ينظر الكثيرون إلى الحاضر والماضي والمستقبل ، وإلى الزمن بكل أشكاله ، من خلال دراهمهم وريالاتهم ، في عبوديةٍ لا يرضاها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو من خلال أهوائهم التي تحولت في صدورهم إلى إله . في حمأة هذا الاستعباد المر للمال والهوى على قلوب وعقول كثير من الناس ، لم يعودوا يميزوا بين الحقيقة والزيف الذي يملأ أفئدتهم هواء ، ويتحول الزيف الى حقيقةٍ بديلة يدافعون عنها وكأنها حقيقة ، وفي زمنٍ تدهورت فيه القيم الأصيلة والأشياء النفيسة ، وارتفع فيها التحوت ، كما اخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم ، كُتِب لنا أن نعيش في وحْل هذه الأودية المظلمة . ! وحضرموت القلعة الشامخة والحقيقة الصارخة ، أقدم الممالك في التاريخ البشري ، مرت عليها سنون ، ومر عليها حكامٌ ظلمة ، وذئابٌ بشرية عاثت فسادا في جسدها النقي وعلى ثراها السخي ، ومع ذلك ظلت حضرموت محتفظةً باسمها في حينِ بدَّل الكثيرون أسماءهم وأشكالهم وعروقهم . حضرموت موطن الرجال الذين حملوا سيوفهم في فتوحات الإسلام ، فدكُّٰوا بلاد فارس ، وطردوا الروم ، وعربوا بلاد مصر وبلاد المغرب . كل تلك الخيول الصاهلة ، والأجساد التي صنعت التاريخ ، نجد – للأسف – من يتجاهل كل هذه الأصوات المتعالية ، أو يغض من طرفها عندما يكتب آثما ، لأنه إنما يكتبُ تحت أنفاس عقله المثقل بالزيف والأوهام ، خانقا كل ذلك التاريخ ليخفيه تحت وسائده الأثيرة . ويتحول الرجل الحضرمي – حفيد المئات من الصحابة رضوان الله عليهم – تحت كل هذا الجو الملبد بالزيف ، إلى لحمٍ حرامٍ تلوكُه أفواههم المليئة بالتقرحات . وليصبح الحضرمي في نظرهم القاصر ذلك التويجر المجهول النسب ، المنزوع الحسب ، ليس له ان يفخر بموطنه ولا بقبيلته ، ولا أن يذكرَ أصوله الموغلة في القدم ، أمام فئات هي في ظل شجرته كأوراق الخريف المتساقطة . وعليه أن يقنع منهم بجائزة تسمح له بالعيش في جزيرةٍ ارتوت من دم آبائه وأجداده ، فتباً لهم ولزيفهم المتهاوي . وتختفي الحقيقة وتغيب شمسُها ، حتى في بيوت و أفواه هؤلاء الحضارمة ، فيشعروا بالغربة في جزيرة العرب بل وفي ظل حيودهم المنيفة ، في حين يدَّعي كثيرون صلتهم بترابٍ يأبى أن يُقِرَّ لهم بحسبٍ أو نسبٍ على ثراه . ويساهم هؤلاء الحضارمة الذين لا يعرفون أن التاريخ وُلِد بين أصلابهم وترائبهم ، وأن الجغرافية تقع في جبينهم العريض ، يساهمون في تعزيز هذه الأوهام ، متناسين أنهم قمر هذه الجزيرة ونجومها . لِمَ لا يقلبون أوراق تاريخهم فيقفوا عند أطلال آكل المرار الكندي ملك نجد ، وعند بلاط سيف الدولة حيث المتنبي ذلك الحضرمي شاغل الناس ، وينظروا بين الجبال إلى أستار الكعبة ليجدوا معلقة امرئ القيس يحركها هواء مكة الحار ، أو يغوصوا في بحر مقدمة ابن خلدون ذلك المهاجر من ضفاف وادي حضرموت ، وليمتلئوا عزة وفخاراً وهم يسمعون المقداد صاحب مقولة " والله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك" . وغير ذلك كثيرٌ لمتأملٍ يرى بعين الإنصاف ، لم يعم عينه بريق الذهب القاتل ، أو يحول بينه وبين الحقيقة هوى متبع . كل ذلك تناسوه فتناساهُ غيرهم ، وصدق من قال : من يَهُن يسهُلُ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ فاستيقظي أيتها الأبصار التي ودّعت الشمس وتوارت في الظلال ، واعرفي قَدر نفسك ، واملئ صدور أبنائك عزةً ، يصنع لهم مستقبلاً زاهراً ، واذكري سواعد أجدادك التي بَنت من الطين قصورا شامخاتٍ قبل قرون عندما كان غيرهم يعيشون في عششهم المهترئة . استيقظ أيها الحضرمي . وألقِ عن كتفك رداء الذلة الذي رضعتَه من مشايخ السوء الذين لعبت بهم الأهواء فاستعبدوك لتقبل أكفهم . وحرِّر نفسك من عبودية الدرهم التعيسة ، واصنع لنفسك ولجيلك مجدا كما صنعه أجدادك غفر الله لهم . وهذه خطوتك الأولى نحو فضاء الاستقلال الرحب . " إنَّ اللهَ بالغُ أمره قد جعل اللهُ لكل شيءٍ قَدْرا"