ويوم عيد الأضحى هو اليوم المُتمم لأيام العشر؛ خير أيام الدنيا .. وعلى المرء أن يتحرى فيه القبول ولا يجعل بهجة العيد تُنسيه عبوديات عظيمة في هذا اليوم العظيم؛ لأن الأعمال بالخواتيم .. والعيد عبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لأن حياة المسلم كلها عبودية لله تعالى في أفراحه وأحزانه .. يقول الله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] ويُعْتَبَر العيد نقطة بداية لعامٍ جديد؛ ليجدد كُلٍ منا حياته ويعالج سلبياته .. ولكن بعض الناس يُجدد حياته في العيد بشكلٍ آخر، بأن يقع في أفعال لم يكن معتادًا عليها لكنها لا تُرضي الله عزَّ وجلَّ .. فكيف نجعل من عيدنا قُربةً إلى الله سبحانه وتعالى مع استشعارنا لمعنى السعادة الحقيقية؟ فرحة العيد ومفاهيم يجب أن تُصحح أغلب الناس يعتقد إنه لن يستمتع ويفرح بالعيد إلا إذا لبى جميع رغباته وشهواته، بغض النظر إذا كانت طرق تحقيقها مباحة أم لا .. ومهما قام به من أعمال تحلو له، فهو ينجرف وراء سراب وغاية ما سيحصل عليه هو سعادة وهمية .. فهو ظاهريًا يضحك ولكن بداخله شعور حزين بإنه ينقصه شيءٌ هام .. فما هي السعادة الحقيقية؟ عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن السعيد لمن جُنِبَ الفتن، أن السعيد لمن جُنِبَ الفتن، إن السعيد لمن جُنِبَ الفتن .." [رواه أبو داود وصححه الألباني، مشكاة المصابيح (5405)] فالسعادة الحقيقية تكمُن في حماية الله عزَّ وجلَّ لك من الوقوع في الفتن، وحفظ قلبك من أن تلوثه الشبهات والشهوات .. وحينها ستسلم نفس الإنسان من الصراعات التي تكون بين رغباته والواقع الذي يعيشه، ويعيش الاستقرار والاطمئنان النفسي .. وقال تعالى {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فمن يسير خلف أهواء الناس ويفعل ما يفعلونه دون مراعاة لحدود الله عزَّ وجلَّ، فقد ضلَّ سبيل الرشاد وهو أبعد ما يكون عن نيل السعادة الحقيقية .. أما إن أردت السعادة الحقيقية:: عليك أن تبتغي مرضاة الله عزَّ وجلَّ في جميع أفعالك .. فبإمكانك أن تمرح وتخرج للتنزه مع أهلك وأصدقائك في إطار المباح،، العيد نُسُك وعبودية العبودية الأولى: إدخال السرور المسلمين، وخاصةً الفقراء والمساكين .. إن العيد مناسبة طيبة ينبغي للمسلم أن يستفيد منها ليرفع رصيده من الحسنات وذلك بالحرص على الطاعات، والتي منها: بر الوالدين وصلة الأرحام والتوسعة عليهم بقدر المستطاع .. التوسعة على الفقراء واليتامى ومشاركتهم بهجة العيد وتوزيع الأضحية .. وينبغي أن تحرص على توزيع الأضحية على من يستحقونها بحق، وليس لمن يسألونك عنها فقط ويوجد جهات مُخصصة لتوزيع لحوم الأضحية على من يستحقونها .. قال تعالى {.. فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ..} [الحج: 36] .. أي: الفقير الذي لا يسأل، تقنعًا، وتعففًا، والفقير الذي يسأل، فكل منهما له حق فيهما. [تفسير السعدي] العبودية الثانية: كثرة ذكر الله تعالى .. فالذكر يجعل قلبك متعلقًا بالله عزَّ وجلَّ، وبما أن أيام العيد تزداد فيها الغفلة .. فقد نبهنا النبي بأنها أيام للذكر إلى جانب الأكل والشرب .. عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ" [صحيح مسلم] ويوم النحر من ضمن أيام العشر التي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالإكثار فيها من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير .. ويُسنَّ التكبير من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من ذي الحجة .. فلا تغفل عن الذكر .. وأكثرُ الناس ذكرًا للرحمن، هم من سيهتدون إلى سواء الصراط .. يقول الله جلَّ وعلا {.. قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (*) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 27,28] العبودية الثالثة: المشاركة الوجدانية للحجيج .. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟، قَالَ "وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ" [صحيح البخاري] وذلك لأن نية المرء خيرٌ من عمله .. فإن لم نقدر على مشاركة الحجاج في مناسكهم بأجسادنا، فنحن معهم بأرواحنا وقلوبنا .. بالأمس في يوم عرفة، كان الحجاج يقفون على جبل عرفة يدعون .. بينما يُشرع لغير الحاج صيام يوم عرفة الذي يُكفر عنه ذنوب عامين .. ثمَّ ينتقلون إلى مزدلفة لصلاة المغرب والعشاء جمعًا، ومزدلفة أي: قُربة .. ونحن علينا أن نتقرَّب إلى الله سبحانه وتعالى بشيءٍ يحبه، بكثرة السجود والدعاء .. ثمَّ ينتقلون إلى منى ويبدأون في رمي الجمار، في الوقت الذي سنصلي فيه صلاة العيد .. ورمي الجمار يُمثل إلقاء جميع القواطع التي تقطعك عن الله سبحانه وتعالى، وهو رمز لإظهار عداوتك للشيطان الذي يحول بينك وبين طريق الله تبارك وتعالى .. فإن كان الحجاج يرمون الشيطان بالحصى، فعليك أن ترميه بحصى التوبة والإنابة والطاعة لله عزَّ وجلَّ .. ثمَّ ينتقل الحجاج لذبح الهدي، ونحن هنا نذبح الأضاحي .. وتلك الشعيرة تمثل معنى الاستسلام لله تبارك وتعالى .. وبعد ذلك يطوفون طواف الإفاضة، والطواف يُمثِل دوران القلب قبل الجسد حول العرش .. قال بعض السلف "إن هذه القلوب جوالة فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحش" [الجواب الكافي (1:82)] فأنت بحاجة إلى قُربة في يوم النحر؛ لتُدلل بها على أن قلبك يطوف حول العرش وليس حول قاذورات الدنيا وهمومها،، لحظة الفداء والتضحية وقفات وعِبَر من قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام 1) استسلام إبراهيم عليه الصلاة و السلام وخضوعه لربِّه سبحانه وتعالى .. كما وصفه ربَّه عزَّ وجلَّ فقال {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] .. وتتجلى شدة استسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام لربِّه في استعداده التام للتضحية بفلذة كبده إسماعيل عليه الصلاة و السلام 2) الجزاء من جنس العمل .. لما كان إبراهيم عليه الصلاة و السلام بارًا بأبيه ومترققًا، حانيًا، عاطفًا، متأدبًا في معاملته إياه .. وفي نفس الوقت طائعًا لأمر الله سبحانه وتعالى .. كما كان ظاهرًا في حواره مع أبيه وتدرجه في دعوته وشدة حرصه على دعوته للإيمان .. {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (*) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (*) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (*) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 42,45] كان الجزاء أن رزقه الله سبحانه وتعالى ابنًا بارًا، طائعًا له .. فأجابه بنفس أسلوب خطابه الحاني مع أبيه .. {.. قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] فبروا بآبائكم، تبركم أبنائكم،، 3) التضحية تُبَلِّغ المنازل العالية .. إن الله عزَّ وجلَّ قد بلَّغ إبراهيم أعظم المنازل، وهي منزلة الخُلَّة .. {.. وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] .. ولم يتخذ الله عزَّ وجلَّ خليلاً، سوى النبي صلى الله عليه و سلم ونبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم . ولقد بلغ إبراهيم هذه المنزلة بعد حادثة الذبح .. عندما أخرج كل تعلقٍ من قلبه، حتى حبه الجبلي لولده .. وكان عنده استعدادًا للتضحية بابنه؛ فداءً لربِّه عزَّ وجلَّ وحتى يكون ربُّه راضيًا عنه وهو ممتثلٌ لأمره. 4) أهمية أدب الحوار بين الآباء والأبناء .. صارت آداب الحوار بين الآباء والأبناء مفتقدة في زماننا، ولو أنهم إتخذوا من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أسوةً حسنة في كيفية الإقناع بالحسنى .. لَحُلَّت جميع المشاكل المعاصرة بين الآباء والأبناء. وأي مشكلة يعاني منها المسلمون وغيرهم في هذا الزمان، هي نتيجة لغياب القدوة .. فإن كان الأب والأم قدوةً صالحة داخل البيت، سيتسلح أبنائهم بالإيمان والخُلُق الطيب اللازم لمواجهة تحديات الحياة خارج البيت. العيد فرصة إن العيد فرصةٌ مباركة لجمع شمل الأهل وصلة الأرحام، ونشر البهجة والسعادة في نفوس المسلمين في كل مكان .. تحقيقًا لأمر الله عزَّ وجلَّ لنا بأن نفرح في العيد .. {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] فلنحيي في هذا العيد سُنن منسية ومعانٍ غائبة عنا ولنكن جميعًا وحدةً مترابطة .. عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ" [صحيح مسلم] ولا تنس الدعاء لإخوانك في كل مكان .. فنبينا صلى الله عليه وسلم يقول "من استغفر للمؤمنين وللمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" [رواه الطبراني وحسنه الألباني، صحيح الجامع (6026)] نسأل الله تعالى أن يتقبَّل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يرزقنا حجَّ بيته الحرام وأن يجعله عيد نصرٍ وعزة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها،،