نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    نهائي نارى: الترجي والأهلي يتعادلان سلباً في مباراة الذهاب - من سيُتوج بطلاً؟    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    تعيين شاب "يمني" قائدا للشرطة في مدينة أمريكية    الوية العمالقة توجه رسالة نارية لمقاتلي الحوثي    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة في حادث مروري بمحافظة عمران (صور)    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    القبائل تُرسل رسالة قوية للحوثيين: مقتل قيادي بارز في عملية نوعية بالجوف    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    التفاؤل رغم كآبة الواقع    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    انهيار وشيك للبنوك التجارية في صنعاء.. وخبير اقتصادي يحذر: هذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة الألف ميل من آرزيو الى منوبة تونس(25)
نشر في هنا حضرموت يوم 17 - 03 - 2015

في السادسة مساءً انطلق بنا القطار من محطته المركزية في مدينة وهران متجهاً الى الجزائر العاصمة. وسررت بعودتي الى هذا القطار العتيد والعتيق الذي ألفته ورافقته اياماً وساعات طوال، والذي اسميته (قطار المغرب العربي السريع)، وهو ليس بالسريع كما يظن البعض، فحركته لاتتجاوز الستين كيلوا متراً في الساعة، وتنخفض احياناً الى حوالي ثلاثين كيلو متراًومادونها في بعض المناطق المزدحمة بالعمران او السكان او الخطرة، وانما هو اكثر المواصلات البرية ربطاً بين دول المغرب العربي الثلاث (المغرب والجزائر وتونس) وبمسافة تصل الى حوالي ثلاثة آلاف كيلو متر من جنوب تونس الى غربي المملكة المغربية.
وفي اقل من ساعة زمن وصلنا الى محطة مدينة (آرزيو) وتوقف عندها القطار لبضع دقائق ثم انطلق في رحلته. وآرزيو هذه مدينة ساحلية صناعية هامة، وتبعد حوالي 40 كيلو متراً شرقي وهران، ويسكنها حوالي 80 ألف نسمة (2008م). واهم ما يميزها وجود مجمع (سوناطراك) البترولي والصناعي. وسونا طراك هذه هي (الشركة الوطنية الجزائرية لنقل وتسويق المحروقات). وقد تأسست في 31 ديسمبر 1963، اي بعد استقلال الجزائر بعام ونيف، ثم جرى تأميمها في 24 فبراير 1971م . واصبحت مسؤولة عن كل عمليات الانتاج والتصنيع والتسويق والنقل للنفط والغاز الجزائري. ويعتبرها الجزائريون اهم منجزاتهم الاقتصادية والتنموية منذ الاستقلال، وحيث قدرت عوائدها المالية في عام 2010م بحوالي 77 مليار دولار، ويعمل بها حوالي 120 ألف موظف (2007م). ولها اعمال في بعض الدول العربية والافريقية والآسيوية والاوروبية وامريكا اللاتينية، ومنها ذكراً لاحصراً كل من تونس وليبيا والمغرب وموريتانيا ومصر وسلطنة عمان وايطاليا واسبانيا والبرتغال والبيرو. وغيرها. وفي عام 1983 مدت سوناطراك خطاً من انابيب الغاز عبر البحر المتوسط ومروراً باراضي الجمهورية التونسية ليصل الى ايطاليا وجنوب اوروبا. وفي عام 1996 مدت خطاً آخراً عبر اراضي في المملكة المغربية الى كل من اسبانيا والبرتغال. ويجعل البعض هذه الشركة الاقتصادية (العملاقة) في المركز الاول افريقيا، وفي المركز الثاني عشر عالمياً (2004م)، والتي تعد بلاشك ركيزة اساسية للاقتصاد الجزائري المعاصر. اما مدينة آرزيو هذه فهي احدى الدوائر التسع لولاية وهران، وبها كنيسة ضخمة، والى جوارها بضعة جوامع متفرقة، كما ان بها مجموعة من الآثار الرومانية والعثمانية، بل يقال ان اسمها (آرزيو) مأخوذ من كلمة تركية تعني الرجاء او التمني او الرغبة.
وتوجه بنا القطار الى مدينة (مستغانم) الساحلية، وهي لاتبعد عن آرزيو باكثر من خمسين كيلو متراً. ومستغانم هذه هي عاصمة لولاية باسمها ويبلغ عدد سكان هذه المدينة حوالي 140 ألف نسمة (2008م). ويقال ان اسمها مأخوذ من كلمتي (مسك الغنائم) وبها جامعة (عبدالحميد بن باديس) المفكر الاسلامي والثائر الجزائري المعروف ابان فترة الاحتلال الفرنسي، ويعتبر من رواد تعريب واسلمة الثقافة والعلم في الجزائر.
وابتعدنا عن الساحل، واتجهنا جنوباً الى مدينة (غليزان) والتي تبعد حوالي 60 كيلو متراً جنوب شرقي مستغانم. وغليزان هذه هي كذلك عاصمة لولاية باسمها. وعدد سكان هذه المدينة يصل الى حوالي 148 ألف نسمة (2008م). وهي مدينة امازيغية النشأة والجذور والمسمى،وحيث يعني اسمها بالامازيغية (السهل المحروق). ويقول البعض في معنى ذلك الاسم هو كثرة ما واجهته هذه المدينة وما حولها من سهول وغابات من مقاومة للاحتلال الروماني في العصور الخوالي. وهذه المدينة هي احدى محطات الطريق الذي سلكه ابن خلدون من تلمسان الى قلعة بن سلامة او قلعة (تاوغزوت) غربي مدينة تيهارت والواقعة جنوب شرقي غليزان. وفي احدى مغارات هذه القلعة وفي شبه عزلة عن العالم كتب ابن خلدون كتابه المعروف عن التاريخ ومقدمته التي وضعت اسمه في سجل الخالدين.
واستمر القطار في سيره، والظلام يكاد يطبق على كل ماهو خارجه، غير اضواء تنبعث من بعيد لقرى او (دشرات) او محلات سكنية هنا وهناك. وقد اصبحنا في حدود الثامنة مساءً، ووصلنا الى مدينة الشلف (الاصنام سابقاً)، وتوقف القطار عندها لبضع دقائق. وهي مدينة يسكنها حوالي 200 ألف نسمة (2008). وقد جعلت عاصمة لولاية باسمها الشلف (المستحدث) بعد ان نكبت في العاشر من اكتوبر 1980، اي قبل عام ونيف من وصولنا اليها بزلزال مروع مات فيه اكثر من عشرة آلاف شخص. وهذا استدعى ان يغيّر اسمها الى مسمى (الشلف) وهو على اسم الوادي الذي تطل عليه، ومن ثم إلغاء اسم (الاصنام) الذي اعتبره البعض شؤماً على هذه المدينة واهلها.
وفي محطة الشلف هذه نزل الكثير من الركاب وصعد آخرون، وكان من بينهم العديد من الشباب المجندين في الجيش الجزائري. وجلس الى جواري بعضهم. واخذنا في تبادل الحديث. وعندما عرفوا من لهجتي انني غير جزائري كانت فرصة مناسبة لهم في المزيد من الحديث معي. وكان حديثاً شيقاً وممتعاً تناولنا فيه قضايا الشباب العربي ومعاناته مع انظمة الاستبداد والقمع في الوطن العربي، ولا يزال امامنا حوالي اربع ساعات للوصول الى محطة القطار المركزية في الجزائر العاصمة، ولذلك جاء هذا الحوار الساخن مع هؤلاء الشباب من المجندين الجزائريين في ميقاته.
وفي حدود العاشرة مساءً وصلنا الى مدينة (خميس مليانة)، وعدد سكانها يصل الى حوالي 85 ألف نسمة (2008م)، وهي احدى بلديات ولاية (عين الدفلى) وتكتب احياناً (عين الدفله). ويبلغ عدد بلديات هذه الولاية 36 بلدية بالاضافة الى 14 دائرة. وتقع هذه المدينة على نهر او وادي الشلف والذي يعد من اطول انهار الجزائر. وقد سماها الفرنسيون (بافروفيل). وبعد الاستقلال سميت (خميس مليانة)، حيث كان يقوم فيها سوق ريفي كل خميس للمحاصيل الزراعية المنتجة في اراضيها مثل التفاح والبطاطا وغيره. اما (مليانة) فهو اسم لبلدة تقع على بعد حوالي عشرة كيلو مترات الى الشمال من (خميس مليانة).
وواصل القطار سيره نحو الشرق، ولم ينقطع حديثي مع شباب الجيش الشعبي الجزائري كما يطلق عليه هناك. وتوقف القطار في محطة (البليدة)، وقد اصبحنا على بعد حوالي 40 كيلو متراً من الجزائر العاصمة. والبليدة هذه عاصمة لولاية باسمها، ويسكنها حوالي 265ألف نسمة (2008م).
وعند الحادية عشرة مساءً وصلنا الى المحطة المركزية بمدينة الجزائر، فخرجت مع زمرة الشباب الجزائري المرافق لي من الشلف وبقصد الانتظار في محطة القطار الى حين انطلاق الرحلة القادمة الى تونس كما ان الشباب هؤلاء كانوا متجهين الى قسنطينة. وجاءنا احد موظفي المحطة واخبرنا بضرورة مغادرة مبنى المحطة بكاملها والخروج الى خارجها، لان نظام المحطة لايسمح بان يبقى احد فيها ما بين الثانية عشرة ليلاً والسادسة صباحاً، ربما لتنظيف المحطة أو لمنع استخدامها للمبيت والنوم، خصوصاً وان اول رحلة للقطار صباحاً تبدأ في السادسة صباحاً وما بعدها.
واستسلمنا للامر النافذ خصوصاً وان من كانوا معي هم من الجنود عليهم طاعة الامر والنظام. وخرجنا من المحطة، وكنا خمسة اشخاص، وتوجهنا الى احد الفنادق (الشعبية) القريبة من المحطة بقصد النوم للساعات الست المتبقية من الليل، فوجدنا الفندق (كامل العدد)، ثم سألنا فندقاً آخراً غيره وفي كل مرة نجد الاجابة بكلمة واحدة (كومبليه)، اي كاملة العدد بنزلائها. ولم نجد مكاناً للنوم في احد هذه الفنادق. وتوجهنا الى حديقة (الامير عبدالقادر) بطل التحرير الجزائري والقريبة كذلك من محطة القطار، وجلسنا على كراسي متقاربة فيها، واتفقنا على ان ينام اربعة ويقوم الخامس بالحراسة وبالتناوب كل ساعة حتى لانقع ضحايا لسرقة او اعتداء. وكان الجو شديد البرودة، وان كانت الريح هادئة نسبياً، مما قللت من شعورنا من البرد المعتاد في شهر يناير. ولم يكن في السماء قمر، ولم تكن هناك نجوماً، وانما (قطيفة) مخملية سوداء داكنة اصبحت بمثابة لحاف طبيعي كنا نتدثر به. وفراشنا هو تلك المقاعد الخشبية الطويلة المثبتة في ارض الحديقة. وكنت هادئاً ومطمئن البال والنفس، وفي رعاية الرحمن عز وجل، واشعر بأنس وامان برفقة هؤلاء الشباب من مجندي الجيش الجزائري. وقد اخذت دوري في الحراسة الليلية، حتى بزغ الفجر واخذت خيوط النهار تنتشر رويداً رويداً، فأسرعنا الخطى الى محطة القطار ليضمن هؤلاء الشباب مقاعدهم في رحلته الى شرقي الجزائر واضمن مقعدي كذلك في رحلته الى تونس العاصمة. وكان مع هؤلاء الشباب تذاكر خاصة بالمجندين، وهي تذاكر مجانية. وعندما هممت بدفع قيمة تذكرتي فوجئت باحد هؤلاء المجندين وهو من ابناء قسنطينة يقول لي خذ تذكرتي هذه واصعد بها للقطار، وهي ستصلك الى محطة قسنطينة، لانني مضطر لركوب الحافلة بدلاً عن القطار. وكل ما عليك فعله هو الاتتكلم بكلمة واحدة عندما يأتي المفتش المسؤول عن مراقبة تذاكر الركاب. وسمع مجند آخر ما قاله هذا الشاب القسنطيني، فقال لي: ما عليك .. سنكون معك وانا سأقدم تذكرتك للمفتش، وانت اجعل نفسك نائماً فقط ولاتتكلم بكلمة واحدة.
وكان ذلك عرضاً غريباً ومفاجئاً ومفيداً لي رغم انني كنت حينها املك قيمة التذكرة وهي حوالي خمسة دولارات (50 ديناراً جزائرياً) الا ان توفيرها سيخفف من الضائقة المالية التي كنت اعاني منها حينها. وقبلت هذا العرض السخي من هذا الشاب الجزائري الطيب. وصعدنا الى القطار وانا احمل في جيبي هذه التذكرة (العسكرية). وجلست على مقعد بجوار احد نوافذه، ومن حولي جلس (الفرسان) الثلاثة من شباب الجيش الجزائري، وحديثنا لم ينقطع كشباب عربي له هموم مشتركة وتطلعات واماني واحدة حتى وان تباعدت بيننا الامكنة والمسافات.
وعند السادسة والنصف صباحاً انطلق القطار في رحلته نحو الشرق الجزائري. وقبيل العاشرة صباحاً وصلنا الى محطة مدينة (برج بو عريرج) وهي عاصمة ولاية باسمها منذ عام 1984 ويسكنها مزيج من العرب والامازيغ والاتراك. ويبلغ قاطني هذه المدينة حوالي 168 ألف نسمة (2008م). وقد سميت هذه المدينة على مسمى برج حصين في وسطها ويقال ان قائد عثماني اسمه (عروج) كلف بالدفاع عن هذا البرج وعن كامل المدينة ضد الغزاة الاجانب، فأطلق اسمه على البرج، أي (برج عروج). وحرّف هذا الاسم مع الزمن ليصبح (برج بو عريرج)، بل وليصبح اسماً لكل المدينة وللولاية كذلك. وفي قول آخر ان (العروج) هو نوعاً من الريش كان يضعه احد حراس البرج فعرف البرج به. وفي قول ثالث ان هذا الاسم هو لقبيلة اقيم البرج على ارضها. وبصرف النظر عن حقيقة مصدر هذا الاسم، الا انه في النهاية اصبح اسماً مميزاً لهذه المدينة ولتلك الولاية الجزائرية رغم طوله وصعوبة تلفظه ونطقه. وهذه الولاية تضم حوالي 904 ألف نسمة (2008م) وبها 34 بلدية وعشر دوائر.
وبعد حوالي ساعة من انطلاقنا من محطة (برج بو عريرج) وصلنا الى محطة مدينة (سطيف) عاصمة ولاية باسمها. ويحلو لسكانها ان يطلقوا عليها عاصمة (الهضاب العليا). وبها نادي وفريق لكرة القدم هو من اشهر اندية وفرق الجمهورية الجزائرية وهو (وفاق سطيف). وتوقف القطار في محطة سطيف لبضع دقائق ثم انطلق في رحلته نحو الشرق. وقد مضت حوالي خمس ساعات ولم يظهر علينا المفتش (المنتظر)، وهو ما يطلق عليه المصريون (الكمساري). وقلت في سري ربما لن يأت مطلقاً حتى اصل الى قسنطينة. وسألت جاري من المرافقين لي عن المحطة القادمة فقال لي انها (شلغوم العيد). وما هي الا بضع دقائق حتى اخبرني هذا الشاب بانه قد شاهد المفتش قادماً من بعد، فاخبرني بضرورة (التناوم)، وعدم الكلام مطلقاً، واخذ مني تذكرة السفر، فأمتثلت للامر، وجعلت نفسي نائماً. وكنت ملتفاً بالمعطف بلونه الكاكي المخضّر والذي يماثل في لونه وشكله معاطف المجندين. واقترب المفتش منا. ونظر الى تذاكر رفاقي المجندين. وكانت بيده آلة (لتخريم) وثقب التذاكر. واستلم تذكرتي من الشاب الجالس بجواري. وسمعته يقول (ايش بيه) اي (ماذا به)، فهو يقصدني وقد راني نائماً. وقد قال عبارته هذه بنبرة حادة وغليظة، فزاد خوفي من انكشاف امري، وكنت ادعو الله عز وجل ان يجعل تلك اللحظات تمر بسلام. وسمعت جاري يقول للمفتش عني وبلهجة جزائرية ما معناه (انه مريض وتعبان ونائم فدعه في حاله). ويبدو ان المفتش قد اقتنع بكلام جاري، فسمعت آلة التخريم تثقب تذكرتي. وما هي الا لحظات حتى يلتفت الي جاري ويقول: الحمد لله كل شيء تمام، خذ تذكرتك. وقد انصرف المفتش الى حال سبيله.وتنفست الصعداء وحمدت الله كثيراً على النجاه والسلامة من موقف ربما كانت تداعياته غير محمودة العواقب، لان فيها انتحال شخصية مجند جزائري واستغلال غير مشروع.
وبعد حوالي ساعة ونيف من مغادرتنا لمحطة (سطيف) وصلنا الى محطة مدينة (شلغوم العيد). وقد سميت هكذا نسبة الى اسم احد شهداء الثورة الجزائرية بهذه المنطقة. وكانت هذه المدينة تعرف ايام الاحتلال الفرنسي باسم (شاطودان دو رمال). وشلغوم العيد هذه مدينة يسكنها حوالي 83 ألف نسمة (2008م)، وهي احدى بلديات ولاية (ميلة) والتي بها 32 بلدية و 13 دائرة. وميلة هذه مدينة سميت باسمها هذه الولاية، وهي امازيغية النشأة ويعني اسمها بالامازيغية (الارض السقوية)، وتسمى كذلك (ارض الالف ساقية) لكثرة ما بها من سواقي تخدم الارض الخصبة في هذه المنطقة.
ومع الحادية عشرة صباحاً وصلنا الى محطة مدينة قسنطينة وهي ثالثة المدن الجزائرية من حيث الاهمية السكانية والسياسية والاجتماعية، فنزلت من القطار لان التذكرة (العسكرية) المجانية التي حصلت عليها من الشاب القسنطيني الطيب لا تسمح لي بالسفر اكثر من ذلك. وودعت هذه الكوكبة الخيّرة من شباب الجزائر، وقد امدتني معرفتي بهم رغم قصرها بكثير من الفهم للاخلاقيات الطيبة والقيم الرفيعة التي يتمتع بها عامة وبسطاء هذا الشعب الجزائري العربي المسلم والذي يقال ان حوالي 70% من سكانه هم عرب، والكثير منهم من بني هلال الذين استوطنوا مناطق مترامية الاطراف في الاراضي الجزائرية شرقاً وغرباً وجنوباً.
وفي محطة قسنطينة توجهت الى شباك التذاكر لقطع آخر تذكرة في هذه الرحلة للتوجه الى تونس العاصمة. وسألت الموظف في هذا الشباك عن انطلاق رحلة القطار الى تونس، فأخبرني بانه بعد نصف ساعة، فخرجت من مبنى المحطة، واحصيت ما تبقى بحوزتي من مال فوجدت ان لدي ما يكفي لشراء نصف كيلو (يوسفي)، فتوجهت الى احد محلات الفاكهة القريبة من المحطة واشتريت هذه الفاكهة. وعدت الى المحطة وجلست على احد مقاعدها وانا اتلذذ باكل اليوسفي، والذي اعتبرته غذاء لذلك اليوم الاثنين الرابع من يناير من عام 1982.
وقبيل الحادية وعشرة والنصف بدقائق وصل قطار الى المحطة فنزل منه ركاب وصعد اليه آخرون. وسألت عن هذا القطار، فقيل لي انه ذاهب الى عنابة وسوق اهراس وتونس، فصعدت اليه وجلست بجوار احدى نوافذه، ثم تحرك القطار، وبدأت رحلة العودة الى تونس، وما هي الاخمس ساعات حتى اكون بعون الله تعالى في غرفتي في الحي الجامعي في منوبة غربي العاصمة التونسية.
ونظرت من نافذة القطار فشاهدت المزارع الممتدة حتى الافق وحولها التلال والمرتفعات تظهر هنا وهناك، وقرى وبلدات ومظاهر للعمران نمرّ عليها بين الحين والآخر. وعلمت فيما بعد انه الى الجنوب الشرقي من مدينة قسنطينة وعلى مسافة حوالي مائة كيلو متر منها توجد مدينة تسمى (ام البواقي). وقد سميت بهذا الاسم نسبة الى من تبقى من ابناء وانصار (الكاهنة) الامازيغية التي قاومت المسلمين عندما اتاها جيش الفتح الاسلامي بقيادة المجاهد الحسان بن النعمان . وقد خاضت هذه الكاهنة حروباً ضد المسلمين وقتلت فيها، وادت الى استشهاد هذا القائد الاسلامي الحسان بن النعمان. وقد اسلم من تبقى من ابناء وانصار الكاهنة واحسنوا اسلامهم، فاطلق على من تبقى منهم واسلم اسم (البواقي). وسميت بذلك المدينة مع اضافة لفظة (ام)، والمقصود بها المدينة وليس (الكاهنة)، كما سميت بذلك الولاية التي من ضمنها هذه المدينة. وفي العهد الاستعماري كانت هذه المدينة تسمى (كانروبر) وهو اسم قائد فرنسي احتل اراضيها. وبعد الاستقلال استبدل هذا الاسم باسم (ام البواقي). ورغم ان الولاية بأسم هذه المدينة الا ان عاصمة الولاية هي مدينة (عين بيضا)، وهي تقع الى الجنوب الشرقي من مدينة ام البواقي وبها مقر لجامعة العربي بن مهيدي. ويبلغ عدد سكان عين بيضا حوالي 70 ألف نسمة (2008م) اي انها اكثر سكاناً من مدينة ام البواقي، والتي بقيت كذاكرة على تاريخ مضى في ارض الجزائر.
ومررنا بمدينة عنابة الساحلية. ومع العصر اقتربنا من مدينة سوق اهراس والتي بها منفذ العبور الحدودي الى تونس. وقد توقف القطار قبل الوصول الى سوق اهراس، فصعد اليه ضباط الجمارك والجوازات لانهاء الاجراءات الرسمية مع الركاب، وخاصة الذاهبين منهم الى تونس. ولاحظت ان القطار كان متمهلاً في سيره وهو يقترب من محطة الحدود في سوق اهراس. واتى الي ضابط واخذ مني جواز سفري. وهو ضابط لم اشاهده في المرة السابقة عند دخولي الى سوق اهراس قادماً اليها من تونس.
ولم تمض سوى دقائق حتى سمعت صوتاً خفيضاً يأتي من خلفي وينادي باسمي الاول (عبدالله)، فسارعت الى الالتفات الى الوراء حيث مصدر الصوت. فوجدت ان من كان ينادي باسمي هو الضابط الجزائري (محمد) والذي سبق له ان استوقفني في مخفر شرطة محطة سوق اهراس بعد ان ساورته شكوك في رحلتي هذه عبر الاراضي الجزائرية والمغربية، بل وساورته شكوك في شخصيتي، واراد ان يتأكد ان اسمي فعلاً كما هو مكتوب في جواز سفري. ولعل استجابتي الطبيعية والتلقائية عندما نادي على اسمي قد ازالت عنه بعض الشكوك، وان هذا هو اسمي فعلاً وليس اسماً مستعاراً او مزوراً، فسلمني جواز سفري وبه ختم المغادرة من الاراضي الجزائرية. وكان سلوكه معي اكثر ليناً وتفهماً واحتراماً، خصوصاً وانني في النهاية مغادر لاراضي الجزائر وليس داخل اليها. وعلى اية حال فقد حمدت الله على سلاسة تعامله معي والذي لم يكن بعيداً عن مسؤوليته واداء واجبه المهني في مثل تلك الظروف.
وبعد دقائق من مغادرتنا لمحطة سوق اهراس وصلنا الى محطة (غار الدماء) بالاراضي التونسية. وتمت على متن القطار كذلك الاجراءات الرسمية للدخول الى اراضي الجمهورية التونسية من قبل ضباط الجوازات التونسيين. وتم الامر معي بالسلاسة المعتادة خصوصاً وان احمل اقامة سارية المفعول في تونس.
وانطلق القطار بعد توقف لدقائق في محطة غار الدماء الى مدينتي جندوبة وباجة، ثم الى مدينة (مجاز الباب) على ضفاف وادي مجردة. وقبيل آذان المغرب بدقائق ومازال في الشمس بقية من نور وصل القطار الى محطة منوبة في الضاحية الغربية للعاصمة التونسية، فنزلت من القطار وسرت على قدمي مسافة لم تزد عن نصف ساعة حتى اصبحت في غرفتي في السكن الجامعي في منوبة، فحمدت الله كثيراً على سلامة العودة، واخذت استرجع في ذاكرتي ماجرى لي في هذه الرحلة خلال الايام العشرة الماضية، أملاً في تثبيت وقائعها في ذاكرتي ومن ثم تسجيلها كتابة لعل فيها ما يفيد من يطلع عليها بمشيئة المولى تبارك وتعالى.
المكلا – حي السلام
17 مارس 2015م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.