كان الفقيد المؤرخ عبدالرحمن عبدالكريم الملاحي رحمة الله عليه متفرداً بفكره ومنهجه وباسلوب محاججته وبطريقة مداولاته وبكتاباته، صار بعلمه لمرتاديه من المهتمين والباحثين مرجعية للمعلومة النافعة وللتوجيه والارشاد والتنوير ، من بين مزاياه العطرة فطرته الفذة حينما يتحدث ، يطوع الفكرة ويهذب اللغة بسلاسة وموضوعية فائقة ، تنساب المعرفة منه صافية صفاء جريرته وكافية مستوفاه ، وهذا بسبب خزينه المتدفق اسلوباً ودلالة ورؤية . أجاد الاستفادة من بصيرته وهو المؤمن الصابر ، لذلك نجده مدركاً لمايعتمل بمجتمعه من مستجدات الأحداث ومتغيراتها الخاصة والعامة باحثاً في معطياتها وأسبابها وغاياتها ، مما جعله اكثر دراية بمقتضيات عصره وبتطلعات مجتمعه ، وجعلته ملماً بمرجعيات كثيرة ، متمسكاً بالعروة الوثقى مخافة الله ، متعاضداً ومتآلفاً في علاقاته المجتمعية الزاهية ، كان رحمة الله عليه قد أمتلك ناصية المعرفة الصالحة ومنها منفذه إلى منفعة الناس ، ولا اجد من رجال عصره من سعى مثله بحنان جارف إلى الآخرين يخبرهم بجديد علمه وبأخبار البلاد والعباد عبر الزمان ، بل كان يبادر إلى نقل المعلومة الجيدة وتبيان مصادرها وكيفية تحقيقها لمن يرتاد بيته المتواضع حيث مكتبته العامرة ، ولعله كثيرا ما ينقل أخبار البحث والدراسة إلى أساتذة التاريخ والتراث عبر الهاتف أو عبر اللقاءات الاخوية العابرة أو متى تسنى له اللقاء بزملائه على هامش ندوة هنا أو مؤتمر هناك داخل الوطن أو خارجه ، كما عُرف عنه الدعابة والمرح الجميل ، مما أضفى هذا على شخصه الفقير لله جمالاً وبهجة فوق جمال علمه . حديثه عذب والمعنى يصل باريحية تامه وبيسر وماعلى المتلقي إلا أن يشد مأزره ويستمع ، فالحديث معه غاية في الانشراح والبهجة ، وسبحان الله ما من حديث للأستاذ الفاضل الراحل الملاحي إلا ولابد أن يكون ذات شجون وإن للحديث معه بقيه ، فالرجل رحمة الله عليه يمتلك جانب القدرة على الحديث المفيد وعلى المحاججة والشرح الوافي والتنويه إلى المراد فهمه دون تعصب أو إصرار ، وله من السحر الاسلوبي البسيط المتنوع مايشد به المستمع ، ناهيك عن غزارة معلوماته ومدى دقتها وتبيان زمانها ومكانها ، وله منهجه عند الحديث وعند الكتابة وفي الحالتين لايخلو قوله او مايكتبه من سلاسة وانسياب واستطراد ، بل مايميزه قولاً وكتابة إجادته للتزويق الجمالي المستحب ، وإقتداره جمع المقولة والمثال وبعض من ابيات الشعر في حديثه وفي مايكتبه ، وهذا يجعل المتلقي المستمع أو القاريء العادي والقارىء المتخصص شغوفا لمزيد ، بل تعلمنا منه فن الاستماع الجيد والتأمل والتدبر والتحقق تجاه مانجمعه ونوثقه من الآثار والأخبار ، ومنه تعلمنا كيفية رصد حركة المعلومات المستقاة من المصادر على تنوعها ، وتوظيفها باتجاه كيفية التفضيل أو الترجيح ، وهذا المنحى من مقتضيات المنهج العلمي في الكتابة التاريخية ، يجيده الباحث أو المؤرخ أو المؤلف المتفحص الجاد العارف . ذات يوم … كنا أحد مرتاديه في بيته طمعاً لمعرفة وجهة نظره حول جملة من الاستنتاجات توصلنا إليها على هامش بحث مُنجز ، فرد متواضعاً بقوله : لاعطر بعد عروس ، ثم أفاد معقباً وموضحاً ، كان جميلا أن بدأ حديثه بهذه المقولة والتي تُجسد طيبة هذا العالم وتواضعه الجم ، والتي لاتخلو من المرح وروح الدعابة ، فهذه من سجايا أستاذنا الراحل ومن أخلاقه الحسنة التى لاتنفصم أبداً عنه ، لهذا تجد لحضوره بالمحافل المحلية والاقليمية سمعة زكية وترحاباً مستفيضاً وخواطر مبتهجة لاستضافته ، فالملاحي رحمة الله عليه شخصية تثير الولاء ، وانه بمجرد ان يتحدث يكون محور أهتمام الناظرين إليه . ان جُلّ مكتسبات فقيدنا الراحل أن اجتمعت أطناناً من الحب لشخصه ، فالناس يحبونه بكم هائل من التقدير والاحترام والتبجيل ، هذه المحبة إنما نتاج خصال ومناقب وأوصاف تحلى بها شيخنا الملاحي، وغدت معروفة بين الناس بقدر لايقاس ، فمن عرفه معرفة أسرية وهو سليل أسرة كريمة حرصت على التربية القويمة والاستفادة من نور العلم ، أيقن سر منبعه ومصدر علمه ، فقد تربى في كنف والده العلامة الشيخ عبدالكريم عبدالقادر الملاحي ، ونهل الابن من أبيه المعارف الدينية والفقهية ومطالعة كتب التراث العربي والإسلامي ، فنشأ مُحاطاً بمحاسن التربية والألفة الاسرية المستقرة ، ثم لاحظ أساتذته بمدرسة مكارم الاخلاق الابتدائية بمدينته الشحر ماظهر علية من علامات النبوغ والنباهة والجدية ، فكانت اللبنة التي تأسست بها السيرة التعليمية العطرة لهذا التلميذ المجيد ، والتى تبلورت مضيئة عندما أنتقل إلى المدرسة المتوسطة بغيل باوزير ، حينها كان قد أشتهر بين أقرانه بتفوقه في الأنشطة اللاصفية فانتخب رئيساً للجمعية الأدبية ، ثم تضافرت جهود هذا التلميذ المجتهد بدار المعلمين حتى عام تخرجه في مارس 1953م ، ليعمل معلماً وعمره لم يتجاوز نهاية العقد الثاني ( ولادته في عام 1936م)، في هذه المرحلة سطع الشاب بمواهبه وقدراته الأدبية وتطلعاته الثقافية ، وانتظمت في ذهنه خططاً وأمالأً وطموحات شأن شباب مجتمعه من الذين يتوقون للتغيير وللإصلاح وللإعمار ، وظلت هذه المشاريع نصب عينه وغاية مرجوة لعل الله يكتب لها دروب النور في الغد المرتقب .