يبدو أن نزاعات عديدة في أنحاء الشرق الأوسط تواجه خطر الغرق في جمود سيطول أمده، وبدأت تظهر كل صفات الحروب الأهلية المدمرة والإجرامية. سواء في ليبيا واليمن، أو حتى في البحرين وسورية، تبدو الحظوظ ضئيلة لتسوية سريعة أو مقبولة على نطاق واسع. فهل تساعد الوساطة على الحل؟ الخبر السار هو مباشرة وسطاء، يأتون من المنطقة ذاتها في أغلب الأحيان، بعرض خدماتهم على الأقل، في محاولة جلية لإنقاذ «الثورة العربية» من التقهقر إلى فوضى يتعذّر ضبطها والتحكم بها. وقد حلّ محلّ الموجة الديموقراطية المتحمِّسة في بداياتها، مزاج أكثر تشدداً وحدّة يوحي بأن الثورة قد دخلت مرحلة جديدة وأكثر عنفاً. ففي ليبيا على وجه الخصوص، أصبحت الوساطة ضرورة ملحة لإنهاء حالة الجمود الخطر. وفي حرب أشبه بمعارك الصحراء التي اندلعت إبان الحرب العالمية الثانية، يطارد الثوار وقوات القذافي بعضهم البعض على طول ساحل البحر المتوسط، إلا أن أياً من الطرفين لا يبدو قادراً على توجيه ضربة قاضية. وفي غضون ذلك، تشهد بنى تحتية قيِّمة أعمال تدمير، ومن بينها منشآت نفطية، فيما فرّ نحو 450 ألف شخص إلى خارج البلاد لغاية الآن. كما تواجه ليبيا خطر الانقسام إلى دولتين، وبدأت إمدادات المواد الغذائية والوقود تعاني من نقص في كل مكان. ويبدو أن بعثة من الاتحاد الأفريقي بقيادة رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما نجحت في نيل موافقة القذافي على ما كان، في الحقيقة، خارطة طريق تركية للتوصل إلى تسوية. وقد اقترحت وقفاً فورياً للأعمال العدوانية، وممراً آمناً لإيصال المساعدات الإنسانية، ومفاوضات بين القذافي والثوار. إلا أن الثوار رفضوا أي خطة تترك أثراً لدور الدكتاتور الليبي وأبنائه، مطالبين بالإطاحة بهم. لا شك في أن تركيا ستعيد المحاولة، إذ اكتسبت سمعة تُحسد عليها في إيجاد الحلول للنزاعات. كما أن لها استثمارات ضخمة في ليبيا حيث تملك مشاريع بناء كبيرة بقيمة بلايين الدولارات. وعند اندلاع المعارك، توقّفت هذه المشاريع تماماً وكان العمال الأتراك من بين أول من تم إجلاؤهم. وفي الوقت الذي يبدو أن الولايات المتحدة تنتظر لحظة الانسحاب من العمليات العسكرية، وفيما تواجه بريطانيا وفرنسا احتمالات غير مرغوب فيها لحرب طويلة الأمد، تستحق الجهود التركية أن تنال دعماً دولياً كبيراً. كما برزت قطر، الدولة الصغيرة إنما الواسعة النفوذ، في دور الوسيط الإقليمي، خصوصاً في لبنان والسودان. وشأنها شأن تركيا، دخلت الميدان الليبي إنما ليس في دور الوسيط. وعوضاً عن ذلك، وفَّرت للثوار المناهضين للقذافي دعماً قيِّماً، إذ تساعد طائراتها الحربية في تنفيذ الحظر الجوي، وقد اعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي الموقت في بنغازي. ولعل أهم ما عرضته قطر هو تزويد السكان في شرق ليبيا بالوقود وتسويق النفط من المنطقة. ولا يُستغرب أن الرياض تقود جهود الوساطة في اليمن. فليس هناك دولة تملك مصلحة أكبر من السعودية في استقرار اليمن، حيث يكافح الرئيس المحاصَر علي عبدالله صالح لمواصلة دوره السياسي. وتسعى السعودية، مدعومةً من الأعضاء الآخرين في مجلس التعاون الخليجي، إلى عقد مؤتمر يجمع الأطراف كافة في الرياض. ولا ريب في أن الإعانات المالية السعودية وعرض مساعدات التنمية ساهمت في تمهيد الطريق لتسوية. إلا أنه يصعب ردم الفجوة التي تفصل بين الرئيس صالح والفصائل العديدة المناهضة له، من المتظاهرين الشبان، والإسلاميين، والحوثيين الزيديين من محافظة صعدة الشمالية، والراغبين في انفصال جنوب البلاد. ما يريده الرئيس صالح هو مغادرة السلطة عند انتهاء ولايته ونيل حصانة كاملة تحميه من المحاكمة، فيما يقول المتظاهرون أنهم لن يخوضوا حواراً إلا في حال ضمان رحيله الفوري. يذكر أن اليمن هو أكثر البلاد العربية فقراً واضطراباً، فيما السعودية هي أغناها وأكثرها استقراراً على صعد كثيرة. وإن غرقت اليمن في الفوضى غير الخاضعة للقانون، ستعاني السعودية حُكماً. إذ سيسعى اليمنيون المحرومون والعاجزون عن إيجاد فرص عمل في بلادهم، إلى اجتياز الحدود الطويلة بين البلدين، إلى داخل المملكة، بحثاً عن حياة أفضل. ومن وجهة نظر الرياض، قد يشكلون تهديداً أمنياً. تاريخياً، شهدت العلاقات السعودية اليمنية تقلبات بين الصداقة الحذرة والعداء الشديد، وبخاصة منذ ثورة العام 1962 التي أطاحت الإمامة التي حكمت اليمن طوال ألف سنة، لتصبح هذه الأخيرة الجمهورية الوحيدة في شبه جزيرة عربية يحكمها الملوك والسلاطين والأمراء والشيوخ. وخلال السنوات الأربعين الأخيرة، تتالت الأزمات الواحدة تلو الأخرى في العلاقات السعودية اليمنية. اقترحت قطر أيضاً التوسُّط في حل النزاع اليمني، ولكن يبدو أن الرئيس صالح رفض عرضها وطرد مبعوثها. وفي غضون ذلك، تدهورت الأوضاع في اليمن إلى أسوأ مما كانت عليه، حيث يواجََه المحتجون بالرصاص الحيّ، وتُخاض معارك منظَّمة في الشوارع، ويرتفع عدد الضحايا مثيراً السخط ومحركاً روح الانتقام والمزيد من التصلُّب في المواقف بين الطرفين. أما في البحرين، فقيل أن الكويت عرضت الوساطة بين الحكومة والمعارضة، إلا أن السعودية التي ساعدت قواتها ضمن «درع الجزيرة» في استعادة الأمن، قد لا ترحِّب بهذا التدخُّل. وحاولت تركيا كذلك التوسط في البحرين، فأجرى وزير خارجيتها النشيط أحمد داوود أوغلو محادثات مع الملك حمد بن عيسى آل خليفة وجمعية «الوفاق»، المجموعة المعارضة الشيعية الرئيسية. ومن غير الواضح إن كانت سورية سترحِّب بمد يد العون لمساعدتها في حل وضع بات يهدد بالتفاقم إلى المزيد من العنف. ومرة أخرى، دخلت تركيا على الخط مسديةً النصح في ظل غياب الوساطة الفعلية. وأعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه «من المستحيل بالنسبة لنا أن نظل صامتين في مواجهة هذه الأحداث. لدينا حدود بطول 800 كيلومتر مع سورية. نصحت الرئيس بشار الأسد بضرورة الاستماع إلى مطالب شعبه». ويُعتقد أن أردوغان أوصى الرئيس السوري بإقامة ديموقراطية متعددة الأحزاب شبيهة بالنموذج التركي. وقد قام حقان فيدان، الرئيس القوي لجهاز الاستخبارات التركي، بزيارة مؤخراً إلى دمشق. ولا شك في أن تركيا تشعر بأن لديها الحق في الإعراب عن وجهة نظرها، بما أنها كانت تقضي شهر عسل سياسياً رائعاً مع سورية. وقد أجرت الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة في نيسان (أبريل) 2010، أبدت حيالها إسرائيل استياءها وقلقها. وحتى في الدول التي شهدت سقوط حكامها، تعذّر إسكات الاحتجاجات. ففي مصر، يطالب المتظاهرون بمحاكمة حسني مبارك والمقرّبين منه. أما في تونس التي يسود فيها جوّ من الارتباك السياسي الواسع، فتسجَّل 51 حزباً سياسياً على الأقل للمنافسة في انتخابات 24 تمّوز (يوليو) المقبل. واختارت أعداد كبيرة من التونسيين الشبان الذين اجتاحهم البؤس الاقتصادي الهروب خفيةً إلى إيطاليا عن طريق البحر حيث حذر رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني من «تسونامي بشري». ويدفع الخوف من أن تكتسح المنطقة انتفاضة جامحة، ومن انتقال عدواها، إلى ظهور جهات تعرض وساطتها على الساحة الإقليمية. إلا أن الوضع الذي سيتعامل معه الوسطاء يحبط عزيمتهم، وليس من الواضح على الإطلاق إن كانت الأطراف المشاركة في النزاعات المختلفة سترحِّب بالمساعدة الخارجية. إسرائيل تشكل حتماً قوة إقليمية ترفض التدخُّل في اغتصابها المستمر للأرض الفلسطينية وقهرها الوحشي للفلسطينيين. بيد أن انفجار الوضع الخطير في الآونة الأخيرة على الحدود بين إسرائيل وغزة، الذي أسفر حتى كتابة هذا المقال عن مقتل حوالى خمسين شخصاً في غزة خلال الشهر الفائت، يشكل إنذاراً للزعماء الأوروبيين بأن الوقت بات قريباً جداً لتطبيق وساطة فعالة من أجل تنفيذ وقف إطلاق النار والتوصل إلى حلّ للنزاع العربي الإسرائيلي. كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط جريدة الحياة اللندنية