أثار احد شيوخ الدين المشهورين في مصر قبل سنوات ضجة كبرى، عندما هاجم العناية المركزة في المستشفيات، باعتبارها تدخلا في القضاء والقدر والاعمار المكتوبة. ولكن موقفه ذلك لم يصدر عن فراغ، فثمة جدل فقهي حول »التداوي« من المرض، وهل الافضل شرعا طلب العلاج والدواء ام الاستسلام للداء مهما تضاعف المرض، واستطال البلاء؟! وقد يعجب الواحد منا في هذا القرن والعصر، وتقدم الطب المذهل، من جدل فقهي كهذا .. ولكن الفقهاء مختلفون!! ويقول د. محمد رواس قلعه جي في الموسوعة الفقهية »الجزء الاول ص 459«، ان التداوي للوقاية من الامراض، او للشفاء باذن الله تعالى من الامراض »واجب«. ولكن كلام د. قلعه جي غير دقيق، فالواقع ان الفقهاء على اكثر من رأي في مشروعية التداوي وطلب العلاج! وهذا ما يظهر واضحاً في بحث د. سعد الدين سعد هلالي »البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية«، من قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الكويت. والكتاب من منشورات مجلس النشر العلمي عام 2001 جامعة الكويت. يقول د. هلالي في دراسته المطولة عن البصمة الوراثية والواقعة في 520 صفحة ما يلي، والتي يدرس في جزء منها الحكم الشرعي للتداوي واستشارة الاطباء واخذ العلاج: »اختلف الفقهاء في حكم التداوي من العلل، ويمكن اجمال اقوالهم في ثلاثة مذاهب: المذهب الاول يرى استحباب التداوي بكل دواء لا اثم فيه .. ويلاحظ ان فقهاء هذا المذهب نصوا على عدم وجوب التداوي«. وينقل د. هلالي عن صاحب »مجمع الأنهر« الحنفي، وهو يستدل على عدم وجوب التداوي: »ان من امتنع عن التداوي حتى مات فانه لا يأثم، لأنه لا ييقن ان هذا الدواء يشفيه، لعله يصح من غير علاج«. ويضيف د. هلالي: »نقل القاضي عياض الاجماع على عدم وجوب التداوي«. وينقل د. هلالي عن الشيخ عبدالله العنقري الحنبلي: »استحباب التداوي رواية عن أحمد.. وعند أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني الوجوب. ومذهب مالك أنهما سواء، أي التداوي وتركه. والمشهور عن أحمد أنه مباح وتركه أفضل«. أما المذهب الثاني في شرعية التداوي والعلاج من المرض، كما يعرض د. هلالي ف »يرى إباحة التداوي من العلل وليس وجوبه أو استحبابه، على معنى أن فعله وتركه سواء، وهو مذهب الامام مالك، والمشهور عن الإمام أحمد«. ثم نأتي الى المذهب الثالث، وهو »يرى كراهة التداوي، وترك التداوي توكلاً فضيلة، وعلى المريض أن يكتفي بالرقى والدعاء والتوبة، وغير ذلك مما ورد في السنة. وقالوا: ان قيل إنه صلى الله عليه وسلم فعله، أي التداوي وهو سيد المتوكلين، أجيب: بأنه فعله لبيان الجواز«. وينسب هذا القول لبعض الشافعية، ونصره الإمام النووي، وهو رواية عن الإمام أحمد. ومن فتاوى ابن البرزي، كما جاء في »مغني المحتاج«، يقول د. هلالي »ان من قوي توكله فالترك له اولى، ومن ضعفت نفسه وقل صبره فالمداواة له افضل«، وينهي د. هلالي كلامه في ترجيح الآراء المتضاربة في وجوب وكراهة التداوي بإعلان رأيه قائلاً: »انني أرى وجوب التداوي للقادر عليه، خاصة اذا ادى الاهمال فيه لمزيد من العلل، لأن الله تعالى أمرنا بحفظ النفس، قال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وقال جل شأنه: (ولا تقتلوا أنفسكم). ورأى د. سعد هلالي رأينا جميعاً على الأرجح، ولكن أدلته هذه كانت موجودة عبر القرون، وطالعها كل الفقهاء، ومع هذا انقسموا في »وجوب« التداوي، ومن شاء اليوم من الفقهاء أو حتى من الاسلاميين عموماً أن يناصر الآراء الفقهية القديمة، أو ينادي بالاكتفاء بالرقى الشرعية وجد في النصوص وفي الفتاوى الموروثة ما ينتصر به لرأيه.. وربما أكثر! فالمشكلة باختصار، لا تنحصر بجواز او عدم جواز الاستفادة من وسائل وأجهزة العناية المركزة. المشكلة أن لا أحد يحق له.. مناقشة المشكلة!! *الوطن الكويتية