مؤسف أن يكون العالم اليوم يتحدث عن تجارب وأبحاث علمية خارج الكون وخلف فضاء المجموعة الشمسية ويرسل مسابيره وسفنه الفضائية إلى سطح الشهب والأقمار والكواكب, ويخترع في العام الواحد مئات إن لم يكن آلاف الاختراعات والابتكارات في مختلف مناحي الحياة العلمية ووسائل الاتصالات المدهشة في خدمة البشرية ونحن في هذا الوطن المنكوب نراوح مكاننا بالحديث العقيم عن اصلنا وهويتنا. هل أنا يمني أم جنوبي عربي؟. هل أنا جنوبي عربي أم جنوبي يمني. هل أنا سُنّي أم شيعي,شافعي أم زيدي؟! ومع ذلك وبرغم أن مثل هكذا مواضيع قد أصبحت حديثاً سمجاً بل ويثير الخجل لكل من يتطرق لها ولو مضطرا من سخفها ومن كثرة تكرارها وسط دائرة مفرغة دون طائل في ظل وجود ما هو أهم منها ضرورة وأهمية...
نقول نعم أنا يمني من خلال فهمنا لمعني اليمن الذي تعني إشارة (جهوية -جغرافية ) لا معنى سياسياً يشير بالضرورة إلى دولة واحدة فقط اسمها اليمن. فليست اليمنية نقيض للجنوبية أو ملغية لها. بل هي مفهوم جغرافي أوسع تضم في طيها الجنوبية.
..ونعم بكل فخر واعتزاز أنا جنوبي من جنوباليمن( الجهة وليس فقط الدولة اليمنية). تماماً مثلما يتفاخر المواطن السوري بشاميته ويعتز بسوريته ويتفاخر اللبناني بلبنايته ويزهو بشاميته وكذلك يفعل الأردني والفلسطيني. فلم يجد هؤلاء صداما ولا نقيصة بين الربط بين شاميتهم وهويتهم الوطنية, لأنهم يعرفون تماماً أن شاميتهم ليست فقط محل فخر لهم بل هي رديف لانتمائهم الجغرافي والتاريخي داخل دولهم ولم يجدوا فيها خطورة قد تنتزع منهم وطناً وهوية لحساب جهات أخرى, حتى في غمرة فترة المطالب السورية بفك الارتباط عن الجمهورية العربية المتحدة 1958- 1961م التي جمعتها مع مصر واليمن فيما بعد قبل ان تعلن هذه الأخيرة فك ارتباطها مبكرا عن تلك الجمهورية.
وبالعودة إلى الموضوع الرئيس نعيد القول إن اليمن لم يكن يوماً من الأيام يحمل مدلولا سياسيا كما يزعم بعض مزوري التاريخ والجغرافيا. فاليمن هو مدلول جهوي جغرافي كما اسلفنا.
هو إشارة جغرافية تعني عكس الشام. أي انه مثلما أخذ الشام معناه الشمالي عبر الأحقاب والأزمان يأخذ اليمن معناه المعاكس له أي الجهة الجنوبية, كجهتين مختلفتين أشار لهما القرآن الكريم برحلتي الشتاء والصيف. وفي قاموس (لسان العرب) لابن منظور, يقول: "اليَمَنُ, ما كان عن يمين القبلة, ونظيره الشأْم", وغيره من المصادر التاريخية والدينية.
وهنا يحضر في ذهني بيتي شعر للشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة لعلهما يلخصان الموضوع:
أيها المنكح الثريَّا سُهيلاً×عمرك الله كيف يلتقيانِ
هي شامية إذا ما استهلت×وسهيلٌ إذا استهل يماني.
وبالتالي فإن اليمن الجغرافي وفق هذا المفهوم يمكن أن يكون أكثر من دولة, كما كان في عصر الدول اليمنية القديمة التي امتدت ليس فقط إلى عُمان شرقاً وإلى عمق الجزيرة العربية والعراق شمالاً بل حتى إلى الحبشة خلف البحر أيام دولة سبأ, وكما كان فيما بعد يشكل الدول الحديثة منذ عهد الدولة الزيادية وحتى الطاهرية وحتى نهاية القرن العشرين, ولم تمنح هذه الدول القديمة والحديثة لنفسها اسم اليمن في أي حقبة تاريخية لأنها تعرف أن إطارها الجغرافي لا يغطي اليمن الطبيعي كله, حتى في عهد اكبر دولة يمنية قديمة مثل "دولة حمير" التي عرفت باسم "مملكة سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت" 110 ق.م - 525 - 527م .
فهذا اليمن الشاسع يمكن أن يكون اليوم أو غداً اكثر من دولة "وحدة سياسية" مثله مثل دول الشام والمغرب العربي وحتى دول الخليج العربي, مثلما أيضا قد يكون دولة واحدة مستقبلاً تمتد إلى خلف الحدود الشمالية والغربية ليمن اليوم "الجمهورية اليمنية". وبهذا المعني فان الجنوب العربي المعروف بدولة جمهورية اليمنالجنوبية الشعبية عام 1967 قبل ان يصبح جمهورية اليمن الديمقراطية عام 1970 هو جزء من جغرافية اليمن الكبير مثله مثل عمان ونجران وجيزان وأبها وحتى تخوم مكة إن لم يكن ابعد من ذلك كما ذهب إليه كثير من المؤرخين القدماء. وبناءً على ما تقدم ذكره فلا أجد أي غضاضة أو حرج إن قلت إنني يمني. مثلما أشعر بالاعتزاز حين أقول إنني جنوبي وعربي أيضاً. ولا أجد حائلاً قد يحول مستقبلاً لإقامة دولة الجنوب كما يتخوف البعض. فلم يتوقف شعب جنوب السوادان كثيراً أمام موضوع انتسابهم للسودان "الخرطوم" ومضوا قدماً لإقامة دولتهم المستقلة بل واعوها اسم "جمهورية جنوب السودان" وظلوا إلى اليوم يحتفظون بسودانيتهم.
فمع يقيني أن هذا التخوف الجنوبي الذي يعتري بعضنا هنا بالجنوب من موضوع اليمننة له ما يبرره من واقع تجربة مريرة ذاقها الجنوب منذ عام 1990، من ثقافة الأصل والفرع واليمننة المقيتة التي تم توظيفها إلى درجة الإساءة لها, وهيمنة وهم "هزمناكم" الذي حوّل الشعور الجنوبي بالانتماء لليمن إلى شعوره بطمس هويته وتاريخه, ناهيك عن الشعور بالعسف على ضياع دولتهم التي تنطوي على ثروات طبيعية وبشرية نوعية هائلة وبحدودها الجغرافية على مذبح وحدة ظالمة, إلا أن الاسترشاد بالعقل وبمنطق التاريخ وحقائق الجغرافيا يجب أن تحضر.
فاليمن كما حدد جغرافيتها على الأرض المؤرخ اليمني الشهير أبو الحسن الهمداني في كتابه ذائع الصيت "صفة جزيرة العرب" عطفاً على ما قاله المؤرخ اليوناني بطليموس من جنوب العقبة بالأردن بعدة فراسخ حتى آخر نقطة على مشارف بحر العرب جنوبا.
ومن نافلة القول ..فلو أن اليمن هي الجمهورية اليمنية التي نعرفها اليوم فقط كما يزعم الزاعمون لما قال شاعر كندة الحضرمي أمرؤ القيس وهو يتحدث عن منطقة دمون الحضرمية قبل عدة قرون: