لا شيء في هذا الوقت من العام يمكن أن يعادل الجمال الأخضر المسكوب على الطبيعة في أغلب القرى اليمنية، شيء من بساتين الله لتعويض رجل الريف اليمني عن خسائره جراء تخلفه عن العصر الحديث، في هذا الوقت من العام يستطيع ابن الريف أن يشعر بذلك الإحساس البديع والخالد الذي لا يأتي إلا مع الرعد والمطر ورؤية الزرع الذي كان لأيام خلت مجرد "ذري" في اليد ودعوات على اللسان و"مهجال" خلف الثور. هنا حيث أكتب الآن، حيث المدينة الحديثة جداً، لا شيء سوى الحر الذي لا يطاق خارج النوافذ، وجهاز التكييف الذي لا يتوقف عن الهدير إلى جواري، والعديد من الصور التي تأتي إلى الذاكرة مع مطر القرية ورعدها وتذهب دون توقف، مرة لجدي وهو يصيح بنا: "دخِّلوا اللواعي من خارج": ومرة لجدتي: "اجرى اختم المسرب حق الجبا" لكني في زمن الطفولة ذاك، كنت أترك تلك الأوامر لعمتي وأهرع مع أول قطرة مطر إلى "الشريج" لأتأكد أنه يحتضن مياه المطر ويقودها إلى الكريف الذي سنسبح فيه صباح اليوم التالي.. اليوم لا أحد يستطيع الخروج إلى المطر في المدينة دون أن يصاب بالزكام أو يتهم بقلة العقل. على البال كلمات الراحل محمود درويش: "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي"، وفي الحقيقة ليست أمي وحدها ما يدفعني دائماً إلى صالة المغادرة في المطار، هناك القرية والناس الطيبون والأصدقاء الرائعون، وهذا موسم السفر، وموسم الرعد والمطر والزرع في القرية، ورخص القات أيضاً، من يستطيع مقاومة هذه النداءات مجتمعة، ولا يغادر على أول طائرة أو سيارة أو سيكل حتى؟ قبل الاغتراب لم أكن أعي تماماً فكرة العطلة الصيفية، وأن هناك موسماً للسفر، ثم اكتشفت أن أغلب الناس هنا في الإمارات تغادر وظائفها ومنازلها بمجرد قدوم شهري يونيو ويوليو، ويستمر معهم موسم السفر حتى سبتمبر المقبل، وفي ظني أن ما يزيد عن ثلاثة أرباع المقيمين هنا من الوافدين أو أبناء البلد يذهبون في إجازات صيفية، أغلبهم طبعاً يغادر البلد وبعضهم يفضل قضاء الإجازة هنا، الأمر نفسه لا يختلف في بقية دول الخليج، وأغلب الدول تقريباً، غير أن الأمر عندنا في اليمن يختلف، بحسب ما أذكر، ربما يكون الأمر اختلف، لا أدري. ما أتمناه الآن من القارئ الذي لم يبدأ في التفكير بأخذ إجازة، أن يبدأ من الآن، ثم يخطط للذهاب إلى القرية، وأغلبنا تقريباً أبناء قرية، يعني يذهب إلى أهله، حيث المطر الذي لا يقع على الأسفلت، والخبز الذي يصعد ساخناً من تنور الحطب، والنساء اللاتي يخرجن بين المطر مهرولات فرحات، وكأنهن يجدن في قطرات المطر المتساقطة فوق أجسادهن النحيلة ما يشبه يد السماء التي تربت على جهدهن المستمر في الاعتناء بالأرض والأبناء والزوج الغائب. يشاهد أصدقائي غير اليمنيين صور قريتي ولا يصدقون أنها يمنية إلا عندما يشاهدون وجوه الناس، والبيوت القديمة والحياة البدائية، ويصعب دعوتهم إلى هناك، لأن المنطقة بالطبع بلا خدمات، و"حياكم الله في بيتنا" لا تنفع للترويج السياحي، لكن ماذا عن اليمنيين أنفسهم، لماذا لا يذهبون ولو مرة واحدة في السنة إلى قراهم، ويتوقفون ولو لمدة أسبوع عن الروتي، والزبادي، والصحف وأخبار الأحزاب، ولو أن التوقف عن هذه الأخبار صعب، حتى في القرى يحتاج الناس للأسف إلى خوض الحديث في السياسية حتى "يطعموا القات"، بحسب أحد الأصدقاء. فكرة الإجازة مهمة، بل ضرورية، فالحياة لا تستحق الركض بشكل مستمر، يحتاج المرء أن يتوقف بين كل سنة وأخرى لالتقاط الأنفاس، واستدعاء الهدوء، خصوصاً في اليمن الذي يشعر أبناؤه أنهم "ملاحقين" دائماً، وينسون دائماً أن هناك شيئاً اسمه "إجازة سنوية"، حتى المدرسين في قريتنا يذهب بعضهم وقت الإجازة ل"طلبة الله" في المدينة! الحياة صعبة صحيح، والأبناء يزيدون سنة وراء الأخرى، لكن طلبة الله خلال الإجازة لا توفر أحياناً أجرة السيارة، وهناك البلدية التي قد تصادر على المدرس العربية أو البسطة في هجوم غادر غير متوقع. المشكلة أن بعض أبناء القرى أنفسهم ينسون مع مرور الوقت نعمة الأرض من حولهم، ولا عذر لهم، والاعتراض بفكرة "الناس لا تجد ما تأكل وأنت تتكلم عن الجمال" لا تجدي هنا، وإلا أصبحنا كما يقولون مثل "فقير اليهود لا دنيا ولا آخرة" زيارة القرية ليست مكلفة تماماً، وإن بدت كذلك يمكن اختصارها، أو تدبيرها، أو التخطيط لها من وقت مبكر، لا يمكن تجاهل هذا الجمال الذي لا يوجد لدينا سواه يحسدنا الآخرون عليه، ثم لا نستمتع به. تمنيت على القارئ أن يذهب إلى القرية، ولا أعتقد أن من بين القراء من سيشارك بالحوار بين الحاكم والمعارضة الذي يفترض أن تبدأ الجلسات الممهدة له السبت الماضي، أمنيتي الثانية أن يذهب هؤلاء المتحاورون إلى أبعد قرية ثم يعتكفون فيها ولا يغادرونها إلا وقد وصلوا لاتفاق. بالمناسبة أتذكر أنه في بداية العام 2007 طلب الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من وزرائه الاجتماع في منتجع وسط الصحراء اسمه "باب الشمس" يبعد عن دبي 80 كيلو متر تقريباً لمناقشة الاستراتيجية التنموية لدولة الإمارات، قال يومها أنهم - وهو معهم - لن يغادروا المنتجع إلا بعد أن ينتهوا من إعداد الاستراتيجية، وهناك بعيداً عن ضجيج المدينة والهواتف النقالة التي طلب منهم الشيخ عدم اصطحابها، عكفوا ثلاثة أيام بلياليها حتى أنجزوا ما كان مطلوباً منهم.. من "يهدش" لي بالساسة حقنا في أطرف قرية، ثم يقول لهم :"بحجر الله لا ترجعوا إلا وقد سديتم". في الرواية الشهيرة لأوسكار وايلد "صورة دوريان غراي"، يقول دوريان: "لقد ارتكبت أشياء مريعة في حياتي.. لكني توقفت الآن، وقد بدأت عملي الصالح أمس". يسأله اللورد هنري: أين كنت؟ يرد: "في الريف". فيبتسم اللورد ويقول: "يا صغيري العزيز يمكن أن يكون كل إنسان صالحاً في الريف.. فلا إغراءات هناك، في المدينة يمكن للمرء أن يغدو مثقفاُ أو منحلاً.. أما الريفيون فليس الخيار أمامهم .. ". المصدر