوم/ الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ولعدم تكرار الصراع من جديد يلتزمون جميعا بعدم مشاركتهم في أية مناصب في حكومة (الوفاق الوطني) التي ستشكل أو في خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة, ويحق لمن يرغب منهم الترشح لعضوية البرلمان فقط. ثامنا: يوقع جميع أطراف العمل السياسي في اليمن وخارجه على وثيقة تسمى وثيقة (الشرف أو العهد الوطني) أو أية تسمى يرونها, وبموجب هذه الوثيقة يلتزم الجميع ويتعهدون أمام الله وأمام الشعب وأمام المجتمع الدولي بعدم اتخاذ أية إجراءات انتقامية أو ثأرية ضد بعضهم البعض عما حصل في الفترات الماضية منذ تحقيق الوحدة اليمنية 1990م حتى اليوم يتم التصديق عليها وإيداعها لدى جامعة الدول العربية ومن له أية دعاوى قانونية فيلجأ إلى القضاء للفصل فيها وفقا للقانون. ولكن .. هذه الرؤية والتصور وغيرها من الرؤى والأفكار والمبادرات التي قدمت والتي ستقدم مهما وصلت إلى مستوى من النضج والقدرة على حلحلت الأزمة أعتقد أنها لا يمكن أن تؤتي ثمارها, بل قد يستحيل تطبيقها طالما أن الأطراف المتنازعة لم تستوعب بعد مفاهيم وأسس بناء الدولة المدنية الحديثة ولم تع الدرس من حرب الملكيين والجمهوريين في الستينيات ولم تأخذ العبر والعظات مما جرى ويجري اليوم في اليمن وتونس ومصر وليبيا وسوريا.. و..... هذا والله من وراء القصد *أكاديمي وباحث في القانون الدولي [email protected]