بقلم: د. ناجي جعفر مرعي الكثيري* حينما يتعاظم الخبر والأثر فالأمر جلل ، ولنا في ذلك تعقب مكامن تلك العظمة ، وعلينا أن نستدل بالأسباب حتى نقف على عظمة الخبر وتجليات الأثر ، في حيثيات من الشواهد وفي تفاصيل الشأن العظيم وفي مناقب اصحابه ، وفي آثارهم ومآثرهم ، فلابد إذا للخبر من سجلٍ وافٍ بمعية عظيم وصحبة فطين ، ولابد للأثر من هدى ونور ومنافع وسمو ، إنه ذلك الخبر وذلك الأثر الذى أبى صاحبه إلا ان يكون جاداً متواضعاً ملتزماً مُحباً للعلم وللناس ، وقد حباه الله جلّ جلاله ب( كاريزما) أخاذه جعلته قريباً وعطوفاً وسباقاً إلى الفضيلة ومقبولاً بحنانه وعلمه وشمائله للقريب والبعيد . كيف نجد الحديث عن ( كاريزما ) فقيدنا الغالي عبدالرحمن الملاحي رحمة الله عليه ، وعن مكنون هذه الهامة الكاريزمية التى جمعت بين العلم والخُلق ونضارة المحيا ، لقد امتاز بالتفرد الخاص وبعظمة صفات الإنسان الطيب الودود ، عاش بيننا معلما وعالما صديقا وخليلاً ومخلصاُ ، كان بحق شخصية من طراز العلماء الذين انتفع الناس بوجودهم المفيد النافع وبجودهم وأعمالهم ، وبات خير أهل المعرفة ولعاً بالمعرفة وبمجالات العلوم واكثرهم التصاقاً بالبحث العلمي وبالدراسات الرصينة النظرية منها والتطبيقية ، لتشمل مناحي كثيره من الاركيولوجيا والجغرافية التاريخية والديموغرافيا والتراث الشعبي والفنون ، وأعد بعد ذلك منهجاً في فن الكتابة التاريخية الوصفية والاستقرائية والتحليلية ، وأبدع كثيراً في نتاجاته التوثيقية والتحقيقية حينما جمع بين الكتابة النظرية لأخبار المجتمعات المتحضرة والمجتمعات الريفية وبين المنهج التطبيقي الميداني ، بحثاً عن حقائق اكثر دقة وحرصاً على مزيد من الروايات والاخبار المستقاة من مواقعها بالهضاب والسهول والوديان وبالواحات وبالمرافىء وبالمنافذ الساحلية . من مجالات البحث والدراسة التى أجادها شيخنا الملاحي رحمة الله عليه بإتقان ، ولم يتنبه إليها البعض بالإشادة ضمن سيرته العلمية العطرة ، كتاباته في الانثروبولوجيا الطبية في حضرموت ، ويعد رائداً في هذا المجال ، فقد بحث ظاهرة المعتقدات والممارست الطبية الشعبية في سياق البناء الاجتماعي ومن خلال علاقاتها بالعوامل والمفاهيم الاجتماعية والثقافية السائده ، وكتب عن أثر الثقافة الاجتماعية في تفسير كثير من تلك العادات والممارسات الطبية الشعبية ، ننظر على سبيل المثال ماكتبه عن الدلالات الاجتماعية واللغوية والثقافية لمهرجانات ختان بادية المشقاص – ثعين والحموم عام 2001م ، ولو عدنا إلى مخطوطاته الادبية والعلمية والتاريخية عن مدينة الشحر وعن بلاد حضرموت عامه ، لربما نقف على كثير من المعاني والدلالات الطبية والاجتماعية والثقافية ذات الصلة بتطور البناء المجتمعي العام . وله شأن اخر في صلته بالنخبة العلمية إذا جاز لنا تسميتهم كذلك ، على اعتبار ان هذه النخبة القلة من الذين اتصل بهم شيخنا الملاحي او تواصلوا هم معه ، للحديث عن أمور التاريخ العام والتاريخ الحضرمي وتراثه خاصة ، هذا التواصل الذي أستمر دون انقطاع منذ زمن مبكر من حياته العلمية والثقافية داخل الوطن وخارجه ، كان بذلك التواصل قد أرسى الملاحي شكلاً من الجدل المنهجي في الوسط الاكاديمي ، لايجيد إدارته علماً وأسلوباً وعطاءاً إلا أستاذنا الملاحي ، وربما لم نكن ندرك هذا النمط من التفاهم العلمي والثقافي المتبادل بين الأستاذ الملاحي ومرتاديه من النخبة المتعلمة والمثقفة إدراكاً وافياً حتى نضعها في إطارها الخاص ، وحتى نحفظ من خلالها للملاحي مكانته العلمية ونقدر عالياً دوره المجتمعي في مجال نشر المعرفة المتجددة . وانا على يقين بان الكثير من أخواننا أساتذة الجامعة واخواننا الباحثين والمهتمين من الذين كانوا طرفاً معنياً بهذا الجدل المنهجي مع الأستاذ الملاحي ، سوف يتذكرون هذا دائماً ، ولان شيخنا الملاحي رحمة الله عليه إيجابياً في تأثيره على الاخرين عبر ارتباطه بهم ثقافياً بل وعاطفياً ، فالملاحي تذكره في ذاكرتك واحاسيسك ومشاعرك في القرب وفي البعد ، وقد أشتد على الكثير وطأة غيابه بعد وفاته تغمده الله الجنة . تعد مؤلفاته ومخطوطاته وابحاثه على درجة عالية من الرصانة العلمية والاصالة ، تفوق كثيراً مانسمعه من صخب في مجال البحث العلمي بالجامعات والمعاهد المتخصصة ، أليس فقيدنا الغالي أحق بالحشمة والتكريم ، وقليل أن يمنح هذا العلم والعالم الخلوق درجة الدكتوراه بلفظها ودلالاتها الاكاديمية ودرجة الأستاذية بلفظها ودلالاتها العلمية والاستحقاقية ، ويعد هذا بعضاً من وفاء . (كاريزما ) فقيدنا الغالي وسيمة فواحة بنكهة الورد وبلون اخضرار الزرع ، له طلة بهندامه ووقاره نافذة للقلب قبل العقل ، كما ان لحضوره ذلك الشخوص الجميل والحس المرهف والنباهة المتدفقة والخاطر الحسن والابتسامة الصادقة والكلمة العذبة والروح الشفافة والوجة البشوش والعين الثاقبة والاستماع الجاد والوداعة اللطيفة ورد التحية بأحسن منها . كان من صفاته حبه المُفرط للناس على أختلاف مشاربهم ، لطيف المعشر ومن أهل المروءة والإحسان ، وعُرف عنه دماثة الخلق والكياسة في التعامل والإخلاص في القول والعمل والاستماتة في قول الحق والتواضع الجم وحفظ الأواصر ومحبة الرحم والأحباب ورجاحة العقل والصبر . لايعرف الكلل تجاه ماينبغي فهمه وجمعه وتحليله وتأليفه وتوثيقه ، وقد جاء في الخبر " بأنه كلما تقدم به العمر ازداد نشاطاً في الكتابة ، وبهذا فهو المعلم الثقافي الكبير في واقعنا المعاصر" ، فهو بحق المؤرخ الجامع والمربي الفاضل والأستاذ الاكاديمي والانسان الاجتماعي الطيب . * أستاذ الحضارة العربية والإسلامية