نزار عبد القادر في ظل اجواء الانقسام العمودي والانشقاق الحاصل في بعض المجتمعات العربية وخصوصا في العراق، وفي ظل المخاطر التي يمكن ان تنتج من تداعيات الازمة السورية مع احتمال سقوط نظام بشار الاسد، وما يمكن ان يستتبع ذلك من فوضى وفلتان أمني داخل سوريا، تبرز ضرورة واهمية البحث عن الاسباب التي اسست وعمقت ظاهرة الانقسام السني الشيعي، يشهد العراق اليوم موجة، بدأت منذ ثلاث سنوات، من «الهستيريا» المذهبية، بحيث يذهب بعض السنة الى تسمية الشيعة بالرافضة، فيما يذهب بعض الشيعة الى تسمية السنة بالامويين، (وذلك نسبة لمعاوية بن امية الذي حارب الامام علي وانتزع منه الخلافة، والذي قتل ابنه يزيد من بعده الحسين بن علي في كربلاء). في العراق اليوم مأساة انسانية حيث تنفذ عمليات ارهابية ضد المدنيين الابرياء، وان المخططين والمنفذين لها هم جماعات من المتطرفين والتكفيريين، الذين يتبعون فكر القاعدة». في المقابل هناك ميليشيات شيعية تقوم بقتل المواطنين من اهل السنة، انها عمليات قتل على الهوية، وتلقى عمليات التفجير المستهدفة للتجمعات الشيعية، بما فيها المساجد والحسينيات ومجالس العزاء وعمليات القتل على الهوية التي تستهدف السنّة اصداء قوية على مستوى المنطقة، وبما يساعد على توسيع وتعميق الانقسامات الحاصلة في الدول العربية الاخرى. في البحث عن اسباب هذا الانقسام الخطر، لا يمكن تجاهل السبب الاساسي المتعلق بالخلاف حول احقية الامام علي بالخلافة بعد وفاة الرسول، والذي ادى الى معارك بين الامام ومعاوية، ولاحقاً الى مقتل الامام، ومن بعده ابنه الحسين. لقد تعرّض الشيعة منذ مقتل الحسين في القرن السابع الميلادي الى اليوم لسوء المعاملة والظلم والتهميش في عدد من المجتمعات العربية، كما تعرضوا لحملات من الاضطهاد والقتل على ايدي بعض الجماعات التكفيرية والسلفية، عبر العصور. لكن وبالرغم من شن حملات ظالمة ضد الشيعة في الماضي، فان السنة والشيعة قد تعايشوا بسلام في معظم المجتمعات العربية، وقد سهل هذا التعايش والزيجات بن اتباع المذهبين، موقف الائمة الشيعة من الحكم السني، وقبوله، وذلك بانتظار عودة الامام المهدي. يمكن تفسير كل الخلافات التي وقعت بين السنة والشيعة في القرون الماضية بانها كانت نتيجة لصراع سياسي بين حكام ودول، وكان ابرزها اجواء العداء والتنافس التي سيطرت على العلاقات بين الدولتين العثمانية والصفوية يمكن ربط الخلاف السني الشيعي اليوم وما نجم عنه من توترات على مستوى منطقة الشرق الاوسط بحدوث الثورة الاسلامية في ايران والتي ادت الى قلب نظام الشاه ونشوء الجمهورية الاسلامية الايرانية بقيادة الامام الخميني، اعتبارا من نهاية سبعينيات القرن العشرين. سعت القيادة الايرانية الجديدة الى تصدير الثورة الاسلامية الى الدول المجاورة، ولكن سرعان ما تبددت هذه الجهود بعد اندلاع الحرب الايرانية العراقية، والتي استمرت لثماني سنوات متتالية. خلال فترة الحرب لم تطالب المجموعات الشيعية في الدول الخليجية باسترجاع حقوقها «الضائعة» بفعل التمييز المذهبي القائم، كما انهم رفضوا اعلان التبعية لمدرسة التشيّع الجديدة التي قادها الامام الخميني، كما رفضوا اعلان تبعيتهم لولاية الفقيه. اما في العراق فقد التزمت الاكثرية الشيعية بموقف وطني جامع طيلة فترة الحرب مع ايران، وقاتل ابناؤهم ببسالة في صفوف الجيش العراقي ضد ايران، وذلك انطلاقا من شعورهم الوطني وعروبتهم. تسببت الثورة الايرانية وهذا النهوض الجديد للهوية الشيعية بردات فعل في المجتعات العربية الخليجية، والتي ابرزت تنامي الحركات السلفية في الجزيرة العربية، وتمددها نحو مصر واقطار بلاد الشام، وصولا الى السودان والصومال واليمن ودول المغرب العربي. وتعممت عملية الانتشار هذه لتشمل كل العالم الاسلامي. لكن الحرب لم تمنع وجود احزاب شيعية وقيادات سياسية ودينية معارضة لنظام صدام حسين، والتي كان في رأسها حزب الدعوة الاسلامي، وكان ردّ النظام قاسياً على هؤلاء المعارضين، حيث انتهى بسحقهم وباغتيال قياداتهم. في الواقع لم يكن حزب البعث الحاكم وعلى رأسه صدام حزبا طائفياً، بل هو حزب علماني ينادي بالعروبة وبالوحدة العربية التي تضم كل مسلميها واقلياتها، لم تحصل في زمن حكم البعث ممارسات تؤشر الى التمييز الديني او العرقي، وان عمليات الاضطهاد والاغتيالات التي حصلت قد كانت على خلفية التصنيف لبعض الجماعات بانها مناهضة للحكم، وتشكل خطراً على النظام او على على وحدة العراق وسلامته، من وجهة نظر صدام حسين وقيادة حزب البعث على الاقل، واللافت ان ايران قد سارعت الى احتضان حزب الدعوة وبعض التنظيمات المعارضة الاخرى، وهذا ما دفع بالنظام العراقي الى مواجهة هذه الحركات المعارضة بقوة ودون رحمة وذلك خلال نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينات، لكن المواجهة الكبرى بين النظام ومعارضيه من الشيعة قد حصلت في عام 1991، وذلك بعد عملية غزو الكويت وانسحاب الجيش العراقي تحت تأثير هجوم قوات التحالف الدولي. كانت هناك انتفاضة شيعية في المناطق الجنوبية، وقد امتدت الى بعض احياء بغداد، في هذا الوقت دخلت من ايران قوات بدرالتابعة للمجلس الاعلى الاسلامي للثورة العراقية، والتي كانت قد تشكلت وتدربت في ايران، وذلك تحت شعار تغيير النظام في العراق ممن اجل اقامة جمهورية اسلامية مشابهة للجمهورية الايرانية. كان رد النظام على الانتفاضة قاسياً ومدمراً، حيث قتل عشرات الألوف من الشيعة. وهذا ما خلق شعورا لدى شريحة واسعة من الشيعة بان حكم صدام السني الهوية هو المسؤول عن المجازر المرتكبة ضد الشيعة ردّ صدام حسين على هذا الموقف الشيعي «العدائي» تجاه نظامه بحملة لتشجيع انتشار المشاعر الاسلامية السنية الداعمة له ولنظامه، وذلك علىحساب مفهوم العلمنة الذي يعتمده حزب البعث، كما عمل على توثيق علاقاته بالنظام العشائري، وذلك من خلال تقديم المساعدات المالية الكبيرة لشيوخ هذه العشائر مقابل اعلان ولائهم له ولنظامه. في عام 2003، وقبيل الغزو الاميركي للعراق كان الصراع السني - الشيعي هادئا، ولكن عودة حزب الدعوة الاسلامي وقوات بدر الى العراق مع دخول القوات الاميركية، والتي تبعها عودة جماعات القاعدة والمجموعات السنية السلفية الاخرى قد فتحت الباب مجدداً امام حرب مذهبية طويلة، ما زال العراق يشهد أقسى فصولها بعد عشر سنوات من الغزو الاميركي. وكان الفشل الاميركي في تحقيق الاستقرار بعد سقوط نظام البعث السبب المباشر في قيام حرب ارهابية تقودها جماعات القاعدة من جهة والاحزاب والحركات الشيعية المسلحة، وكل لحسابه، وعلى حساب وحدة واستقرار الشعب والوطن. ولا بد في هذا الاطار من ذكر الدور الذي اضطلعت به الميليشيات الكردية بقيادة جلال الطالباني ومسعود البارزاني من اجل اقامة كيان كردي مستقل في الشمال. وهكذا تراجعت ادوار الجماعات المعارضة من المعارضة السياسية الداعية الى اقامة حكم علماني ديموقراطي في العراق، بعد ان سيطرت الميليشيات الشيعية التي دخلت من ايران والميليشيات الكردية التي قدمت من الشمال على الموقف العام في البلاد، وكانت ردود التنظيمات التكفيرية قاسية ومدمرة، حيث شنت هذه التنظيمات بقيادة ابو مصعب الزرقاوي حربا ارهابية استهدفت المناطق الشيعية وردّ المتطرفين الشيعة على ذلك بانشاء وحدات متخصصة باغتيال المواطنين السنّة كرد فعل على الجمات الارهابية، وقد ادت هذه العمليات الى فرز سكاني في عدد من المناطق العراقية بما فيها العاصمة بغداد. لم تنجح الخطط والتوافقات بين مسعود بارازاني وعبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى الاسلامي في تقسيم العراق الى ثلاث دويلات من ضمنها كيان شيعي في الجنوب وكيان كردي في الشمال وكيان سني في الغرب والوسط، وذلك بالرغم من صياغة واقرار دستور يجيز هذا التقسيم، فالقوى التي تؤمن بوحدة العراق قد قاومت هذا المشروع ومنعت تنفيذه. لكن هذا لم يمنع تحوّل العراق الى دولة فاشلة، تعمّها الفوضى والصراعات الاثنية والمذهبية. تترك هذه الحالة المسيطرة الآن على العراق، بعد فشل المشروع لاقامة دولة ديمقراطية تساؤلات عديدة حول الدورين الاميركي والايراني وادوار اللاعبين العراقيين في الدفع نحو حالة الاهتراء الكلي للوضعين السياسي والاجتماعي التي وصل اليها العراق بعد عشر سنوات من الغزو، الذي كان هدفه المعلن اسقاط حكم صدام واقامة حكم ديموقراطي تعددي، تفاديا للوقوع في شرك نظرية المؤامرة، تقضي الحكمة بانتظار حكم التاريخ لتحديد مسؤوليات مختلف الاطراف عن هذا التدهور الذي بات يشكل خطراً كبيراً على مستقبل المجتمعات العربية واستقرارها جراء الدفع نحو مواجهة سنية - شيعية على مستوى العالمين العربي والاسلامي.