لو جمعنا أعداد سكان الدول التي رفضت السير في الاقتراح الفرنسي – البريطاني حول سوريا لوجدنا أنهم يشكّلون أكثر من نصف سكان العالم. فالصينيون وحدهم بلغوا – حسب أخر الإحصاءات المتوفرة - حوالي مليار و300 مليون، والهنود ملياراً و210 مليوناً، والبرازيل حوالي 200 مليوناً، والروس حوالي 140 مليوناً، والجنوب أفريقيون حوالي 56 مليوناً، أما العرب الذين يمثلهم لبنان فقد شارف عددهم على 350 مليوناً، كما أن هذه الدول تشّكل القوى الاقتصادية الصاعدة في العالم، فالصين – حسب توقعات صندوق النقد الدولي نفسه – ستصبح خلال سنوات الاقتصاد الأكبر في العالم. وبالمقابل تشير الإحصاءات ذاتها أن عدد سكان العالم بلغ حوالي ست مليارات ونصف، فيما لا يشّكل عدد سكان الدول المهيمنة على الأممالمتحدة (الأمريكية والأوروبية وتوابعهما) اقل من مليار نسمة. وإذا أضفنا لهذه الدول المعترضة دولاً عديدة ليست أعضاء في مجلس الأمن، ولكنها لا تشارك الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين ميلها إلى الإفراط في التدخل في شؤون الآخرين الدولية وصولاً إلى إعلان حروب شاملة، كما كانت حال العراق وأفغانستان، أو حروب جوية مدّمرة كما هو حال ليبيا، لوجدنا أن أكثر من ثلثي سكان العالم لا علاقة لهم بما تسميه واشنطن وحلفاؤها وأدواتها "بالمجتمع الدولي". وإذا لاحظنا أيضاً كيف تضغط الإدارة الأمريكية على الأممالمتحدة لمنع قبول فلسطين دولة في المنظمة الدولية، رغم كثرة الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية التي تقرها كل القرارات الدولية بما فيها القرار 181 الصادر في 29 تشرين الثاني 1947 (وقد بات الآن يوماً عالمياً للتضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني)، لأدركنا كيف تتعامل الدولة الأقوى في العالم مع المجتمع الدولي، فهي "تقدّسه" إذا جاراها وهي تهمله إذا عارضها بل وتستخف به وتهزأ بقراراته. ولعل ما تشير إليه الأنباء المتداولة أخيراً عن أن واشنطن تفكر بتشكيل تحالف دولي ( خارج مجلس الأمن) للضغط على سوريا ما يؤكد هذه النظرة الأمريكية للمنظمة الدولية والتي أعلنها بوضوح السيئ الصيت جون بولتون أكثر من مرة حين دعا إلى وقف الولاياتالمتحدة لمساهماتها في تمويل الأممالمتحدة. صحيح أن العالم كله، لولا مقاومة وممانعة برزت في بلادنا العربية والإسلامية، سقط، قبل عقدين من الزمن، مع سقوط الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، وبات خاتماً طيعاً في أصبع رئيس البيت الأبيض يحرّكه كما يشاء حتى أصبحت المنظمة الدولية مجرد جهاز من أجهزة الخارجية الأمريكية أو البنتاغون أو حتى مجمع المخابرات الأمريكية. لكن العالم اليوم، وبعد انكشاف عمق الأزمة البنيوية، الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإستراتيجية، للنظام الأمريكي وحلفائها الأوروبيين، لم يعد كله مجرد جنديينّفذ أوامر "الضابط" القابع في واشنطن، بل استطاعت دول كبرى ، ودول إقليمية صاعدة، أن تشّكل حالة اعتراضية على ذلك الانصياع الأعمى للمشيئة الأمريكية المنصاعة أساساً للمشيئة الصهيونية، خصوصاً في قضايا منطقتنا . لذلك ، بات المطلوب اليوم هو أن تتجسّد حال الاعتراض هذه التي تحول دون التجاوب مع أحقاد فرنسية – بريطانية – أمريكية – صهيونية تريد استخدام مجلس الأمن أداة للتدخل في الشأن السوري، إلى حالة مشاركة فعلية في إعادة "هيكلة" الأممالمتحدة ومؤسساتها، بدءاً من الاعتراض على تجديد انتخاب بان كي مون أميناً عاماً للأمم المتحدة، أو انتخاب وزيرة مالية ساركوزي مديرة لصندوق النقد الدولي، وصولاً إلى إعادة الاعتبار للجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبارها مصدر السلطات الرئيسية في المجتمع الدولي. ولو أضفنا إلى هذين المثلين الصارخين، قائمة لا تنتهي من الانتهاكات الأمريكية والأوروبية، وطبعاً الصهيونية، للمواثيق والقرارات والقوانين الدولية، لأمكن لنا أن ندعو، وبكل صراحة، إلى الكف عن استخدام المجتمع الدولي، ومؤسساته، كستار، وأحياناً كسلاح، في يد الغرب ومعه الصهاينة. بل يسمح لنا هذا السلوك الأمريكي والغربي والصهيوني أن نطالب بإعادة تعريف مصطلح "المجتمع الدولي" تعريفاً جديداً لا غموض فيه ولا التباس ولا استعداد لديه لسوء الاستخدام، بحيث يصبح هذا المجتمع أكثر تمثيلاً للعالم كله، بسكانه، واقتصادات دوله الصاعدة، كما بإرادة متنامية لديه للتحرر من الهيمنة الأمريكية أو الأوروبية أو حتى الصهيونية. وفي ضوء المعيار ذاته بات واجباً أيضاً إعادة تعريف مصطلحات من نوع "العدالة الدولية"، وقد باتت عدالة انتقائية استنسابية سياسية تختار ضحاياها – حسب مصلحة السيد الأمريكي – فيما تصمت صمت القبور على جلادين "محظيين" يرتكبون كل ساعة أفظع جرائم الحرب، أو أبشع الجرائم ضد الإنسانية، ولعل في تعامل مجلس الأمن مع تقريري مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول حرب غزة وأسطول الحرية آخر الأدلة على هذه الاستنسابية والانتقائية. ووفق هذه المقاييس يتوجب على العالم بأسره أن يعيد فتح ملفات ما يسمى بالصناديق الاقتصادية الدولية أو المؤسسات الاقتصادية الدولية التي ما استمع بلد إلى نصائحها "الهيكلية" إلاّ وأزداد فقراً على فقر، وديناً على ديون... بل بدأ العالم يكتشف من خلال حجم فضائح رؤساء هذه الصناديق - وأخرها فضيحة مدير عام صندوق النقد الدولي – مدى الانهيار الأخلاقي والفساد الإداري اللذين يتحكمان بعمل هذه المؤسسات. فهل تتحرك روسيا والصين ومعهما منظومات إقليمية كجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكتلة عدم الانحياز والاتحاد الأفريقي، من اجل أعادة الاعتبار لمجتمع دولي قام أساساً ليصون الأمن والسلم العالميين، لا ليصون مصالح هذه الدولة الكبرى أو تلك. وقد تبدو هذه الدعوة مثالية للبعض، ولكن نذّكر الجميع بعالم الستينات، وبأمناء عامين من نوع داغ همرشولد (الذي اغتيل في الكونغو عام 1960 بأمر من الاستخبارات الأمريكية) وكورت فالدهايم (رئيس النمسا السابق)، وبميثاق "الاتحاد من اجل السلام" الذي أوقف العالم بموجبه عدواناً ثلاثياً على مصر شاركت فيها دولتان دائمتا العضوية في مجلس الأمن (بريطانيا وفرنسا) بالإضافة إلى كيان عنصري يقرّر سياسة دولة تعتبر نفسها الدولة الأكبر في العالم. فهل تنجح الدعوة بإقصاء بان كي مون عن الأمانة العامة للأمم المتحدة بعد أن بات واضحاً انه ليس أميناً ولا مؤتمناً على الميثاق الأممي وكل القوانين الدولية والإنسانية.، وهل يمكن أن تستعيد المنظمة الدولية دورها كمظلة للشعوب المُضطهدة والمُستعمرة (بضم الميم) والفقيرة فتصون حقوقها وأمنها واستقلالها.