الشيخ تقي الدين السبكي فقيه شافعي ومفسر ولغوي وفيلسوف ومشتغل بالأصول وهو شيخ الفقيه سراج الدين البلقيني الذي صار أبرز فقهاء الشافعية بمصر في القرن الثامن الهجري.. نقل أن أحد تلاميذ البلقيني هذا سأله: لماذا يقصر الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وهو أهل للاجتهاد؟ فلم يرد عن سؤال تلميذه بل سكت كما تقول الرواية. وعندها تولى التلميذ الإجابة على سؤاله بنفسه، فقال للبلقيني: أرى أن الامتناع عن الاجتهاد ما هو إلا للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، لأن من خرج عن ذلك لم ينله شيء من الوظائف، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن فتواه، ونسيت إليه البدعة.. وتقول الرواية: فابتسم البلقيني علامة موافقته على كلام تلميذه، فالتلميذ أرجع عدم اجتهاد الفقهاء إلى رغبتهم في مصالحة الأمراء، وأن الخروج عن السائد يغضب الأمراء فيحرمونهم من الوظائف والعطايا. وقد وصل الأمر إلى حد أن البلقيني لم يقدر على التصريح برأيه رغم معرفته السبب، ولما أجاب التلميذ بما في نفس شيخه ابتسم دليل الموافقة! وهذه الرواية واحدة من عشرات الروايات التي نقلت عن فقهاء سابقين تدلل تبعية رجال الدين للسلطان، أي سلطان، يسبكون له ما يعتقدون أنه يروق له بغض النظر عن موافقته أو عدم موافقته لصحيح الدين، ومثل هذا الاستخدام ما يرد في كتب نقاد الحديث الذين كشفوا أن محدثين كبار كانوا يصنعون أحاديث تسوغ للأمراء والسلاطين أفعالهم غير المشروعة، وينسبون تلك الأحاديث للرسول محمد(ص). التتار- وهم مسلمون- حكموا بكتابهم الخاص المسمى "الياسة"، وهي مجموعة قوانين مستخلصة من اليهودية والمسيحية والإسلام وغيرها من الديانات، فأسبغ عليها بعض الفقهاء مسحة الشريعة، والمماليك حكموا بشيء قريب من "الياسة" ووجدوا من يشرعنها لهم. ومع هذا يصر رجال الدين اليوم على القول إن الشريعة طبقت في كل العصور تطبيقا كاملا. متناسين أن بعض التابعين وفقهاء أحرار حذروا من دخول العلماء على السلاطين والأمراء، وبرروا تحذيرهم على ضوء خبرة واقعية، وهي أن دخولهم عليهم يؤدي حسب تعبيرهم إلى "ذهاب العلم" عن طريق إفساد العلماء، إما بتجويزهم ما لا يجوز وإما بالسكوت عن الباطل أو التوقف عن الاجتهاد مقابل العطايا والوظائف.. وينطوي ذلك التحذير أيضا على اعتراف المحذرين بأن السلاطين والأمراء كانوا لا يطبقون الشريعة وكانوا أيضا يفسدون أصحابها وإلا لماذا التحذير من الدخول عليهم؟.