تفاوتت التعبيرات التي أطلقت على الحالة السياسية التي دخل فيها العالم العربي منذ الحراك التونسي في أواخر ديسمبر الماضي. فالبعض أطلق عليها «الربيع العربي» تيمنا بربيع براغ، الذي أطاح الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. وآخرون أطلقوا عليها «الفوضى الخلاقة»، وهو تعبير أطلقته كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في ذروة وصفها للاضطراب والفوضى في العراق. فالفوضى بالنسبة لرايس كانت ضرورية للدخول في aحالة التنظيم الجديد الذي تنشده الإدارة الأميركية، وهي حالة لا نستطيع القول إن الأميركيين كان لهم اليد في إثارتها بقدر ما قد يكون لهم اليد في استثمارها، ولربما توجيه بعض مساراتها. فليس هناك سبب يدعو الناس للموت تلبية لرغبات إقليمية أو دولية. فقط الرغبة في التغيير هي ما يدعو للانتفاضة. وثمة من وصف الحالة التي تعيشها المنطقة اليوم ب«اليقظة العربية الجديدة»، ومنهم مروان المعشر، وزير الخارجية الأردني السابق، «وهي يقظة لها أسبابها الداخلية الخاصة، كما لها كذلك عواملها الخارجية»، وفق المعشر. فوضى وإرباك مهما اختلفت التعبيرات، فإنها حالة قد أدخلت المنطقة عموما في شيء من الإرباك والفوضى، بمعناه السوسيولوجي والسياسي، لا يمكن أن تسترد المنطقة شيئا من عافيتها أو تكيفها الوظيفي سريعا. فالحدث لم يعد حالة منعزلة محدودة الأثر، في قطر هنا أو هناك. فمصاحباته ممتدة في كل الأقطار العربية وإن لم تأت «الموجة» عليها. بل إن الحلول في الأقطار التي لم تأت عليها الموجة أكثر يسرا إذا ما جاءت شاملة غير مقتصرة على الجوانب الاقتصادية، وإن كان ذلك محركه الأول في بعض الأقطار. فالحلول يجب أن تكون شاملة وسريعة، فأي تباطؤ يكبد الدولة والمجتمع الكثير، ولا بد للدول العربية من أن تتخلى هذه المرة عن الكثير من مسلماتها التقليدية، من أجل سلامة الدولة والمجتمع. وأعتقد أن الحال التي باتت تعيشها بعض دول المنطقة، ما هي إلا ارتباك وعطل يحتاج الى عمل تأهيلي تتضافر في تأسيسه العقول قبل النفوس، وتجتهد في صياغته الخبرات العقلية والعملية ذات الاختصاص. تاريخ الحدث قد أصبح نقطة مفصلية في تاريخ المنطقة العربية المعاصر لا يمكن تجاوزها أو التراجع عن تداعياتها. والاعتقاد بأن تأجيل استحقاقها بمعركة عصبوية أو تقليدية، هنا أو هناك، قد يكون أمرا مساعدا في تأجيل الحل، إلا أنه قد لا يكون بديلا عنه. والمعارك التي أخذت هذا المنحى في الحالات السورية واليمنية والليبية وغيرها، قادت نحو مزيد من ضياع المخرج وتمزق في النسيج الاجتماعي الداخلي الذي لا يمكن لأي حل أن يأتي من دون رأب الصدع فيه. كما أن الاعتقاد بأن المجتمع يمكن أن يتعافى من مصاحباتها سريعا هي ليست إلا ضربا في الخيال أقرب منه إلى الواقع الذي لا يمكن القفز على معطياته نحو يوتوبيا الأفكار غير الواقعية. فما تحتاجه دول مثل اليمن وليبيا وسوريا في استرداد حالتها الطبيعية، وبفعل حجم الحدث فيها ومضاعفاته كثير، هذا إذا لم يدخل بعضها في حالة من التيه والفوضى تقترب إما من الحالة العراقية أو الأفغانية. أما الدول الأخرى كمصر وتونس، فإن القدرة على استرداد العافية فيها، وبفعل استمرار الدولة في أجهزتها وليس أشخاصها، رغم التلكؤات الحالية، سيكون لربما مماثلا لحالة ضبط التحول الديموقراطي في دول مثل اندونيسيا أو بعض دول أميركا اللاتينية، كتشيلي وفنزويلا والبرازيل. نماذج آسيوية وأميركية ومن المهم الإشارة هنا الى أن «الثورات»، وكما يقول روجر أوين، قد لا تأتي بشخصيات ونتائج في الكثير من جوانبها أحسن حالا من المُطاح بها. إذ يحدثنا التاريخ عن سواقط للثورات بدت في العقود الأولى من الثورة الفرنسية قبل «ثورتها»، وتقادمت في شكلها المعاصر. كما أن الثورة الإيرانية، رغم إسقاطها نظام الشاه، فإنها قد فشلت في أن تقدم نموذجا في الديموقراطية والنهوض الاقتصادي. إن استرداد عافية المجتمعات يحتاج الى فسحة تأخذ حاجتها من الزمن والجهد، لكن النجاح يتطلب كذلك رغبة صادقة وتضافر الجهد. فنقل سياق سياسي من حالة الى أخرى جديدة ليس بالعمل السهل السريع التحقق. فمجتمعات مثل كوريا الجنوبية واندونيسيا مرت في حالة الفوضى ذاتها التي تمر بها الآن المنطقة العربية. فالأولى استردت عافيتها بسرعة وانتقلت الى الحالة السياسية والثقافية الجديدة، بينما أندونيسيا احتاجت الى أكثر من عقد من الزمان لتسترد توازنها السياسي، وإن كانت ما زالت تعاني وهنا اقتصاديا. وإذا كانت تجربة دول أميركا الجنوبية تختلف عن التجربة الآسيوية، إلا أنها تؤكد كذلك نجاح عملية الانتقال نحو السياق السياسي الجديد. فالانتقال السلس للسلطة من حزب الى آخر، واختفاء حالات التلاعب الكبير بالأصوات الانتخابية رفعا من مراتب هذه الدول على المقاييس العالمية للحريات السياسية، وزادا من ناحية أخرى نموها الاقتصادي واستقرارها السياسي. التجربة التركية وتؤكد مرة أخرى التجربة التركية، رغم وصول حزب إسلامي ذي نكهة ليبرالية جديدة، أن النمو الاقتصادي الكبير الذي حققته تركيا خلال عقد ونيف الماضيين لم يكن له أن يتحقق من دون تلك الإصلاحات السياسية المهمة التي أصابت السياق السياسي في الدولة التركية، وهو سياق لم يحقق نموا اقتصاديا كبيرا فحسب، وإنما أعطى للدولة أدوارا سياسية واقتصادية مؤثرة في محيطها الإقليمي. إن أي رغبة نحو تشكل سياسي وثقافي جديدين ومُؤَسَس، لا يمكن أن يأتي بصورة قصريه وسريعة. فالحالة التي دخلت المنطقة العربية فيها، ونتيجة لتلكؤ عمليات التغيير فيها لعقود، قد أدخلتها في حالة من عدم التوازن السياسي وبتكلفة اقتصادية كبيرة، وبتشرذم اجتماعي خطير أخذ في بعض حالاته منحى عصبويا قائما على الانتماءات الأثنية والدينية والجهوية، وبوهن سياسي لم يحدث من قبل. وهي حالة لا يمكن تجاوزها إلا بقبول التغيير وحتميته، ولكن ضمن ضوابط زمنية وتأهيلية لا تُدخل المنطقة في الفوضى. *القبس الكويتية