عجز الأمم المتحدة في قضية محمد قحطان.. وصفة فشل لاتفاق السلام    عاجل: نجاة أمين مجلس شبوة المحلي ومقتل نجله وشخصان آخران (صور)    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    مصدر برلماني: تقرير المبيدات لم يرتق إلى مستوى النقاشات التي دارت في مجلس النواب    عاجل.. إن بي سي: الإعلان عن وفاة الرئيس الإيراني وعدد من المسؤولين بسقوط المروحية خلال ساعات    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    الجامعة العربية: أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    إنتر ميامي يتغلب على دي سي يونايتد ويحتفظ بالصدارة    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    - البرلماني حاشد يتحدث عن قطع جوازه في نصف ساعة وحرارة استقبال النائب العزي وسيارة الوزير هشام    قيادات الدولة تُعزي رئيس برلمانية الإصلاح النائب عبدالرزاق الهجري في وفاة والده    تعز.. وقفة احتجاجية لأمهات المختطفين للمطالبة بإطلاق سراح أبنائهن من سجون المليشيا    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    وفاة وإصابة عشرة أشخاص من أسرة واحدة بحادث مروري بمأرب    عدن.. وزير الصحة يفتتح ورشة عمل تحديد احتياجات المرافق الصحية    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الهجري في وفاة والده    مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    ريبون حريضة يوقع بالمتصدر ويحقق فوز معنوي في كاس حضرموت    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    وكيل قطاع الرياضة يشهد مهرجان عدن الأول للغوص الحر بعدن    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    مصرع عدد من الحوثيين بنيران مسلحي القبائل خلال حملة أمنية في الجوف    من هو اليمني؟    خسائر في صفوف قوات العمالقة عقب هجوم حوثي مباغت في مارب.. واندلاع اشتباكات شرسة    الكشف عن حجم المبالغ التي نهبها الحوثيين من ارصدة مسئولين وتجار مناهضين للانقلاب    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    صحيفة إماراتية تكشف عن "مؤامرة خبيثة" لضرب قبائل طوق صنعاء    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مؤتمر اليسار للعدالة الاجتماعية يفتتح أعماله في صنعاء بمشاركة أحزاب ومنضمات مجتمع مدني وكتاب وصحفيين "نص ورقة الدكتور ياسين سعيد نعمان"
نشر في يمنات يوم 28 - 08 - 2013

بدأت صباح اليوم الأربعاء في العاصمة اليمنية صنعاء أعمال مؤتمر اليسار للعدالة الاجتماعية، الذي نظمته منظمة الشباب التقدمي بالتعاون مع مؤسسة فردريش ايبرت الالمانية.
وشارك في المؤتمر 150 مشاركا من مختلف محافظات الجمهورية يمثلون أحزاب يسارية وقومية ونقابات ومنظمات مجتمع مدني بالإضافة إلى مشاركة مثقفين وكتاب وصحفيين يساريين.
وبدأت الجلسة الافتتاحية بكلمة لرئيسة منظمة الشباب التقدمي بشرى المقطري وكلمة لمؤسسة فردريش آيبرت وكلمة المشاركين من المحافظات.
وناقش المؤتمرون في ثلاث جلسات خلال اليوم الأول سبع أوراق عمل.
وتحدث في الجلسة الأولى الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الدكتور ياسين سعيد نعمان عن اليسار اليمني والعدالة الاجتماعية، اعقبتها ورقة عمل أخرى عن اليسار اليمني الواقع والتحديات للأستاذ عادل العقيبي عضو اللجنة المركزية للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.
وفي الجلسة الثانية قدمت الناشطة الحقوقية وميض شاكر ورقة عمل حول دور المجتمع المدني في النضال من أجل العدالة الاجتماعية تلتها ورقة عمل حول النساء والعدالة الاجتماعية ألقتها الناشطة الحقوقية سارة جمال تلتها ورقة عمل تحدث فيها الناشط وليد العبسي عن الحراك الجماهيري وفلسفة اليسار.
و حددت الجلسة الثالثة لورقة العمل السادسة وتحدث فيها الدكتور سامي عطا عن اليسار اليمني والعدالة الاجتماعية.
وفي مداخلة له تحدث الدكتور فؤاد الصلاحي عن اليسار الجديد وثورات الربيع العربي. مشيرا إلى أن الاحزاب السياسية الحالية لديها انفصام في الشخصية السياسية حين تتحدث عن الشباب واشراكهم في الحياة السياسية في حين انهم غائبون عن الهياكل القيادية لهذه الاحزاب.
ويعقد مؤتمر اليسار اليمني لأول مره في اليمن بمشاركة الحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الوحدوي الناصري، والتجمع الوحدوي اليمني، وحزب البعث العربي الاشتراكي.
وتهدف منظمة الشباب التقدمي من تنظيم المؤتمر إلى رص صفوف القوى السياسية والحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني للعمل المشترك من أجل الانتصار لقضايا العدالة الاجتماعية في اليمن.
"يمنات" ينشر نص ورقة الدكتور ياسين سعيد نعمان التي ألقاها في المؤتمر..
إن ملمح عام يطرح موضوع اليسار وعلاقته بالعدالة الاجتماعية كواحدة من أهم قضايا الإجتدال السياسي والفكري عندما يتعلق الأمر بالحامل الحقيقي للعدالة الاجتماعية من بين كل القوى التي باتت تطلق هذا الشعار وبمضامين اجتماعية وسياسية وفكرية لا تقف على أرضية واحدة وانما متنوعة الاتجاهات والأهداف والأسباب.
ولا شك أن الأسئلة التي وضعت أمام هذا المؤتمر للإجابة عليها لا يجب النظر إليها في سياق معرفي بحت وإنما من خلال القراءة الموضوعية والعميقة للتجربة التاريخية لليسار ومكوناته المختلفة وظروف نشوئه والبيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها وقدرته على صياغة خطاب سياسي وفكري يتناغم مع الممكنات التي تساعده على تبيئة أفكاره السياسية والاجتماعية في الأوساط الشعبية وبالذات الأوساط التي يتطلع إلى أن يعبر عنها وعن همومها وقضاياها.
هذا المؤتمر، الذي يعد الأول، ربما، من نوعه في اليمن، لا بد أن يكون المشاركون فيه قد تخطوا لحظة الدهشة التي تضع خطا فاصلا بين المعرفة الذاتية التي تحلق بصاحبها أحيانا كثيرة في تهويمات فلسفية إلى أن تستقر به في محيط يعج بالمتناقضات والأفكار المتباينة والواقع شديد التعقيد، وبين المعرفة التي تستوعب العقل الجمعي في أكثر صورها جدلا وتعقبا للمسار التاريخي لهذا اليسار وما عاناه من صعوبات سواء لأسباب ذاتية او موضوعية، وما أنتجه من أفكار وتجارب وخبرات يمكنها أن تشكل رافدا من روافد البحث في الإجابة على الأسئلة التي يتوجب على هذا المؤتمر الإجابة عليها.
وفي هذا الصدد لا يجب أن تكون اللفظة الثورية المصاغة في ظرف تاريخي معين هي الدليل على صحة المسار أو خطئه، كما أن عدم تحققها في الواقع العملي لا يجب أن يكون هو الآخر دليلا على الخيبة.
هذا المؤتمر يجب أن يكون مقدمة لبحث موضوعي يشارك فيه بفعالية مثقفوا اليسار ومفكريه لفهم هذه المسألة في حركتها لا في جمودها.
إن اليسار ومشروعه، إذا جاز لنا أن نتحدث عن مشروع واحد، لا ينموان في بيئة خصبة في الوقت الحاضر، تماما مثلما كان الحال في أوقات سابقة، مع تحسن ملموس من حيث الملاءمة في بعض الفترات التاريخية، ولا يكفي أن يحمل على العقرب الذي يتحرك باتجاه الطبقات الفقيرة ليضمن سلامة وصحة مساره السياسي والاجتماعي..
لا بد أن يرتبط هذا ارتباطا وثيقا بالفكر وبالخطاب الذي يجب أن يشكل المحرك القوي والدائم لهذا الحامل.
إن حقيقة تحول كثير من مكونات اليسار في كثير من البلاد العربية إلى مجرد نخب لا تربطها بالشارع صلات قوية لا يعني مطلقا أن مشروعها الاجتماعي قد هزم وإنما لأن هذا المشروع قد تم السطو عليه من قبل قوى أخرى وقامت بإعادة تشكيله بمضامين مختلفة تماما وإيصاله إلى الشعب بأدوات ووسائل هي أقرب في شكلها ومحتواها إلى الوعي الشعبي.
لقد كان موقف اليسار من الفكر الديني مرتبكا, وفي هذا الفكر الكثير والكثير مما يمكن أن يشكل قوة دفع لحمل مشروعه إلى الأوساط الشعبية التي تشكل القاعدة الواسعة لمشروعة الاجتماعي والسياسي.
وكثيرا ما أدى هذا الارتباك إلى المزيد من عزلة اليسار خاصة عندما أخذ يختصم ويخاصم حول مقولات مجردة لم تسعفه في الاستعانة بالواقع للوصول إلى نتائج مقنعة.
نضال اليسار وتضحياته الكبيرة ونشوئه:
لقد ناضل اليسار اليمني وقدم التضحيات الكبيرة من أجل وضع اليمن شماله وجنوبه على طريق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واصطدم في نضاله هذا بصعوبات ضخمة، لكن أهم الصعوبات تمثلت في تلك القوى التي تحركت صوب مشروعه بأدواتها الخاصة وبجسور وظفت فيه الفكر الديني لصالح مشروعها السياسي.
وأدت صراعات مكونات اليسار فيما بينها على الصعيد القومي إلى تشظي اليسار في الأقطار العربية ومنها اليمن، وأضعف هذا زخم اليسار الذي ترافق مع قيام الثورات العربية في منتصف القرن الماضي والتي أنشأت حالة من الاستقطاب الواسع..
كان النظام الرسمي العربي حاضرا فيها مما أدى إلى انقسامه انقساما رأسيا مضى باتجاه تشكيل خيمتين كبيرتين، الأولى: القوى المحافظة والتقليدية والتي قاومت الثورات وسعت إلى هزيمتها وهزيمة كل القوى التي ارتبطت بها وعبرت عن مضامينها الوطنية والثورية. والثانية: القوى الثورية التي خاضت المعترك الثوري ولكنها لم تستطع أن تؤمن مسارات هذه الثورات بغطاء شعبي حقيقي حيث حلت الأجهزة الأمنية في كثير من الأحيان محل الإرادة الشعبية في حماية هذه الثورات وكانت في الأساس سببا في انتكاستها.
انعكس هذا الوضع على اليسار في اليمن وتعرض لكل النتائج السلبية التي تمخضت عنه. وربما لأن مكونا من مكونات اليسار ممثلا في الجبهة القومية، كان يحكم في الجنوب في تلك المرحلة المبكرة من تشكل اليسار فقد كان ذلك عاملا مساعدا في دفع بعض قوى اليسار إلى الحوار والانتقال من حالة التشظي إلى التفاهم.
وفي الجنوب توحدت ثلاث من قوى اليسار وهي : التنظيم السياسي الجبهة القومية، الاتحاد الشعبي الديمقراطي وحزب الطليعة الشعبية مكونين التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية ثم الحزب الاشتراكي اليمني فيما بعد.
وفي الشمال ظلت قوى اليسار تناضل في تساوق مع أهداف الثورة اليمنية وتحملت عبء الدفاع عن الثورة في الحرب ضد النظام الجمهوري ومنها حرب السبعين يوم، وتعرضت بعد ذلك للقمع والسجون والملاحقات والقتل من قبل تحالف القوى التقليدية مع العسكر والذي استطاع أن يفرض هيمنته على السلطة..
ومن رحم المعاناة استطاعت مكوناته الأساسية أن تعيد صياغة مشروعها النضالي الذي شكل قارب إنقاذ لهذه القوى في لحظة تاريخية كانت التصفيات والملاحقات تتم على أساس انتقامي وبدعم خارجي في إطار الصراع بين الخيمتين على الصعيد العربي والدولي.
وأدى الحوار بين مكونات اليسار إلى فرز جعل من بعضها أقرب إلى بعض في تمايزات اتسمت في جوانب كثيرة منها بالموقف من منظومة الحكم وما رتبه ذلك من هيكلة فكرية وسياسية لمن فضلوا الانخراط في منظومة الحكم القبلية والعسكرية يومذاك أو البقاء في إطار النظام السياسي وإن مهمشين في أغلب الأحيان.
خمس مكونات هي الحزب الديمقراطي الثوري، منظمة المقاومين الثوريين، حزب الطليعة الشعبية، الاتحاد الشعبي الديمقراطي، حزب العمل اقتربت من بعضها بصيغ فكرية ونضالية وشكلت حزب الوحدة الشعبية الذي توحد مع الحزب الاشتراكي في حزب واحد.
إن الورقة هذه ليست معنية بالتأريخ لمسار الحركة الوطنية، لكن الجانب المهم هو المساهمة في تشخيص تبلور مسارات اليسار ونشوئه من خلال رصد التطور الذي صاحب بعض أبرز مكوناته على الصعيد التنظيمي.
والحقيقة إن هذا الرصد لن يكون واضحا إلا بتتبع الجذر التاريخي لنشوء اليسار في اليمن فلا أحد لديه تقدير دقيق للفترة الزمنية التي بدأ فيها اليسار يتبلور كتيار لديه من الرؤى الفكرية والسياسية والاجتماعية.
مطلع الخمسينات من القرن الماضي يمكن اعتبارها مرحلة البداية , فقد تجمعت عوامل داخلية وخارجية كان لها أثرها على ذلك، ومنها: 1. نشوء الحركة النقابية والعمالية في عدن، وازدهار الصحافة وانتشار الكتابات السياسية وقيام الحلقات الفكرية والمساجلات الثقافية التي تتناول مختلف القضايا السياسية والاجتماعية بما فيها تلك المتعلقة بدور الاستعمار في تكريس التبعية الاقتصادية والثقافية، وخاصة الثقافية فقد كانت ثورة الجزائر في تلك الفترة نموذجا لمقاومة التبعية الثقافية، والمتعلقة ايضا بحقوق العمال والهجرة التي تهدد عروبة عدن، وبالمرأة وقضاياها المختلفة بما في ذلك التعليم وسن الزواج والحجاب ومشاركتها في الحياة العامة والتوظيف.. إلخ. 2. بداية نشوء الحركة الوطنية وبلورة برامج سياسية واجتماعية لمختلف القوى التي شكلت المكونات الأساسية لهذه الحركة [مقاومة النظام الإمامي وركائزه ومقاومة الاستعمار وازلامه]. 3. بروز مدينة عدن كأهم محطة لتجمع القوى السياسية والوطنية من مختلف أنحاء اليمن مما ساعد على خلق بيئة سياسية وثقافية لمناقشة مختلف القضايا الوطنية والاجتماعية، وكان للأندية والجمعيات والنقابات دورا محوريا في تنظيم ندوات ومحاضرات برزت فيها التباينات من منطلقات فكرية ومعظمها كانت ذات ميول قومية ويسارية ببعدها المدني. وبدأ اليسار، في هذا الجو الذي لا حدود فيه لاختلاف الأفكار والآراء، يهيكل نفسه في صورة تنظيمات ومكونات سياسية تجاوز الكثير منه حواجز الجغرافيا السياسية سواء على الصعيد اليمني أو العربي.
كان خطاب اليسار في تلك المرحلة أكثر تأثيرا في الأوساط الشعبية فقد كان خطاب حشد يعتمد الجملة الثورية المشبعة بأحلام البسطاء والفقراء من القواعد الشعبية العريضة التي تتطلع إلى الخلاص من الاضطهاد والفقر وكافة التعبيرات السياسية الملازمة لهما في صورة الاستعمار أو النظام الإمامي.
غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد تمخضت الثورات في كثير من البلاد العربية ومنها اليمن عن ركام من الخيبات التي صنعتها الأنظمة العسكرية والبوليسية التي صادرت الثورات.
وكان اليسار في مقدمة من دفعوا ثمن هذه الإنتكاسات. وفي اليمن جرى في الشمال تهميش اليسار وملاحقة نشطائه وتعرض الكثيرون من قادته للإختطاف والإعتقالات والتصفيات الجسدية على أيدي من صادروا الثورة من العسكريين الإنقلابيين والأجهزة الأمنية البوليسية. وأدى غياب التعددية السياسية في الجنوب والإضطرابات الناشئة عن ذلك إلى الإرتباك بشأن تكوين موقف واضح وثابت من عملية خلق بيئة لتطور اليسار كمنظومة سياسية وفكرية قادرة على الصمود في وجه التحديات بأشكالها المختلفة. ولم يكن الوضع أحسن حالا بعد الوحدة.. ففيما عدا الثلاث السنوات التي أعقبت الوحدة والتي شهدت فيها البلاد قدرا من الحرية السياسية تمكن معها اليسار بكافة مكوناته السياسية والمدنية من استعادة نشاطه والبدء بإنتاج تحالفات سريعة لم تفلح في أحيان كثيرة من تعزيز مكانته بسبب البناء التنظيمي والفكري المتسم بالجمود لمعظم المكونات، إلا أن حرب 94 أعادت البلاد إلى الوضع الشمولي المصادر للحريات والذي تحمل اليسار من جديد الآثار السلبية الناجمة عنه على الحياة السياسية والفكرية.
غير أن اليسار الذي كان قد تعرض لضربات قاسمة في مراحل مختلفة لم يستطع أن يعيد إنتاج نفسه على الساحة السياسية اللهم إلا بالصمود الذي عبرت عنه بعض مكوناته ومنها الحزب الإشتراكي. وعلى الرغم مما تعرض له االحزب من مصادرة وتجريف ومحاولات إجتثاث إلا أن صموده كان تعبيرا عن أصالة مشروعه السياسي والإجتماعي وتجذره في الوسط الشعبي الذي عبر عن مصالحه. ومما يثير الإنتباه هو أن صمود الحزب الإشتراكي كان يستفز أجنحة من داخل القوى المتحالفة معه أسوة بمثيلاتها من القوى الأخرى التي كانت تشكل جسم النظام الحاكم، ولذلك فقد تواصلت حملات التكفير ضده فور الدعوة التي أطلقها لتغيير النظام في عام 2010، وكذلك حملات التحريض التي شنها النظام وبعض أصحاب المشاريع المجهولة ومنهم من تشرنق داخل شرك الصراعات القديمة وخرج ليصفي حساباته مع ذلك التاريخ ولم تؤهله الحياة لغير ذلك. في المعارضة التي حمل لواءها اللقاء المشترك، تمكن اليسار ربما لأول مرة في تاريخ نضاله االسياسي أن يصيغ منهجا تكتيكيا لخياراته السياسية في إطار إستراتيجية المواجهة الحازمة للمشترك مع النظام. ولم يعرف عن اليسار في تاريخ نضاله الطويل سوى التضحية مع غياب التكتيكات السياسية التي جعلته مكشوفا ومعرضا على نحو دائم للقمع والملاحقات.
إن تاريخ اليسار في اليمن هو تاريخ نضالي بامتياز لكن هذا لا يشفع له الإخفاقات التي نشأت عن بقائه ممزقا حتى في تلك اللحظات التي لم تترك أمامه خيارات أخرى غير توحيد الجهد لمواجهة القمع والتصفية وهو ما جعل قدرته على إنتاج تكتيكات مناسبة لحماية مشروعه السياسي ضعيفة بل ومعدومة في معظم الأحيان. لقد كانت القوى التقليدية أكثر قدرة وكفاءة في خلق التكتيكات المناسبة لحماية نفسها في لحظات الضعف وهو ما مكنها من خلق تراكمات على الأرض لصالح مشروعها. إن غياب التكتيك المناسب لأي قوة سياسية غالبا ما ينشئ فجوات تصل حد القطيعة بين حلقات نضالها.
والمتتبع للتاريخ النضالي لليسار ومكوناته لا بد أن يلمس بوضوح هذه القطيعة بين حلقات نضاله وتضحياته الضخمة حتى لتبدو وكأنها حوادث متفرقة لا يربطها رابط إستراتيجي، بل يمكن، بسبب ذلك، أن يسجلها البعض على أنها أحداث مغامرة ولا تاريخية.. وكل من يريد أن يسيئ لليسار أو يقلل من تضحياته يمكن أن يسجل ذلك بكل سهولة. جاء الحراك السلمي في الجنوب واستطاع اليسار أن يشكل سندا قويا له وللقضية الجنوبية ودعا إلى عدم الوصاية عليه من قبل أي قوى سياسية أو إجتماعية أو أفراد باعتباره حركة شعبية موضوعية قادرة على إنتاج قياداتها من داخلها.. ناهيك عن أن الحالة السياسية الثورية التي أنتجها الحراك السلمي تتجاوز الحالة الذاتية لكل تلك القوى، وبالتالي فإنها ما لم تكن قادرة على الإرتقاء بأدواتها إلى مصاف هذه الحالة فإنها لن تلبث أن تشكل عائقا لها في نهاية المطاف.. وهذا للأسف ما حدث فيما بعد، فقد نقلت هذه القوى صراعاتها القديمة إلى داخل الحراك حيث جرى استقطابه جزئيا لينتج اشكالية ما يمكن أن يطلق عليه رقابة الماضي على المستقبل..
وبدا كما لو أن هناك من يريد أن يوظف هذا الجزء من الحراك للإنتقام من الماضي بنفس العقلية التي توقف عندها منذ عقود طويلة من الزمن. ومع ذلك فقد فتح الحراك نافذة للمسقبل لكل اليمن وتفجرت ثورة فبراير 2011، الثورة التي حملت لواء التغيير وكان الشباب طليعتها واستطاعت أن تنهي حقبة من الحكم الأستبدادي الفاسد، وتنهي منهج التوريث الجمهوري في الحكم إلى الأبد، وفتحت آفاقا للتغيير لا زالت متاحة وبقوة إلى اليوم رغم كل محاولات ضخ الإحباط التي يمارسها خطاب يدعي الثورية لكنه في الحقيقة لا يخدم سوى إستعادة أنفاس قوى النظام القديم التي تعمل على ترتيب أوراقها مع كل خيبة أو إخفاق تلحق بالمشروع السياسي للمرحلة الإنتقالية.
لا بد هنا من الإشارة إلى أن كثير من قوى اليسار، وهي التي قدمت الكثير من التضحيات في هذه الثورة، لم تستطع من جديد أن تبني حساباتها السياسية في ضوء الهدف الإستراتيجي الذي قامت من أجله الثورة ووقعت ضحية مفهوم مخادع لإنتصار الثورة بالمفهوم التقليدي الذي عبرت عنه تجارب تاريخية في أماكن وأزمنة مختلفة من العالم.
إن معطيات الواقع اليمني تشير إلى أن إمتلاك السلاح وكذا الدعم الخارجي لقوى بعينها، كانت قد توزعت في المشهد حسب ما أملته الضرورة المحكومة بحسابات اللحظة، قد شكل مركز إستقطاب في هذه العملية على نطاق واسع.. وكانت مهيأة للمواجهة العسكرية في أي لحظة، غير أن كل واحدة منها فقط لا تريد أن تتحمل مسئولية البدء في هذه المواجهة لا سيما وأن المجتمع الدولي كان قد حسم أمره فيما يخص إدانة المواجهة العسكرية، ناهيك عن أنها كانت تدرك أن المواجهة العسكرية لن تفضي إلى نتائج حاسمة لصالح أي منها.
وكان على القوى الثورية المدنية أن تدرك أنها كانت ستكون الخاسر الأكبر في حالة نشوب المواجهة العسكرية لأنها ستكون على هامش المواجهة من كافة الأطراف أو ملحق في أحسن الأحوال لمن بيده السلاح. بعض هذه القوى المدنية ومنها بعض مكونات اليسار خدعت بخطاب راحت تضخه قوى مسلحة رافضة للعملية السياسية، أو قابلة بها على مضض، أو متآمرة عليها، وكأنها تريد أن تأكل الثوم بفم غيرها. وكانت هذه القوى، وهي متنوعة البنى والأهداف، تعمل في الأغلب منذ البداية على إستقطاب الحالة الثورية لصالح مشاريعها الخاصة.
وللأسف كانت الإستجابة من قبل البعض غاية في السذاجة السياسية في تواصل تلقائي مع تاريخ لا يعرف غير التضحيات التي تنتهي بالتهميش والإستبعاد، هذا في أحسن الأحوال. لقد شكل هذا الموقف المحسوب بحاجة الآخرين لتوظيف القوة والسلاح والمال لا بحاجة هذه القوى إلى التغيير السلمي، خسارة كبيرة وسحب من رصيد الضغط الكبير الذي شكله العمل السلمي في العملية الثورية وهو ما جعل القوى المدنية تبدو وكأنها خارج المشهد.
من المؤسف أن لا يتعلم بعض اليسار من الدروس التاريخية ويستمر في توظيف الجملة الثورية بصورة لا تنسجم مع حاجة نضاله إلى التكتيكات السياسية في الواقع المعقد والمفعم بتناقضات المصالح، ثم لا يلبث عندما تعوزه القدرة على التفاعل مع هذا الواقع أن يعيد توظيف الجملة الثورية لإنتاج الصراع داخل بنيته المتسمة بالهشاشة والتفكك ليولد مزيدا من الضعف في مكانته الشعبية وقدرته على قيادة المجتمع المدني الذي يتسرب من بين يديه لصالح القوى الأخرى. اليسار اليوم في حاجة إلى قراة مسئولة وموضوعية للواقع السياسي والإجتماعي الذي يناضل فيه.. لا بد أن يقرأ موازين القوى ومسارات تطورها والعوامل المؤثرة فيه وتحديد خياراته على نحو متجدد بعيدا عن النماذج المصممة بقوالب يصعب أن تبني بها موقفا نضاليا يمكنه من حمل خياراته إلى المجتمع بالنجاح الذي تسعى إليه كل القوى السياسية.
لم تعد الثورة وإنتصارها عملية محكومة بالخيال الثوري المحض الذي ظل يتحكم في تقرير مصيرها على قاعدة من هو الطرف الذي سينتصر في ميدان المعركة.
إنتصار الثورة اليوم وبمفاهيم العصر يعني قدرتها على تحقيق الهدف المتمثل في أن يصبح الشعب هو مالك السلطة ومصدرها، ويصبح هو صاحب القرار.
أي أن الثورة بصيغتها الشعبية، وليس النخبوية، يجب أن تحسم لصالح أن يكون الشعب هو ماللك السلطة ومصدرها، وانتصارها مرتبط بتحقيق هذا الهدف، بعيدا عن أي أهداف طوباوية تحلق في عالم الرومانسية الثورية. أي أن إنتصارها مقترن بانتصار بناء الدولة المدنية الديمقراطية وتصميم عقدها الإجتماعي الذي ترتضيه كافة القوى ولا غير ذلك. أما الخيارات السياسية والإجتماعية والإقتصادية فتتوقف على قدرة القوى السياسة على تسويق مشاريعها واقناع الناس بها، ومن ذلك العدالة الإجتماعية ومضامينها لتي يجب أن تتحدد بوضوح بالإستناد إلى الرؤى االفكرية للقوى السياسية. إن أول ما يسترعي الإنتباه في هذه العملية الموضوعية ببعدها الثوري هو أهمية إنفصال الدولة عن السلطة، بمعنى أن أسس الدولة لا يتولاها طرف بعينه وإنما هي مهمة يقوم بها الشعب، ثم تنخرط القوى السياسية في هذه الدولة كجزء منها وليس كمكونات تعلو عليها أو تسمو فوقها. لا يجوز لأي قوة سياسية تأتي إلى السلطة أن تغير في هذه الأسس. لا بد أن تنظم عملية التغيير أو التعديل بموجب نظام لا يسمح لأي قوة أن تقوم بهذه العملية بمفردها.
اليسار جزء من هذه العملية التاريخية : والسؤال كيف يستطيع اليسار أن يكون جزءا من هذه العملية التاريخية بعيدا عن مراوغة الرومانسية الثورية أو تضليل النماذج "المقدسة" التي استهلكها الزمن في تجارب كان لها زمن غير الزمن وظروف غير الظروف وواقع غير الواقع ؟ سيكون من المفيد أولا أن يحسم اليسار أمره فيما يخص طريقه إلى بناء الدولة المدنية الديمقراطية وأدوات نضاله لتحقيق ذلك، وفي تساوق مع ذلك يصبح حسم موقفه من القضية االجنوبية مؤشرا على تعاطيه بواقعية مع القضايا الكبرى المؤثرة بصورة مباشرة على بناء هذه الدولة.
لا بد أن يخرج من مأزق المراوحة داخل مفاهيم رمادية لمعنى الثورة وإنتصارها حتى لا يجد نفسه يغرد خارج السرب في لحظة تاريخية يمكن أن يكون فيها مالك ناصية المشهد أو على الأقل حاضرا فيه بقوة الدفع الثوري لعملية التغيير قبل أن يستهلكها الإحباط والخطاب التحريضي المتعمد، وعلى نحو مقصود بحكم التجربة، استنفار النفس الإشكالي الذي كان ولا يزال السمة الغالبة لليسار حينما تصطدم تضحياته النضالية بمتغيرات مغايرة على الأرض.
واليسار الذي يجب عليه أن يعيد ترتيب أوراقه السياسية بالإعتماد على خبرته المتراكمة وتضحياته الكبيرة وقراءته الموضوعية للواقع السياسي والإجتماعي والمتغيرات الضخمة التي لم تستطع أن ترمي به خارج المشهد كما فعلت مع مثيله في بلدان أخرى، بل بالعكس عززت من مكانته وقيمته في هذه العملية الثورية التراكمية الضخمة، يجب أن يتخلص من براثن خطاب يكاد يتحول مع المدى إلى خطاب إنعزالي يكرر نفسه في صورة البحث الدائم عن صدامات لا تؤسس في الواقع على قاعدة صلبة من ألإختيارات الفكرية والسياسية والمصالح الإجتماعية بقدر ما تبدو وكأنها تخوض هذه الصراعات لصالح أطراف أخرى في المشهد العام.
من هنا فإن أمام اليسار في اللحظة الراهنة طريق طويل للوصول إلى تحقيق أهدافه المتعلقة بمضامين العدالة الإجتماعية التي أضحت تشكل عنوانا بارزا لنضال اليسار بكافة شرائحه ومكوناته السياسية.
مفهوم العدالة الإجتماعية عند اليسار:
ولكن ماهو مفهوم العدالة الإجتماعية التي يناضل اليسار من أجل تحقيقها ؟ لا بد من الإشارة بداية إلى أن مفهوم العدالة الإجتماعية يجب أن لا ينظر إليه كقيمة مستقلة عن الأهداف السياسية والإجتماعية التي يناضل اليسار من أجل تحقيقها، تماما مثلما هو حال القوى الأخرى التي ترفع أيضا شعار العدالة الإجتماعية. أي أن مضمون العدالة الإجتماعية لن يتحقق إلا في إطار الرؤيا الإستراتيجية، بأدواتها السياسية والفكرية، لنضال القوى المختلفة ومنها اليسار.
وبالنسبة لليسار يجب أن يكون مفهوم العدالة الإجتماعية من الشمول بحيث يتضمن إنتاج وتوزيع الثروة في إطار نسق من القيم السياسية والثقافية والإجتماعية والأخلاقية التي تعكس في جوهرها طبيعة النظام الإجتماعي الذي لا يكرس حقائق الفقر والتهميش كمعطيات يتم معالجتها بالصدقة وأعمال الخير وبطاقات التموين والمجانية الشكلية لخدمات متدنية بصورة لا يرافقها جهد فعال يؤدي إلى إستئصالها باعتبارها مخرجات لنظام غير عادل أنتج مثل تلك الفوارق والمسميات ومساحات الفقر الواسعة والفجوات العريضة بين من يملكون ومن لا يملكون. إن العدالة الإجتماعية لا تعني بأي حال رعاية الفقر وإنما تعني في الأساس إجتثاثه والقضاء عليه.
فالسياسات التي ترعى الفقراء بالمسكنات غالبا ما يكون جوهرها رعاية الفقر وتشجيع ودعم النظام غير العادل لأن هذه السياسات لا تقدم الحلول لمعالجة الفقر وإنما تهدف إلى تأبيد أسبابه وتكريسه كحقيقة من خلال المسكنات والتهدئة والتعايش معه كمعطى.
والعدالة الإجتماعية يجب أن تتجه إلى بنية النظام الإجتماعي وتغيير أساسه الأخلاقي بأدوات إقتصادية ومعرفية وقانونية "مادية وروحية".
بإمكاننا أن نتتبع هذه الحقيقة من خلال الواقع الثنائي الذي كرسته تلك السياسات التي أنتجت مجتمع منقسم في صورة مجتمعين متقابلين في مواجهة بعضهما على وجه التحديد، مجتمع التعليم الحكومي المتدني المستوى والمستشفيات الحكومية المتعثرة بالإهمال وقلة الإمكانيات والخدمات الحكومية الرديئة والوظيفة الحكومية المهمشة، مجتمع وظيفته إنتاج الثروة وليس له أي دخل بعد ذلك بتوزبعها أو كيفية توزيعها، هذا القسم من المجتمع ينتشر في وسطه الفقر والجوع والأمية والبطالة والإحباط ويتزاحم داخل المدن المهمشة ويتوزع على خارطة جغرافية تغطي المساحة الأوسع من البلاد حيث يتوالد البؤس وتنتشر مخيمات الإحسان وخيم ما يسمى بمكافحة الفقر التي لا هم لها سوى مراقبة التفاعلات الإجتماعية وسط هؤلاء البؤساء وتسكينها بالقبول بالأمر الواقع من أجل "السلم الإجتماعي " حتى لا يكدر حال المجتمع الآخر مجتمع التعليم الخاص والمستشفيات الخاصة والخدمات النوعية الخاصة والوظيفة الخاصة، المجتمع الذي يعنى بدرجة رئيسية بتوزيع الثروة الذي ينتجها القسم الآخر من المجتمع، فهو الذي يقرر كيفية توزيعها ونصيبه منها قبل أن يذهب الجزء الأقل منها إلى مسارب التوزيع اللاحق عبر ما يسمى بموازنة الدولة وميزانيات الشركات والمؤسسات وغيرها. إن هذا الإنقسام الإجتماعي هو أسوأ ما أنتجته الأنظمة المستبدة والفاسدة. فالفساد يجد بيئته الحقيقية في المساحة ما بين هذين المجتمعين.
ولا يستطيع أن يملأ هذه المساحة غير نظام عادل ونزيه يحقق العدالة الإجتماعية وإعادة اللحمة إلى المجتمع بالقضاء على الفوارق الإجتماعية من خلال وضع معايير محددة لا يجوز القبول بأقل مستوى منها في الأجر والتعليم والصحة والخدمات الإجتماعية والحياة المعيشية والسكن والمواصلات وفرص العمل والشروط والظروف المرتبطة به وغيرها من مقومات الحياة التي تؤسس لحياة مستقرة وآمنة.
ويمكن لذوي القدرة بعد ذلك أن يستمروا بشروط حياتهم "الخاصة" ولكن بعد أن يكونوا قد أسهموا عبر هذا النظام العادل بتوفير شروط تحقيق هذه المعايير. إن العدالة الإجتماعية بهذا المفهوم لا يمكن أن تتحقق إلا في بيئة سياسية وقانونية ومؤسسية ملائمة. ويتصدر شرط إحترام الحقوق والحريات في منظومتها التي تؤمن الحياة الكريمة للفرد وإطلاق قدراته على الخلق والإبداع وتأمين حرية إختياراته كافة الشروط الأخرى الضرورية لخلق هذه البيئة.
ولا يتوقف الأمر عند تأمين حرية الأفراد وإنما أيضا المنظمات المدنية - المهنية والنقابية والسياسية - التي يؤسسها وينتمي إليها والتي ستشكل البيئة الحاضنة لنمو المجتمع المدني وقوة الدفع لعملية التحول للمجتمع نحو الحياة المدنية لتغدو إحدى روافع العدالة الإجتماعية من حيث تمسكها بحقوق أعضائها والدفاع عنها بوسائل مدنية.
ولا تتكامل البيئة الملائمة لتطبيق العدالة الإجتماعية إلا باستكمال منظومة المجتمع المدني، ولن يكون اليسار في وضع يمكنه من خوض نضال فعال من أجل تحقيق مفهومه للعدالة الإجتماعية إلا بحضور قوي ومتماسك في هذه المنظومة المتكاملة للمجتمع المدني، بل إنها تعتبر من الأدوات الأساسية التي يجب أن يركز عليها في نضاله السلمي من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية.
وعلى اليسار أن يهتم كثيرا بالوضع العام لما يسمى بالطبقة الوسطى. فهذه الطبقة التي جرى تغييبها وتدميرها بسبب سياسات الإفقار والفساد ستظل عنصرا حاسما في التوازن الإجتماعي وفي خلق الشروط الضرورية لتحقيق العدالة الإجتماعية.. فهي الطبقة الحية لنمو الحياة السياسية والمدنية.
والفجوة القائمة اليوم بين الفقر المدقع والغنى الفاحش ناشئ عن غياب هذه الطبقة التي تحول معظم منتسبيها إلى فقراء بمعيار الأرقام القياسية للحياة المعيشية أو إلى ما دون خط الفقر. كما أن ركود الحياة السياسية وتراجع نمو الحياة المدنية له صلة مباشرة بضعف هذه الطبقة، وبغيابها تتجه المجتمعات نحو التصادم بسبب الإنقسام الحاد بين الفقر والغنى، والإثنان عندما ينموان بدون ضوابط يكونان مصدرا للتطرف. لذلك فإن الطبقة الوسطى تكون حاضنة للسلم الإجتماعي الذي لا غنى للحياة الديمقراطية عنه. وعلى اليسار أن يعيد بناء مفهومه لسلوك الطبقات الإجتماعية بالصورة التي تحقق إنسجاما مع متطلبات نضاله السياسي في مجتمع بهذه الدرجة من التشوه والتعقيد.
أدوات تحقيق العدالة الإجتماعية :
ما هي أدوت اليسار لتحقيق االعدالة الإجتماعية ؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بمعزل عن المتغيرات الجوهرية التي أصابت الحياة السياسية وبعد أن أصبحت الديمقراطية السياسية التعددية والإنتخابات الحرة هي طريق أي قوة سياسية إلى الحكم. لقد ولى الزمن الذي كانت فيه النظرية المسنودة بقوة السلطة المحتكرة هي الوسيلة لتحقيق الأهداف الإقتصادية والإجتماعية.
والحقيقة أنه لا يمكن نقد هذا الزمن بصيغة المطلق إذا نظرنا للمسألة من الزاوية التاريخية لعملية الصراع والإستقطاب العالمي لمسارين للتطور الإقتصادي والإجتماعي كما حددتها الوقائع آنذاك.
ولا يمكن نقده بالمطلق من الزاوية التي كانت تعبر عن أهداف انسانية واجتماعية لصالح الطبقات الفقيرة، كما انه لا يمكن نقده بالمطلق من الزاوية التي كانت تنتظم فيه عملية تحقيق الأهداف الإقتصادية والإجتماعية وفقا للإحتكام إلى قوانين موضوعية للتطور [حداها قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ومستوى تطورهما والعلاقة بينهما.
والحقيقة أن ما أسفرت عنه تلك التجربة من نتائج لا بد أن ينظر إليها على أنها لم تستطع أن تنتج قوى الدفع الإجتماعي الذاتي القادرة على الدفاع عنها إزاء المتغيرات التي أصابت تلك المجتمعات. وكان غياب الحريات السياسية والفكرية وكذا حرية المبادرة الإقتصادية قد قادها إلى العزلة الإجتماعية مما سهل إنهيارها. كما أن النزعة الإرادوية والبيروقراطية التي تعسفت القوانين الموضوعية في كثير من الأحيان بسبب تخلف قوى الإنتاج وبالذات على الصعيد التكنولوجي والعلمي وعدم مرونة نموها أو تفاعلها مع حاجة علاقات الإنتاج للتطور المستمر والإنتقال من طور إلى طور جديد قد أصاب تلك المجتمعت كلها بالركود العام كمؤشر على وصولها إلى مأزق لم تستطع أن تخرج منه.
كان لا بد من إعادة بناء تلك القوانين الموضوعية في إطار سياسي وإقتصادي يحترم الحرية الفردية والحريات بشكل عام. على اليسار اليوم أن يعيد صياغة العلاقة بين هذه القوانين الموضوعية بجوهرها العلمي والبيئة السياسية والإجتماعية التي يتنافس فيها مع قوى أخرى ومشاريع أخرى وفي ظروف لا تهيئ له المناخ الأمثل للمنافسة إلا بقدر ما يكون قادرا على تبيئة مشروعه السياسي والفكري في الواقع الذي يناضل فيه.
لقد كان تحقيق مشروع اليسار على الأرض مرتبطا إرتباطا وثيقا بنزعة إرادوية للسلطة التي تمثله دون منافسة من أحد، أي أن أدواته في معظم الأحيان كانت بيروقراطية - إدراية بحته.
صحيح أنها في كثير من الأحيان خدمت قوى إجتماعية واسعة وحققت قدرا من العدالة الإجتماعية لصالح الفقراء والبسطاء والمهمشين، غير أن هؤلاء الفقراء الذين حصلوا على كل هذه المنجزات دون نضال سياسي حقيقي ظلوا في كثير من الأحيان ينظرون إليها على أنها بمثابة "رشوة " لصمتهم عن حقوقهم السياسية فراحوا يطلبون المزيد دون قدرة فعلية على تحقيق ذلك بواسطة تطوير الإنتاج مما أدى إلى تدهور العلاقة مع النظام الذي يحكم بإسمهم. لم يعد أمام اليسار سوى أن ينخرط في المنافسة السياسية بمشروعه وعلى نفس القواعد التي تنظمها هذه االمنافسة.
لن يكون له حضور في القرار إلا بوجوده في البرلمان أو الحكومة، ولن يكون حضوره فاعلا إلا بوجود فعال وتحالفات فاعلة تسمح بصاغية قوانين لصالح مشروعه جزئيا أو كليا.
عليه أن يتجه نحو الأدوات الأقتصادية لتحقيق جانب من العدالة لإجتماعية التي يناضل من أجلها : بنية الضرائب وخاصة الضرائب المباشرة أي الضرائب على الدخل لردم الفجوة الهائلة بين الغنى والفقر، أن ينظر إلى موازنة االدولة كأداة إقتصادية لا كمجرد أداة رصد مالية للدخل والإنفاق والعجز والإصدار النقدي، بناء الإقتصاد قدر الإمكان على أساس الشركات المساهمة وإعادة النظر في المشروع الأحتكاري الفردي أو العائلي في صيغها المضرة بالعلاقة التكاملية بين الإقتصاد والمجتمع، أهمية العمل التعاوني وتشجيع المجتمع عليه، عدم تخلي الدولة عن القطاعات الحيوية التي تتركز فيها الثروة حتى يتأسس قطاع إستثماري منتج غير مضارب ولا طفيلي، وعليه أن يتجه نحو البنى التشريعية والقانونية لتحقيق إستقلالية القضاء والتشريع. دعم التشريعات التي تكفل حقوق المرأة السياسية والإجتماعية والإقتصادية على النحو الذي يلغي أي تمييز يسيئ إليها أو ينقص من مكانتها أو يضر بمصالحها، والإهتمام بالتشريعات التي تحمي الأسرة وتماسكها والطفل وحقوقه في الصحة والتربية والتعليم، وأصحاب الإحتياجات الخاصة، والعمل مع الشباب وإعداده جيدا لتحمل مسئولياتهم في كافة الميادين، الإهتمام بالعمال والمنتجين الزراعيين والفئات المنتجة والمبدعة الأخرى في المجالات المختلفة وتبني حقوقها المهنية وبتناغم تام مع كافة حقوقها المدنية الأخرى. هذه مجرد نماذج فقط لما يمكن أن يركز عليه اليسار في سياق نضاله من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية.
والحقيقة هي أن العدالة الإجتماعية بمفهوم اليسار هي بمثابة نظام حياة متكامل لمجتمع ينشد التطور والإستقرار والديمقراطية والمساواة والسلم الاجتماعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.