أزعم أني أعرف قليلا عن إيران ولا أزعم أني أعرف كثيراً عن أمريكا وأوروبا ، وهذا يعني أنني بين هاتين المعرفتين أجهل الكثير من التكهنات بقدر ما أفهم بعض الوقائع والفرق واضح بين الوقائع المحتملة والتكهنات التي تحتمل الوقوع ولا تحتمله . ذات يوم وفي رحلة استكشافية إلى إيران كنتُ في وسط العاصمة طهران ورأيتُ مشاهد بسيطة من خلال معايشتي للشارع الإيراني البسيط فضلا عن احتكاكي بالوسط النخبوي ، وكان جلّ ما شاهدته مثيرا لدهشتي ، فأن تقرأ أو تسمع عن إيران خلاف ما تلمسه بحواسك وتراه بأم العين. ولست بصدد سرد جميع مشاهداتي والتي قد يبدو بعضها بسيطاً إلا أنه معبر ويحمل دلالة معينة ولكن ما يختزل تلك المشاهدات هو بعض الخطوط العريضة التي تعكس الواقع الإيراني.
ومن هذه الخطوط العريضة أن الشعب الإيراني شعب حضاري وعريق ويمكن القول بأنه يتمتع بوحدة حضارية تمتاز بالتماسك الناتج عن التراكم والبناء الكيفي والكمي وهو شعب مسالم إلى أبعد حد . وفوق ذلك هو شعب منفتح إلى حدود يتجاوز فيها الأوروبيين والأمريكان.
من هنا يمكن القول بأن رهان الغرب على انفتاح شباب وشابات إيران وتطلعهم إلى واقع أمريكي أو أوروبي بأدوات إيرانية هو رهان خاسر، فانفتاح الإيرانيين هو حقيقة لا يمكن لثورة الخميني أن تغير فيها شيئاً بل إن انفتاح الإيرانيين كان أحد عوامل نجاح الثورة الخمينية .
ولا عجب فقد كانت شوارع طهران وغيرها من المدن الإيرانية مسرحا للأوروبيين والأمريكان والإسرائيليين وكان الإيرانيون والإيرانيات ينافسونهم جميعا في مظاهر الانفتاح (المضموني قبل الشكلي) في زمن الشاه وهي مظاهر تنم عن الامتداد الحضاري للشعب الإيراني مما يعني أنه ليس تقليدا ولا تشبها بأحد وهذا على عكس انفتاح العرب الذي غالبا ما يعكس التقليد في معظم صوره وأشكاله.
يحدث في إيران الإسلامية أن ترى شابا تجلس وراءه شابة على دراجة نارية وهما في أزهى حلة عصرية ماضيين بسرعة البرق فتلتفت إلى وجهة أخرى فترى شيخا معمما تجلس وراءه امرأة بجلباب أسود على دراجة نارية وهما ماضيين أيضا ولكن بسرعة أخف دون أن تشعر بأنك في جمهوريتين، ويحدث أيضا أن تشهد شجارا بين شخصين يصل حد الاشتباك دون أن ترى لكمة أو "لطمة" أو خدشا، فهناك قانون يغرم على كل لكمة أو لطمة مبلغا معينا من "الريالات والتومانات" مما يجعلك تشعر بأنك تشهد دعابة ليس إلا.
ويحدث في إيران أيضا أن ترى نساء في شوارع إيران يتقدمن رجالا وهم يقتفون اثرهن فتعلم أن هؤلاء هم أزواج وهن زوجاتهم . وتتذكر على الفور كيف يقود العرب نساءهم وراءهم كقطيع الأغنام ولعلك تتذكر أكثر مشهد النساء اليمنيات وقد وضعن في الجزء الخلفي لسيارة مكشوفة كقرود سود لا يمكن مخالطتها إلا في مساء مظلم وليل حالك.
ما لا يعرفه الكثيرون عن إيران هو أن القومية الفارسية والانتماء إلى هذه القومية هو الضامن الوحيد لتوحد الإيرانيين وهو محور الارتكاز الحقيقي الذي لن يختلف عليه الإيرانيون، وما يحصل اليوم هو حراك ينتظم مع حيوية هذا الشعب الآتية من عمقه الحضاري لا من الشبكة العنكبوتية كما يخيل لبعضهم .
ألم يكن الشاه إيرانياً ألم يكن شيعياً ؟! ولكنه كان متواطئا مع الغرب وإسرائيل على حساب ثلاث قيم أساسية بالنسبة للإيرانيين وهي القومية الفارسية والعقيدة الإسلامية الشيعية والعمق الحضاري (الحكمة الفارسية).
هذا هو الوتر الحساس الذي لعب عليه الإمام الخميني وهو نفسه الوتر الحساس الذي لم يتمكن الإصلاحيون من اللعب عليه حتى الآن باستثناء فترة حكم الرئيس محمد خاتمي التي كانت ملامسة لهذا الوتر الحساس ولكن بصورة خجولة لم يتم تطويرها وفقا لخصوصيات الشعب الإيراني.
وهذا ما تكشفه نتائج الانتخابات والأداء السياسي لمرشح الإصلاحيين والذي كان له أن يكون قادرا على التفوق بالنظر إلى ضعف مرشح المحافظين فالأخير يحتمي بعباءة المرشد، ولكن الإصلاحي مير موسوي يحتمي أيضا بعباءة رفسنجاني وهي أوسع من عباءة المرشد إن فهمناه إصلاحيا وهي ذات عباءة المرشد إن فهمناه محافظا.
ولكن هذا الليبرالي - فيما أظن- قد اعترف ضمنيا بفشل الإصلاحيين وإخفاقهم الواقعي في بلوغ الهدف ونيل الفوز ولذلك فإنه سيقنعهم بهذه الحقيقة في آخر المطاف وخيرها بغيرها إذا ما تمت الاستفادة من أخطاء التجربة وتطوير أدواتهم السياسية لا بل إن المحافظين منحوهم معطيات مهمة يمكن أن يبنوا عليها وهي تلك المتمثلة بأعمال العنف والقتل وقمع التظاهرات التي حدثت منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية لأنها مخالفة للقوانين وخادشة للحياة السلمية والذوق العام لشعب واجه دبابات النظام الشاهنشاهي بالورود . فالحارس لإمبراطوية فارس هو ذلك القادر على توظيف القيم الثلاث التي سبق الإشارة إليها والقادر على تطوير أدواته ذاتيا بعيدا عن الغرب وبطول الأناة التي يتمتع بها مبتكرو لعبة الشطرنج. و(خودا حافظ) .. أي مع السلامة أو الله معكم.