ليس الهدف هنا في هذا المقال التقييم سلباً أو إيجاباً لما يحدث داخل قاعات ما يُسمى الحوار الوطني المقام في صنعاء، وما يمكن أن ينتج عنه من تغيير في البنية السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، لقد قامت صيغة التحالفات في اليمن طوال الفترات الماضية وحتى الآن، وهي أقرب إلى الهشاشة وعدم التكافؤ ، إضافة إلى ما يشوبها من الارتياب والحذر والسلبية بنظر أطراف التحالف أنفسهم، هذه الحالة والتي بدأت منذ وقت مبكر، وقد تجلت بأوضح معانيها وصورها في العام 2011م ولا تزال موجودة، تقريباً مع تفاوت يسير في حدة الخلافات ومشروعيتها القانونية، والتاريخية ، ومن تبدل الخصوم، وهي تشكل -الآن- قمة المأساة للوضع الراهن. بكلماتٍ أخرى: إن انعدام المصداقية بين الأطراف، وعدم وجود تقاليد أو صيغ للتعبير عن الفكر والمواقف، والركون إلى قناعات بدائية أو يقين لاهوتي بأن الحقيقة، كل الحقيقة، في هذا الجانب وحده، وعدم الرغبة في فهم الآخر أو محاورته، إضافة إلى العلاقات القبلية داخل المؤسسات السياسية جميعها، كل ذلك جعل الأمور تتداخل وتتشابك إلى درجة يصعب معها الوصول إلى الشيء المشترك، والفهم المتبادل، وتحديد أولويات المرحلة. في هذا الجو الملتبس، المتداخل، والذي يغلب عليه الآني والطارئ وتميز الشطارة والمناورة، فإن أغلب ما يكتب أو يقال يذهب أدراج الرياح، وبالتالي يحس الكثيرون بعدم الثقة وأن لا جدوى، وهذا ما يفسر عزلة الكثير من القوى السياسية، ويفسر أخيراً لماذا لم تتبلور الحوارات التي جرت سابقاً، ولم تؤد إلى نتائج مهمة وملموسة في مسيرة العمل السياسي اليمني. إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تبدل المناخ العام؟ وهل تغيرت القوى المدعوة للحوار؟ لا نريد هنا أن نصدر أحكاماً، ولكن يمكن القول، دونما خطأ: إن الوضع الآن لا يقل سوءاً عما كان عليه إبان النظام السابق، فالتقاليد القبلية، معززة بفكر سلفي ودغمائي تسيطر على الأجواء ، والعلاقات بين القوى ، والتعصب تبلغ أعلى مراحله وكأنه أصبح الوسيلة الأخيرة للدفاع عن النفس وعن المصالح . وهكذا أصبح الانهيار والتآكل وانسداد الأفق من ملامح الوضع الراهن ، وهذا لا يخفى على أحد، حاكم أو محكوم، كما أصبح الشعور بالخطر الداهم قوياً ، ومسيطراً، وهذا الشعور يشمل الجميع ، ويتجلى بصور وأشكال تتضح وتتعزز يوماً بعد آخر ، فهذا الشعور بالخطر يؤدي إلى وقفة نقدية صارمة ، ومواجهة للأخطاء والمشاكل تمهيداً لمعالجتها . في ظل هذا الوضع ، وللانتقال من حالة الإحباط والاستسلام لابد من توفر مجموعة من الشروط: • طرح المشاكل الحقيقية بصراحة من خلال أسئلة صحيحة وجدية ، هذا أولاً . • ثانياً: توفر المصداقية والجرأة فمن يطرح الأسئلة أو من يقدم الإجابات عنها أو الحلول . • ثالثاً: الاعتراف بالأخطاء ونواقص الماضي من خلال عملية مراجعة ونقذ ذاتي . • رابعاً: وضع صيغ عملية لمتابعة الحوار . • خامساً: العقلانية في التعامل مع الآخر ومع التوافق سواء في وضع البرامج أو تحديد المطالب. فهل هذه الشروط متوفرة أو يمكن توفيرها؟.. إنه سؤال يحتاج إلى تدقيق، إن العوامل والأسباب التي أشرنا إليها سيكون لها أهمية استثنائية مؤثرة، فالعزلة لم تعد ممكنة، كما أن الاستقرار الظاهري أو المؤقت لا ينبئ بأن الأوضاع القائمة سوف تنهار، وستقوم على أنقاضها أوضاع جديدة، إن هذا التفسير الميكانيكي غير وارد فالمرحلة القادمة ستكون من أبرز سماتها (الثورات العمياء). إذا صحت مثل هذه التسمية، والتي ستأخذ أشكالاً من الهياج والعنف والتحدي، وسيقودها في الغالب الجياع والمحرومون، والتي سيكون دور القوى السياسية فيها ضئيلاً أو معدوماً، عدا القوى السلفية، إذ سيكون دورها التعبئة والتحريض أكثر مما هو القيادة ، هذه التطورات تمليها أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية، وستأخذ هذا الشكل لعدم وجود قيادات سياسية قادرة على القيادة أو تقديم البرامج البديلة - والغائبة كلية الآن - لكي تفرض نفسها كبديل . قد لا يختلف اثنان حول مدى ما وصل إليه الوضع الراهن من التردي والتآكل ، وقد ثبت بالملموس ان النظام الحالي أعجز من مواجهة متطلبات المرحلة ، وأنه بسلوكه وعلاقته يدفع إلى المزيد من التحالف مع القوى القبلية والعسكرية، والتبعية، والارتهان للخارج، الأمر الذي يترتب عليه التزامات لا يستطيع التخلص منها، هذا بالإضافة إلى جملة المصاعب والعداوات الناجمة عن الأوضاع الداخلية، فالمطلوب والممكن الآن هو مواجهة الأزمة العامة الشاملة للسلطة، كما يجب أن تمتلك الجرأة وتقوم بعملية مراجعة للمرحلة وتعترف بفشل الكثير من الأفكار والشعارات التي طرحت وكيفية تحقيقها ، فمنذ أن انطلقت الانتفاضة أو حركة التغيير في عموم الساحات بدءاً بساحة جامعة صنعاء - بلا مشروع ولا قيادة ثم انتشى أصحابها بهذا الإنجاز الأولي، والذي أدى إلى بروزهم في مناخ ما سمي أو ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي، والتي أتت وفقا لظروف ومناخات وثقافة كل قطر ومدى ما وصل إليه من مدنية وتطور في الألفية الثالثة، وهذا بعيد، كل البعد، عن المجتمع اليمني وثقافته وتكوينه والذي لا يزال يعيش في معطيات عصور مضت، هذا الموروث الذي لا يزال الشباب ربما يعيشون في ظله بعض الشيء، ففتحوا ثغرات الخطط لمن كان ينتظر فرصة تُحقِّق له حُلماً طال انتظاره، وإن كان هذا الحلم من صنع الآخر ولا ضير، كما يرون أن هؤلاء الشباب - طلائع التغيير - هم من صنعتهم، فكانت هذه هي الثغرة التي نفذوا منها وتبنوا الثورة أو ادعوا بأنهم جزء منها وناطقون باسمها، في حين استفاقت الأطراف التي ترى في الثورة الشبابية تهديداً لها بسرعة وبدأت تعمل على احتواء الثورة، و قد تتمخض عاجلاً أو آجلاً عن ديكتاتورية جديدة أو قبلية عسكرية، يفضل عرابوها أن تكون أقل قبحاً حتى لا تكون عبئاً ثقيلا. ولقد رسمت مسارات مختلفة تؤدي كلها إلى اعادة إنتاج المنظومة السابقة - وليس بالضرورة أن يكون النظام السابق - وقد تمثلت في سلطة مهيمنة في الداخل متعاونة مع الخارج تحفظ له مصالحه مقابل غطاء سياسي ودعم اقتصادي، أي أن تبقى البلاد في دائرة النفوذ والمصالح وتبقى خيوط اللعبة بأيد خارجية، ولا يهم أصحاب النفوذ والمصالح من يحقق مبتغاهم ولا كيف، ولا يعبأون بالتفاصيل طالما أنها لا تؤثر على مصالحهم. إن من يفرّط في المصلحة الوطنية سذاجة أو انتهازية أو تحزباً، كل من يفعل ذلك، أياً كانت دوافعه ونواياه، منخرط في دفع البلاد بالاتجاه الخاطئ . لقد بدأ المسار الخاطئ بمجرد أن تم التخلص من رأس النظام السابق وبدأ شباب التغيير في ترك الكثير من الساحات وانهمك الساسة وأحزاب المشترك في السعي نحو السلطة والتشبت بها. إننا نعتقد أن العد العكسي لتلك المرحلة قد ابتدأ الآن، ولكنه قد يكون بسبب حجم الخراب الحاصل الذي سيحتاج إلى جهد ووعي في مواجهته، من أجل إعادة تشكيل القيم والعلاقات، بما يخدم متطلبات المرحلة واحتياجاتها ومما قد يسارع في عملية خلق أشكال وصيغ جديدة، أن البنية أو النسيج السياسي والاقتصادي لليمن لهو نسيج مهلهل، ويتسارع في التآكل إلى درجة أصبحنا فيها على حافة التفجر، ولم يعد ممكناً تأجيل المشاكل الحقيقية. لقد لاحظنا في السنوات الماضية مدى التفجر وخاصة لدى الفقراء، وتلك الظواهر هي مؤشرات لظواهر مستقبلية، فإذا استحال بناء شكل جديد للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع، أو إذا استحال الوصول إلى صيغة الأمن الاجتماعي، فإن ذلك يقتضي الاعتراف بالحقائق الجديدة، إننا الآن مقبلون على مرحلة جديدة نحتاج إلى عهدٍ جديد وإلى ميثاقٍ شرف جديد حتى نستطيع الوصول إلى حالة يمكن أن يتحقق فيها السلم الاجتماعي ، بحيث إن هذا الأمر يقتضي أن يفكر كل المعنيين بعمق من أجل مواجهة المرحلة المقبلة والتي تبدأ انطلاقتها بالحوار أو هكذا يقولون. الحوار وبداياته: لقد بدأ ما يسمى بالحوار الوطني الشامل في صنعاء وكان الملفت للنظر أن يحدد اليوم الأول ما بعد يوم الافتتاح في طرح رؤى المؤتمرين - على تنوع مشاربهم - رؤاهم حول القضية الجنوبية ، وتعاقب المتحدثون حول هذا الموضوع الذي أراد الداعون من خلاله الضحك على الذقون لكي يوهموا ثوار الجنوب بأن قضيتهم هي الأساس والمحور في هذا الحوار ، وقد توالت الكلمات التي سلطت الضوء على القضية الجنوبية، محلّلة إياها في أربع محاور، وطبعا كان التداول في خطوطه العريضة، وهو مجرد تصور أو عرض لما يجب أن تدرج تحت مظلته القضية الجنوبية، والتي حُددت من خلال الطرح في محاور أربعة: أ- أن يتم تعديل الصيغة الوحدوية بحسب تصور صنعاء ضمن إطار الوحدة التي ترى حكومة صنعاء أنها مازالت على قيد الحياة، بينما هي قد قُبرت وأطلقت عليها رصاصة الرحمة منذ العام 1994م، وهذا هو المحور الأول. ب- المحور الثاني: الإصلاح الوحدوي ضمن إطار الفيدرالية. ج- الثالث: محور الفيدرالية المكونة من إقليمين أحدهما شمالي والآخر جنوبي. د- الرابع: فك الارتباط وتقرير المصير والاستقلال وعودة الأمور إلى نصابها كما كانت عليه قبل يوم 22/ مايو/ 1994م، وهذا هو المحور الذي طرحه في خطوطه العريضة معظم أبناء الجنوب الممثلين في الحوار بشخوصهم وقد لاقى نوعا من عدم الرضا من بعض الحضور، وهو ما يدل على أنه لا توجد رغبة حقيقية لدى النظام في صنعاء لتقرير المصير لشعب الجنوب واستقلاله وبناء دولته كما يريدها هو لا كما يريد له آخرون ، لأن معظم شعب الجنوب لم يكن متواجداً على إطلاقه، ولم يُعط الشعب حق التفويض لأي من الحضور مع احترامنا وتقديرنا لأشقائنا الذين حضروا بصفتهم الشخصية وليسوا ممثلين لشعب الجنوب، وهذا ما أفصحوا عنه خلال أحاديثهم . وفي الختام نؤكد أن عدم المعرفة بالتاريخ ودخائله وتفصيلاته من شأنه أن يعمل على سد منافذ المعرفة، وبالتالي يزيد الفرقة ويشعل نار الصراع والنزاع ، أما العلم بالتاريخ فإنه رحم بين أهله من شأنه أن يفتح الباب أمام التسامح وقبول حق الآخر واحترام وجهات النظر المخالفة ، ونحن هنا قد نحسن الظن بالجميع الذين يكونون قد أخطأوا بل ارتكبوا الخطيئة لجهلهم بالتأويل أو التفسير للتاريخ، والذين يكونون قد أصابوا كبد الحقيقة والسير إلى سواء السبيل.. وفقنا الله جميعاً لما فيه المصلحة العامة لأوطاننا وأمتنا.. المكلا 31 / 03 / 2013