في مقاربة الأحوال اليمنية، يطفو عادة على السطح اتجاهان، أو نزعتان، يقفان على طرفي نقيض ويشتركان في مجانبتهما الصواب مجانبة تخل بالنتائج التي تتوصلان إليها. يصدق هذا على كثير من البلدان ذات الدول الهشة صدقه على اليمن. الأول، يحتل فيه الفاعل الخارجي الصدارة أثناء تفسيره لمعظم الحوادث المحلية واتجاه حركة الصراع ومحتواه، لكن مع إغفال شبه تام للمعطى المحلي وخلفيته وسياقه، وتصوير كل حركة أو سكون في ضوء معادلات الصراع الدولي والاستقطاب الاقليمي، ومجموعة المؤثرات الخارجية المحتمل حضورها على المسرح اليمني. وحتى أتفه الأحداث، يتم النظر إليها باعتبارها ترجمة حرفية لحاجة طرف إقليمي ما ضمن خطط المواجهة مع طرف إقليمي آخر. فأصحاب هذا الاتجاه يمكنهم مثلا ان يعزوا الاخبار التي تحدثت عن زواج حسين الاحمر من ابنة قيادي حوثي في صعدة إلى رغبة سعودية في اختراق خطوط إيران الأمامية، وقد يقرأ حدث شخصي جدا كهذا بالمقلوب، أي بأنه ترتيب ايراني يهدف إلى احتواء حسين الاحمر بوصفه أداة محلية من أدوات التأثير والنفوذ السعودي، واستمالته بالتالي إلى معسكر طهران. ويتواجد معتنقي هذا الاتجاه على جميع التقسيمات الاجتماعية والسياسية والعقائدية، وبأعداد قوية وشديدة الفاعلية. وهم خاضعين غالبا لتحيزات جاهزة تصنف الاحداث وتوزعها على خانات القوى الدولية والأقليمية بعينين مغمضتين تبعا لمزاج الكيان السياسي والعقائدي الذي يصدر عنه وتفضيلاته وخطوط اتصاله الخارجية، مشفوعا بكسل ذهني وبائي وله مفعول الطاعون. بل وصل الأمر ببعض الجماعات المحلية درجة من الاعتماد الحصري على مردود موقفها من الخارج عموما، رفضا أو تأييدا، ممانعة أو تبعية. الثاني، وهو اتجاه يشتهر بمغالاته في احتقار الفاعل الخارجي أثناء تحليل واستقراء الوقائع ومفاعيلها والعناصر المؤثرة فيها، وكيف أن العالم من حولنا لا يفعل أكثر من اتقاء شرورنا في حين أنه حقيقة لا يضمر لنا إلا أطيب النيات وأكثرها نبلا. أصحاب هذا الاتجاه يغضون الطرف كلية عن الأذرع الخارجية الخفية والمعلنة، وشبكات المصالح والحسابات ومعطيات الجغرافيا والتاريخ وما يترتب عليهما. ويسعون جاهدين لنزع الوقائع التي تدور في الداخل عن المناخ العام الدولي ومجالات الاستقطاب الإقليمي وقوانينه. وهذان الاتجاهان من وجهة نظري لا يصح الركون إليهما لاستيعاب مضمون اللحظة واحتمالاتها. ما هو طبيعي ومتعارف عليه في العالم المتقدم، هو أن تؤسس تحليلاتك وتفسيراتك للأمور على قاعدة متينة من الحقائق والحثيات، لا أن تعتمد على التهويمات والكليشهات السخيفة التي تطرح بأسلوب قطعي. على أن تأخذ القضية التي يقع الحدث في نطاقها، من جميع أطرافها ما وسعك إلى ذلك سبيلا، وأن تغطيها بقدر من التوازن بين المعطى المحلي وفرضياته وتعقيداته، وبين العنصر الخارجي إن وجد ومدى تأثيره، وهو لا يتوافر بالضرورة على صعيد كل ما يحدث. أقول "لا يتوافر بالضرورة على صعيد كل ما يحدث"، لكن في النهاية هذه ليست حقيقة علمية، بمعنى ان نزع حرف النفي من الجملة لن يغير من كونها فرضية يصعب اثباتها أو دحضها كلية. ولعلي اردت هنا التمييز بين قضايا ذات منشأ محلي خالص لكنها تبحث عن رعاية خارجية، في حين تنشأ قضايا وظواهر من الصفر بتخطيط وتمويل خارجي، تُختلق اختلاقا، اي ان الدور الخارجي في هذه الحالة سابق على القضية ذاتها. وبخصوص الحدث اليمني الراهن، فلقد جرى تطوير اجماع دولي يصادق على جملة المطالب التي رفعتها الثورة، وفق آلية سلسة لا تؤدي إلى تهدم الدولة وضياعها. وهو كما يحلو لي أن أتصور، يوازي التدخل العسكري الذي تبناه المجتمع الدولي في ليبيا وقام حلف الناتو بتنفيذه. فاليمن شأنه شأن ليبيا بلد يفتقر إلى المؤسسات التي يعتمد عليها في حماية الدولة من الانهيار لحظة الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أي القوة التحكيمية التي تلعب دور ضابط ايقاع الصراع على غرار ما فعله الجيش المصري ومثيله في تونس. وهذا الموقف لم تحظى به اليمن جنوبا وشمالا إزاء ثوراتها في ستينات القرن الماضي حيث اندلعت ثورتي سبتمبر واكتوبر في جو من التجاذب الحاد انقسم خلاله الكوكب إلى شقين. ولسوف تتحول اليمن إلى مساحة مفتوحة لصنوف من التدخلات أطالت أمد التناحر بين أبناء البلد إلى سنين طويلة. ومع ذلك، فالأفق اليمني لا يزال مهيأ أكثر مما سواه، لاحتمالات خطيرة من التدخلات الخبيثة. فلدينا نافذتين أصليتين يمكن أن تتدفق منهما العواصف المهلكة، وهي جنوب اليمن، وصعدة. ولدينا في مقابلهما مؤثر إقليمي رئيسي تتسم نواياه بالغموض حيال الإجماع الدولي المشار إليه، أقصد هنا إيران، مضافا إليها مؤثر ثانوي وطارئ وسياسته أيضا يشوبها قدر متزايد من الضبابية. في الفيس بوك قال نبيل الصوفي أن من ذهب للرياض عليه ان يتفهم ذهاب غيره لطهران. وكان ردي على هذا النحو: ليس الدور السعودي شيطاني في جوهره، ولا الدور الإيراني أيضا، إذ أن طبيعته هي التي تحدد موقفي منه. حاليا أعتبر الدور السعودي، كما تقول ظواهر الأمور واستنادا الى معيار دعم بقاء الدولة والحاجة إلى استمرارها، دورا حميدا، لكن فيما لو صحت الفرضيات بشأن إيران، فتحركها في نظري سيكون خبيث. الأول متناغم مع الإجماع الدولي الذي يشدد على التوصل إلى انتقال ديمقراطي يستجيب لمطلب التغيير في إطار اليمن الموحد، بينما الثاني يتجه للامساك بأوراق مؤداها التقسيم والفوضى. وفق هذا المعيار أحكم على طبيعة المؤثرات الخارجية، حاليا على الأقل.