جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انهيار سريع وجديد للريال اليمني أمام العملات الأجنبية (أسعار الصرف الآن)    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    وفي هوازن قوم غير أن بهم**داء اليماني اذا لم يغدروا خانوا    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    كاس خادم الحرمين الشريفين: النصر يهزم الخليج بثلاثية    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    الانتقالي يتراجع عن الانقلاب على الشرعية في عدن.. ويكشف عن قرار لعيدروس الزبيدي    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    مقتل واصابة 30 في حادث سير مروع بمحافظة عمران    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    الخطوط الجوية اليمنية توضح تفاصيل أسعار التذاكر وتكشف عن خطط جديدة    دوري ابطال اوروبا: دورتموند يحسم معركة الذهاب    غارسيا يتحدث عن مستقبله    خبراء بحريون يحذرون: هذا ما سيحدث بعد وصول هجمات الحوثيين إلى المحيط الهندي    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    احتجاجات "كهربائية" تُشعل نار الغضب في خورمكسر عدن: أهالي الحي يقطعون الطريق أمام المطار    العليمي: رجل المرحلة الاستثنائية .. حنكة سياسية وأمنية تُعوّل عليها لاستعادة الدولة    الكشف عن قضية الصحفي صالح الحنشي عقب تعرضه للمضايقات    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    الرئيس الزُبيدي يعزي رئيس الإمارات بوفاة عمه    رئاسة الانتقالي تستعرض مستجدات الأوضاع المتصلة بالعملية السياسية والتصعيد المتواصل من قبل مليشيا الحوثي    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    مأرب ..ورشة عمل ل 20 شخصية من المؤثرين والفاعلين في ملف الطرقات المغلقة    عن حركة التاريخ وعمر الحضارات    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    بعد شهر من اختطافه.. مليشيا الحوثي تصفي مواطن وترمي جثته للشارع بالحديدة    رئيس الوزراء يؤكد الحرص على حل مشاكل العمال وإنصافهم وتخفيف معاناتهم    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    الذهب يهبط إلى أدنى مستوى في 4 أسابيع    الشيخ الزنداني يروي قصة أول تنظيم إسلامي بعد ثورة 26سبتمبر وجهوده العجيبة، وكيف تم حظره بقرار روسي؟!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    برفقة حفيد أسطورة الملاكمة "محمد علي كلاي".. "لورين ماك" يعتنق الإسلام ويؤدي مناسك العمرة ويطلق دوري الرابطة في السعودية    التعادل يحسم قمة البايرن ضد الريال فى دورى أبطال أوروبا    نجل الزنداني يوجه رسالة شكر لهؤلاء عقب أيام من وفاة والده    بعشرة لاعبين...الهلال يتأهل إلى نهائى كأس خادم الحرمين بفوز صعب على الاتحاد    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    بنوك هائل سعيد والكريمي والتجاري يرفضون الانتقال من صنعاء إلى عدن    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجريري مقدما أوراق الجعيدي المكلاوية


(1)
أوراق مكلاوية، هكذا شاء صديقي أبو محمد أن يسميها، وهي كذلك فعلاً، وليس غريباً عن عبدالله المكلاوي جداً أن يصف أوراقه بهذه الصفة الحميمية جداً، غير أن حميمية هذه ( المكلاوية ) ربما تُداخِلُ القارئ العام أو العابر أو المشغول بلغة السرد، فيشتغل مخياله على مقاربة دلالة العنوان ( أوراق مكلاوية )، فيظن أن الكتاب نص روائي، أو سيرة ذاتية، لامرأةٍ من المكلا، بفاعلية التسكين الغالبة لدى تهجيه كلمتي العنوان: أوراقْ – مكلاويةْ (بتسكين الحرفين الأخيرين في الكلمتين)، أو على فاعلية الإضافة لا الصفة ( أوراقُ مكلاوية )، وفي كلا الحالتين، فإن نصاً روائياً يحيل إلى ساردة أو مسرود عنها مؤنثة، أو كاشفة عن تفاصيل من أوراق سيرة مؤنثة، مما لعله يثير فضول القارئ المحلي أولاً، ثم العربي، فالأجنبي ربما، ولذلك فهذه العنونة تمارس إيحاءً وتضليلاً من حيث لم يقصد صديقي أبومحمد، لكن الإحالة واقعة لا محالة، وهي من محفزات الإقبال على الكتاب، ومن دواعي اقتنائه على أية حال، إن كان هناك هاجس من هواجس الناشرين.
لكنَّ للصفة (مكلاوية)، بعيداً عن هذه الظلال والإيحاءات الأنثوية، مفعولَ السحر، في ما أظن، لدى القارئ الحضرمي، ولا سيما المكلاوي في الوطن والمهجر، ولها قبل ذلك ما يستثير في النفس حميمية المكان وألفته العميقة المنسربة في أعماق الوجدان الفردي والجمعي.
ويبدو لي أن اختيار العنوان كان موفقاً إلى حد بعيد، على أي وجه يصرفه القارئ، ولعل الكاتب امتاح العنوان من نبع عميق في روحه المبللة بندى البحر، ورذاذ الأمواج المتكسرة على الشطآن، ورطوبة الصيف وأربعينيته العتيدة، في مكلا تخلقت في وجدانه مثلما تخلق وعيه وإحساسه في ازقتها وشواطئها، ودور علمها وعبادتها، ومسارح لهوها البريء، طفلاً وصبياً ويافعاً وشاباً فتياً ثم رجلاً كهلاً لا يلتفت إلى الماضي إلا ليرى فيه نوراً يدله على غد أبهى، له ولمدينته الآسرة وأهليها وعشاقها الميامين جيلاً بعد جيل.
لقد تخلقت أوراق عبدالله المكلاوية، بين يديّ ورقةً ورقةً، ولذلك فليس بيني وبينها مسافة، فقد كنت شاهداً لها وعليها منذ أن كانت أمشاجاً وهواجسَ وأفكاراً متناثرة، ثم وقد تعهدها عبدالله بقلمه، فإذا هي مقالات كان يفجؤنا بطرافتها مقالة مقالة، منذ أن استفززناه، بالمعنى الإيجابي، كي يكتب عموداً ثابتاً في (آفاق حضرموت الثقافية) التي كان يصدرها اتحاد الأدباء بالمكلا قبل أعوام، بالعنوان نفسه: أوراق مكلاوية، لما أنسناه فيه من ميل إلى التقاط المتناثرات هنا وهناك، ليجلوها في حالة من حالات المزج بين الاجتماعي والتاريخي، إذ يدوّن المشاهد التي لا يحتفي بها المؤرخون الرسميون أو الأكاديميون عادةً، ، فيقدمها للقارئ العام بأسلوب فيه من البساطة بمقدار ما فيه من العمق الذي يلتفت إلى الهامشي شكلاً، الجوهري مضموناً. ولم يخيب أبو محمد ظننا، ولم يخذل ما أنسناه فيه، وحدسناه حدساً، من خلال العلاقة الحميمية بيننا كأصدقاء، بل لقد كان من أشد كتاب الأعمدة الثابتة ثباتاً والتزاماً وطرافة أيضاً.
(2)
إن كاتباً هو عبدالله بن سعيد، وإن كتاباً هو " أوراق مكلاوية" هذا، ما كان لهما أن يتشكلا هذا التشكل، ثم أن يخرجا إلى القارئ الآن، لو لم يكن هناك باعث على الكتابة في هذا السياق، ولعل هذه الفكرة المؤرقة أدعى إلى تأكيد فكرة مجاورة أو متماسة معها، هي فكرة الصحافة في حضرموت وواقعها اليوم.
يبدو لي منذ حين أن هناك قراراً مسكوتاً عنه تم اتخاذه في هيئة ما، في مكان ما، قضى بإفراغ حضرموت من الصحافة الحقيقية، مثلما قضت قرارات أخرى مسكوت عنها أيضاً، بإفراغ حضرموت أيضاً من عناصر قوتها الفاعلة في مجالات أخرى ليس هنا مجال التفصيل فيها.
مفعول ذلك القرار المسكوت عنه، كان من آثاره أن أضحت حضرموت فارغة أو كادت، من صحيفة تكون لها عنواناً مشرّفاً، وعاملاً من عوامل نهضتها الإعلامية والثقافية والفكرية والسياسية أيضاً، فأصبحنا لا نجد الصحيفة التي نقرؤها مع فنجان شاي الصباح، فنبدأ بها يوماً جديداً، كما يبدأ سكان المدن في العالم صباحاتهم، بارتشاف عناوين الصباح وقضايا اليوم ارتشافهم الشاي في البيت، أو المقهى، أو الحافلة. فأن تكون في مدينة لا تفتتح نهارها بصحيفة جادة، يعني أنك خارج دائرة الفعل والتفاعل في ادنى درجات الوصف. لكن هذا الواقع قد تم تكريسه، حتى أمسى أهل حضرموت بلا صحف محلية حقيقية يجدون فيها مجتمعهم وقضاياه وآماله وآلامه وتطلعاته وآفاق اتجاهاته على غير فضاء.
ولعل مما كرّس هذا الواقع، أن الصحافة البائسة في واقع حضرموت التي شهدت سنواتٍ عجافاً، لم يستطع القائمون عليها، سواء بفاعلية القرار المسكوت عنه، أم بفاعلية خلو أجنداتهم من مشروع حقيقي لأنفسهم أو لمجتمعهم، أن تكون لهم بصمات ليس مستحيلاً أن تكون، إذ سكنوا إلى الانكفاء على ذواتهم ومكاتبهم، ومجالس ( قاتهم!!) الدخيل على ثقافة المجتمع وعادات نسيجه الاجتماعي، ولم يدر بخلدهم أن في حضرموت طاقات فكرية وإبداعية وثقافية وأكاديمية، ينبغي لهم أن يسهموا في تنظيم فاعلياتها، وتوظيفها لقراءة ظواهر شتى، وتحليلها، وتشكيل الرأي العام الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، في سياق البعد التنموي لرسالة الصحافة والإعلام.
لذلك فكثير من كتاب الرأي في حضرموت والمثقفين والصحفيين البارزين، ظلوا يكتبون في صحف تصدر خارج حضرموت، لأن الصحف المحلية ظلت تدور في فلك عقيم، و ظل هامشها الجاد يتضاءل عدداً بعد آخر، وإن اتسع حيناً فإنما على طريقة الالتماعات العابرة الأدنى إلى البرق الخُلّب!. وإنما كان أولئك يكتبون في "الأيام" الصادرة في عدن، على سبيل المثال- التي غُيّبت قسراً وطل مقعدها الصحفي شاغراً – أو في الملاحق الثقافية والفنية الصادرة في صنعاء أو تعز، لإحساس لديهم بأن السقف هنا يقتضي انحناءات تقصم ظهر الوعي والفكر والموقف، وقد تصل إلى حد اغتيال الكتابة الحقيقية، تارة بلا مبالاة هيئات التحرير، وتارة أخرى بمحدودية قراء تلك الصحف المحلية جداً، والمتحزبة جدا، و(الملكية أكثر من الملك) في حضرموت، فيتساءل الكاتب في نفسه: أللكتابة جدوى والحال هذه؟!، ثم ينكفئ كما انكفأ محرروها، أو ينطلق في فضاء خارج حضرموت، مسترجعاً العصر الذهبي للصحافة الحضرمية أيام "الطليعة"، و"الرائد" و"الرأي العام" و"الجماهير"، ويتذكر بإجلال الأساتذة أحمد عوض باوزير، وحسين محمد البار، ومحمد عبدالقادر بافقيه، ومحمد عبدالقادر بامطرف، وسعيد عوض باوزير، وأحمد هيثم الحميري، وأقرانهم من رواد الصحافة النهضوية، وشيوخها المميزين كالأستاذ محمد بن هاشم وغيره.
ولعل من شواهد ذلك العصر البارزة أن كتاب " صاروخ إلى القرن العشرين" لم يكن إلا إضمامة كتابات صحفية حضرمية ستينية في صحيفة الرائد الصادرة بالمكلا كتبها الأستاذ محمد عبدالقادر بافقيه " سندباد على الورق " ، ومثله كان كتاب " معارك الأحرار" الذي ضم مقالات ستينية كتبها الأستاذ سعيد عوض باوزير في صحيفة " الطليعة" ثم جمعها وأصدرها ابنه المبدع النجيب نجيب سعيد باوزير، ومن تراث الصحافة الستينية مقالات الأستاذ محمد عبدالقادر بامطرف التي لما تصدر في كتاب حتى اليوم، وتمت دراستها في رسائل جامعية.
أي جناية جنتها الصحف " الباردة " على الصحافة في حضرموت، وعلى الفكر والثقافة، والوعي السياسي في حضرموت؟ سؤالٌ لعل إجابته جديرة بأن تلغي القرار المسكوت عنه، وأن تخرس الهيئة التي صدر عنها، ومن ثم استعادة الروح، ليس بالنظر إلى ماضٍ وأطلال شاخصة، وإنما بالاتجاه صوب فضاء أكثر رحابة في زمن الفضاءات المفتوحة، بوعي لا يسوّغ تحت أي مسمى أن تفرغ حضرموت من عناصر قوتها ووجودها، ولاسيما الصحفية في هذا السياق.
(3)
ضللت في زحام الصحافة البائسة، مضغوطاً بثقل أثرها على النفس والفكر، فذهلت عن الاحتفاء بتقديم كتاب صديقي أبي محمد، لكنني لم أكن بعيداً عن رسالة الكاتب، وهواجسه المؤرقة التي أشاطره الكثير منها، مثلما يشاطرني مؤرقاتٍ أخرى تتجاوز حد الكتابة، إلى التفاعل والفاعلية حينما تتحول الكتابة والوعي، إلى فعل وممارسة، في غير اتجاه، وفي غير مجال، بالتوازي مع التكوين الثقافي والأكاديمي.
حسناً فعل الكاتب إذ بوّب كتابه على خلفية مستدعاة من ممارسته الكتابة باحثاً في التاريخ، وأستاذاً ذا منهج في التدريس والإشراف والمناقشة، ولعله لذلك قارب بين الموضوعات المتجاورة والمتشابهة فوضع كلاً منها في سياقه بحيث يكمل بعضها بعضاً، فلا يشعر القارئ بإقحام مقالة في غير سياقها، حتى يظن أن الكاتب قد وضع منهجاً مسبقاً قسم على وفقه المقالات كمن يصمم كتاباً تصميماً منهجياً، ومع ذلك فالكتاب ليس أكاديمياً، لكنه يكشف عن جانب خفي في شخصية الدكتور عبدالله المتخففة من ضغط المنهجية الصارمة في قراءة وقائع التاريخ وتحليلها، ولذلك أيضاً فهو قريب من متناول القارئ العام، خفيف عليه، يأنس إليه، كأنما هو بصحبة كاتب له ميول استطلاعية، ينثر بين يديه أطرافاً من الطرائف والفوائد والمعلومات والحقائق والذكريات، على ناصية السبيل إلى غاية رئيسة يدله إليها هوناً.
الكتاب بأقسامه السبعة معرض مكلاوي وليس أوراقاً، فهو أشبه بمتحف من الكلمات، له سبعة أبواب، كل باب يمنحك دهشة مختلفة وطرافة موصولتين بالمكلا دهشةً وطرافةً. ولعل من اللافت أن الكاتب لم يهدِ كتابه إلى شخص من بني آدم، وإنما أهداه إلى صديق، أفرده بلا صفة إضافية، كأنما هناك مسلّمة ثابتة تدل على أنه صديقه الوحيد، إذ كتب الإهداء: " إلى صديقي .. بحر المكلا ". لكن عبدالله ليس هو الصديق الوحيد لبحر المكلا، فلهذا البحر أصدقاء وعشاق كثر، ولهم معه ومع المكلا حكايات وحكايات بعدد أولئك الأصدقاء والعشاق، والشعراء والفنانين الذين أفردوها معشوقةً عالية الكعب جمالياً.
الإهداء إلى بحر المكلا عتبة مائية إلى مدينة تغتسل مذ كانت بأمواه البحر، قبل أن يقوم بينها وبينه حائل طارئ، كما سيذكر الكاتب في إحدى أوراقه، ولعل تلك العتبة تتعمق دلالتها إذ يجعل المدخل/ الباب الأول موصولاً بذاكرة الزمان والمكان، غير بعيد من قصر السلطان القعيطي الذي صار جزءٌ منه متحفاً. ألم أشر إلى أن الكتاب أشبه بمتحف، لكن من الكلمات؟. غير أنّ القصر/ المتحف ليس أي مكان. إنه ذاكرة زمانية ومكانية ضاجة بالأحداث وهواجس المحتفي بالتاريخ، تمتد لتلامس نبض المكان والإنسان وقيم المجتمع فإذا أنت إزاء شواخص مكلاوية أثيرة في أوراق مثل : "سكين القعيطيين" ، و "عنبة والتشجيع الرياضي ، و"مئذنة ومؤذن "، و "مطلوب للشرطة "، و "مطراق صل ع النبي"، وما أدراك ما مطراق صلّ ع النبي!.
ثم يأخذك الكاتب بخواطره وتأملاته، منغمسة في رؤاه وتصوراته للأشياء والأحياء والأحداث، لترى شخصيات في شخصية، كأنما هو يختزل رؤية الحضرمي في هوامش تحاول أن تكون متوناً محلوماً بها، أو منقودة، أو مدلولاً على طرافتها، سواءً ما كان منها ذا ظلال سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو رياضية، وأكتفي هنا بالإشارة إلى أوراق مثل: "عندما سيطر الحضارم على البترول"، و" البرتقالة والمرتقالة، و"عشاء رياضي سيئوني"، و"جنة ( أنددع ) وناره".
وعبدالله في أوراقه المكلاوية وفيٌّ لأساتذته الذين يشاطرونه عشق المكلا، فلا يمر بك من بابه الثالث إلا لكي تلقى رموزاً لها في ذاكرته ووعيه ووجدانه محبّاتٌ نديةٌ، فمن "عكاشة.. وحنينه إلى المكلا "، وهو الأستاذ الدكتور محمد عبدالكريم عكاشة الفلسطيني الأصل المكلاوي الهوى والجنسية، الذي شهد آخر عهد سلاطينها، وبداية عهدها الثوري، إذ كان مدرساً بثانوية المكلا…إلخ، إلى " الملاحي.. ذاكرة الشحر" أستاذنا عبدالرحمن ابن الشحر الذي لا تمل مجالسته ولا تستطيع أن تفعل شيئاً حياله، إلا أن تحبه وتحترمه، كما يقول عبدالله، صادقاً.
ومن عكاشة والملاحي، إلى البيتي مؤسس التعليم الثانوي في حجرَ، الذي وقع عبدالله في مصيدة إغراءاته التربوية، فأحبَّ حجرَ من محبة التربوي الفذ الأستاذ علي عبدالله البيتي – رحمه الله – وموصولاً به يلقاك الكاتب على ناصية أستاذ استقر في ذاكرته منه – إذ كان تلميذاً في الصف الثاني الابتدائي- أنه كان يُمَسْرِحُ الدرس، تشويقاً وتحبيباً، ذلك هو معلم اللغة العربية الأستاذ مدرك عبيد مدرك.
وغير بعيد من أجواء العلم والتاريخ، يستوقفك الكاتب إزاء شخصية اعتبارية واجتماعية معروفة في حضرموت، عمل في عهد السلطنة القعيطية قائماً في كل من غيل باوزير، ودوعن، وحريضة، والديس الشرقية، ونائباً للواء شبام، وكان المدخل إلى مقاربة شخصيته الأستاذ الدكتور محمد سعيد القدال- الذي خصه الكاتب بورقة مميزة عنوانها "القدال .. ثنائية العلم – التواضع" – في أثناء زيارته الميدانية للمكلا لجمع مادة كتابه الذي نشر بالاشتراك مع الأستاذ عبدالعزيز القعيطي موسوماً ب " علي بن صلاح القعيطي نصف قرن من الصراع السياسي في حضرموت"، تلكم الشخصية هي عم الكاتب الرجل الطويل الأبيض السيد عمر محمد العطاس – رحمه الله .
ولعبدالله أبي محمد الجعيدي، هاجس موصول بالمحكيات، لعل مصدره تراث شفاهي ثم قراءات أدبية وسردية معينة، عززها منحى تاريخي مؤكد لديه بالدرس والتدريس، لذلك فالباب الثالث يفتح المكلا على فضاء البحر حيث أشرعة الهجرات إلى مشارق الأرض ومغاربها، فيروي حكايات مهجرية طريفة، هي جزء من اهتمامه بدراسة التاريخ، لكنه يحاول تقديمها بمزاج أدبي. ومن تلك الحكايات أكتفي بالإشارة إلى " الزعامة الحضرمية في أدغال إفريقيا " التي أصبح أحد الحضارمة شيخاً فيها على قبيلة الماساي الشرسة، في واحدة من غرائب الحكايات والطرائف في مدونة الهجرة الحضرمية، وهي حكاية تصيدها الكاتب من استطراد جانبي من محاضرة ألقاها الأستاذ الفنان المعروف سعيد عمر فرحان ( بوعمر) في اتحاد الأدباء بالمكلا، عن التراث الشعبي الحضرمي.
أما روحانيات حضرموت ولاسيما مدينة المكلا، فيفتح لها عبدالله باب أوراقه الخامس، مستعيداً تقاليد رمضان وطقوسه الاجتماعية والدينية لدى فئات المجتمع، صغاراً وكباراً، بدءأ باستقباله وانتهاء بالعيد واليوم الجديد، لكنه يخص رمضان بين مسجدي بازعة ومشهور، بورقة خاصة، حيث كان مرتع العمر الجميل وروحانياته الأولى.
وللمكلا المفتوحة على المحيط، ملامح ممتدة إلى تخوم التلاقح الحضاري والتثاقف، كغيرها من مدن السواحل ذات الطبيعة غير المنغلقة، ولذلك فالباب السادس مفتوح على الهند، حيث حضورها في المكلا، كأجمل ما يكون الحضور، ممتداً في الأفلام الهندية التي كان أهل المدينة على موعد معها كل خميس في السينما الأهلية، لتمتد الذكريات شجوناً كما يقال. وليست الأفلام وحدها الملمح الهندي البارز، فثمة عائلات هندية، وأكلات هندية أيضاً، بل إن الطابع العمراني الهندي مكوّن بارز من مكونات الملامح العمرانية في المدينة، في غيرما تنافر روحي، مع تلك الملامح التي تآلف معها المجتمع تآلفه مع ثقافة هندية حاورتها ثقافة حضرمية، من دون استعلاء أو استخفاض.
وينتهي بك المطاف مع الكاتب إلى الباب السابع، ليأخذك إلى أجواء "سمرٍ مكلاوي "، مع جلسائه – وكنتُ منهم – على ضفة حرة، يأخذ فيها جلساؤه راحتهم وانبساطهم في خوض موضوعات شتى، من مثل:" لغتنا الجميلة.. كيف نحافظ عليها؟"، إلى" الثقافة الجنسية وإشكالية النظرية والتطبيق"، ثم يذهب كل منهم إلى حال سبيله، لكن عبدالله لا يخلد إلى نومه قبل أن يلملم أشتات السمر، في أوراق يفاجئ بها سمّاره، وهاهو يختم بها الكتاب شاخصاً من شواخص الحاضر، بعد أن كان الباب الأول منحوتاً من ذاكرة الماضي زماناً ومكاناً.
(4)
هل أطلت عليك عزيزي القارئ؟.. أظنني انسبت، من حيث لم أخطط أو أقدّر، بين أوراق عبدالله المكلاوية، ولا أظنك إلا ستنساب بينها انسيابَ عبدالله بين تفاصيل مُكلاّه الطريفة.
المكلا: 16/إبريل/2011م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.