يقف اليمن واليمانيون أمام خيارين: إما استمرار الحرب، وإما السلام. الحرب داء اليمن الوبيل؛ فهي سبب رئيس في انهيار الحضارة اليمنية، وخراب العمران والتمدن والسدود. هجرات اليمنيين المتطاولة منذ مئات السنين مردها في جانب مهم إلى تناسل الحروب واستمرارها. سنوات الأمن والسلام والاستقرار في اليمن هي الاستثناء، شأن الوحدة والعدالة. يطلق الأحرار اليمنيون – الحركة الوطنية الأم – على المتوكلية اليمنية اسم " التاريخ الآثم" ؛ فهو تاريخ ملطخ بالدماء، ومعبأ بالصراعات والفتن والمآسي.
إرادة الحياة هي الأقوى رغم الفتن والحروب المستدامة والبيئة القاسية والشموس- كتعبير شاعر الوطنية محمد محمود الزبيري-.
دأب اليمانيون بعد كل حرب على الالتقاء والمصافحة وترديد قول الشاعر: إذا احتربت يوما فسالت دماؤها... تذكرت القربى ففاضت دموعها
القصة في الأساس الفشل في بناء الكيان اليمني – الدولة اليمنية الواحدة-؛ فاليمن بلد متنوع ومتعدد حتى في مناخاته، والمآساة أن محاولات قصر اليمنيين أو تطويعهم لقبيلة أو طائفة أو منطقة غالباً ما تؤول إلى الفشل، وتلحق أضرارا بالتطور والحياة.
كانت الوحدة في ال 22 من مايو 90 هي واحدة من أرقى المحاولات في العصر الحديث لبناء كيان يمني موحد تتوافق عليه الإرادات اليمنية المتنوعة والمختلفة، ولكن طبيعة النظامين الشموليين في الشمال والجنوب قد عطلت المحاولة بل وأدتها.
حرب 94 عادت بالبلاد سيرتها الأولى.
طموح اليمنيين للتغيير والتحديث والدسترة يعود إلى النصف الأول من القرن الماضي؛ فقد نشأت الصحافة العدنية في أربعينيات القرن الماضي، وتأسست النقابات والنوادي الأدبية والثقافية والرياضية. وفي صنعاء تكونت حركات معارضة انتقادية للحكم، وشاعت دعوة الدسترة باكراً في ظل الحكم المتوكلي شديد التخلف، وقامت ثورة دستورية في 1948.
إرادة اليمانيين للتغيير قوية ولكن قساوة الواقع والبيئة الشموس ذات الجذور القبلية المدججة بالأمية والسلاح عائق كبير ، ثم إن ضعف النخب وهشاشتها وتعاليها وزرايتها بالبيئة القبلية حيناً وجنوحها للإرادوية والقفز على الواقع، والرهان على الحلول الأمنية- جوانب أساس في الوضع الكارثي الذي نعيشه.
حروب السبع سنوات في ال ج.ع.ي. لم تُقرأ عميقاً، وغالبا ما تجرم "فلول الملكية" والقوى القبلية وحدها، ولا يجري الوقوف عند تقديس السلاح، والهوس بالحرب، وعجز المثقف عن القراءة العميقة للواقع.
تتجلى مخاطر الإرادوية في مسار ثورة الرابع عشر من أكتوبر؛ فالقفز على الواقع، وتبني إجراءات سياسية واقتصادية شديدة القسوة، والجنوح للإقصاء والعنف والتهميش لقوى اجتماعية عديدة وللأطراف السياسية المختلفة قد نقل الصراع إلى داخل الحزب لتكون كارثة 13 يناير1986.
عولت الثورة اليمنية سبتمبر1962 وأكتوبر1963 على الحل الأمني، وغيبت الديمقراطية، وأعاقت بناء المجتمع المدني، وهمشت السياسة والثقافة.
لا بد من التمييز بين الإرادة والإرادوية؛ فالإرادة كتعريف الفلسفة هي: التصميم الواعي على تنفيذ فعل معين أو أفعال معينة، وهي ليست معزولة عن التأثيرات والظروف المحيط، ولا مقطوعة عن العوامل الخارجية، بل هي التعبير الصادق والأمين عن الفهم العميق للواقع وتحولاته. أما الإرادوية فهي: قفز على الواقع، وجهل به، وافتئات عليه.
هبت بشائر الربيع العربي مع نزول الحراك الجنوبي إلى الميادين في عدن وحضرموت 2007 ثم امتدت إلى تعزوصنعاء ومختلف المدن اليمنية. ولأول مرة يجري تلاق حميم بين الريف والمدينة، وبين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني. انخرطا في احتجاجات مدنية سلمية حقيقية لأكثر من عام. كان أبناء القبائل يتخلون عن سلاحهم، ويتصدون بصدورهم للرصاص في ظاهرة غير مسبوقة، وقتل العشرات منهم، وتعرضوا للاعتقال والاختطاف والاغتيال.
لقد جرى تقارب في المجتمع المدني والأهلي وتلاق بين الريف والمدينة جسدت تلاقي الإرادة السياسية في التغيير على أرضية سلمية الثورة واستقلاليتها .
الشعارالرائس للربيع العربي غطى سماء اليمن شمالاً وجنوباً: " الشعب يريد إسقاط النظام".
انحياز قيادات أحزاب اللقاء المشترك للثورة الشعبية السلمية والتي لم يكن أعضاؤها بعيدين عنها بل المكون الأساس قد رفد الثورة بطاقات كبيرة، ولكنه أضعف سلمية الثورة، وغيب استقلاليتها، وبالأخص منذ الاستيلاء على اللجان العاملة، وبالأخص التنظيمية والأمنية والمنصة من قبل التجمع اليمني للإصلاح .
انقسام السلطة على نفسها بعد جمعة الكرامة 18 مارس 2012 كان التطور الأخطر على الثورة؛ فقد انقسم الجيش والأمن والحكومة والسلك الدبلوماسي وكبار المشايخ والموظفين. وكانت الكارثة بداية المواجهات العسكرية، واشترك الجيش والأمن المنقسمين في الاحتجاجات مما حولها إلى صراع مسلح بين قطبي الحكم. وتفجرالصراع المسلح في غير منطقة ليقضي على الطبيعة السلمية للثورة ويلغي استقلاليتها .
مبادرة التعاون الخليجي في عمقه مصالحة بين هذين القطبين المتصارعين، وهي وإن جنبت البلد لحظتها المواجهة الشاملة إلا أنها أعادت إنتاجه، وقد أقرت نظرياً بمشاركة الشباب والمرأة إلا أن جذوة الصراع بقيت مشتعلة في غير صورة وفي أكثر من مكان مما غذى الإرهاب، وأسقط هيبة الدولة، وشجع التفككك والانهيار، وأعطى صالح ورفاقه بطاقة مرور.
الحوار مثل انعطافة جديدة، حضور المرأة والشباب فيه كان مائزا، ولكن القوى التقليدية والعسكرية والتقليدية الحاكمة قد أعاقت الحوار بالاستمرار في الحرب، وكانت الخطيئة الكبرى التغاضي عن الحرب في ظل الحوار. ثم إن الحوار لم يمتد إلى قاع المجتمع وإلى عروق مختلف الفئات والشرائح والمناطق النائية لإشراكها في حوار يخصها.
سلق مخرجات الحوار والالتفاف على بعضها قد أضعف الإرادة السياسية والمجتمعية المدنية، وقوى عضلات العنف والصراع الدامي.
غياب طرف أو بالأحرى تغيب أطراف في الحراك الجنوبي، ورفض أنصار الله التوقيع، وغضب الاشتراكي، ثم إن طريقة تشكيل الهيئة الوطنية للحوار ولجنة الدستور كلها أسهمت في إضعاف جدية الحوار؛ لتتصاعد