من أروع المواقف التي فاجأت الدكتور / عمرو خالد، واقعة يحكيها عن أحد أعز أصدقائه من كبار السن الذين ما زالوا يتمتعون بروح الشباب ويعيشون شبابهم على الرغم من تقادم السن كثيرا بهم . نزل معه في أحد الأيام للتمتع برياضة المشي في شوارع بريطانيا وأخبر عمرو خالد عن رأيه في الذهاب إلى السوق بعد انتهائهم من رياضتهم، وافقه على ذلك . سارا معا وفي الطريق سأل عمرو خالد صديقه المسن عن سبب نزوله إلى السوق رد عليه أحببت في هذا اليوم أن آخذ رأيك وحسك الجمالي في شيء أريد اقتنائه له علاقة بالذوق ، تعجب منه ، مسائلا نفسه عن صديقه ،أفي هذه السن وما زال يبحث عن الموضة ؟ دخلا أحد المولات المتخصصة في بيع الملابس وفيه حدث الصديق صديقه قائلا أنا أريدك اليوم أن تختار لي قطعة من الملابس أقدمها هدية لزوجتي ، رد عليه وهل تتحرى في هذه الهدية جمالها وروعتها أجاب: نعم قال: لكن زوجتك قد تقدمت بها السن ولا تعني لها مثل هذه الأمور شيئا أجاب : لا ،وليس الأمر كما تظن ياولدي عمرو ، ويعلم الله أنني من يوم عرفتها وأنا أتخير لها أجمل الملابس التي تحمل لمسة جمال وهي تعودت على ذلك وإذا أردت أن تتعرف على شخصيتها ونفسيتها فاعرف هذا الذي أمامك فما أتمتع به هي تتمتع به وكلانا انعكاس للآخر في كل ما يحب تعجب عمرو خالد من هذا الموقف ومن هذا الرجل الذي مع تقدم السن به وزوجته إلا أنهما يعيشان حياة تتفجر شبابا وأملا وتفائلا ، حياة كلها حيوية وطاقة . اشترى لها هدية فيها كثير من الجمال الأخاذ والمصبوغة بلون جذآب ليترك عمرو خالد في حيرة من نفسه واضعا أمام عينيه سؤالا عريضا يتمنى له إجابة واضحة لماذا عندما تتقدم السن بنا نحن العرب يخبوا أوار كل شيء ، ويخفت وهج حياتنا وذوقنا وتعلمنا ونظافتنا وأدبنا وأملنا وتفاؤلنا واهتمامنا بأنفسنا ، في الوقت الذي غيرنا حياتهم تتوقد مع تقادم السنين وتتوهج مع مرور الأيام ، فيزداد أملهم ويكثر تفاؤلهم ، وتتوسع مدراركهم وآفاقهم وهامش التحصيل من العلوم في حياتهم ليبقوا بهذ الفهم الذي عاشوه شبابا يتفجرون من خلاله طاقة وقوة وقدرة في الغرب عندما يتقدم الإنسان في السن تظهر عليه ملامح الرفاه والارتياح، فقد تحرر من الكثير من الالتزامات وتفرغ لهواياته وسعادته. في المقابل،وبحسب ماقاله الكاتب عبدالله المغلوث يذوي إنساننا العربي عندما يكبر. تصيبه الأمراض الواحد تلو الآخر إثر جلوسه وإحباطه. ينتظر الموت أن يلتقطه في أي لحظة. الإقبال على الحياة يطيل العمر ويسعد الإنسان وينعكس على أدائه وعمله. ألم يقل سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله". فلمَ لا نطيل أعمار آبائنا بإسعادهم وإخراجهم من عزلتهم وقنوطهم، بتدريبهم على تقنيات حديثة وتحفيزهم على خوض غمار تجارب جديدة؟ إن من لا يجيد أصول اللعبة لن يخوضها. فلنعلمهم ونعيد الحياة والحماسة إلى أرواحهم وأطرافهم. ومن منا لا يعرف الأسكتلندي، جيمس ميرليس (73 عاما)، الدكتور الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1996، يتشبث بالحياة هو الآخر لكن بنظارته السميكة وأحلامه العديدة. كان يتحدث بحبور في لقائه التلفزيوني كأنه فاز بنوبل أمس وليس قبل 14 عاما. كان سعيدا جدا وهو يمطر المذيع بكلمات صينية تعلمها للتو. لدى ميرليس شهية مفتوحة لالتهام المزيد من الكتب واللغات رغم آلام عينيه الطفيفة. جدوله اليومي مزدحم بالفعاليات والأنشطة والفواكه. يبدأ يومه في الساعة السادسة صباحا بالتهام صحيفة وتفاحة. ثم ينخرط في قراءة ما تيسر من كتاب قبل أن يذهب إلى الجامعة. عصرا يذهب إلى المعهد لتعلم اللغة الصينية ومساء يزاول الرياضة وتصفح بريده الإلكتروني. قبل أن يخلد إلى النوم يتناول موزة وكتابا. يقول: "كلما كان يومي متخما ازدادت بشرتي نصاعة وابتسامتي اتساعا". يحلم ميرليس أن يتعلم الصينية والألمانية والكثير من المهارات التقنية المتسارعة مستحضرا كلمات الفيلسوف الإنجليزي، فرنسيس بايكون: "الشيخوخة في الروح وليست في الجسد". الإنجليز ليسوا وحدهم الذين يتمتعون بالحياة حتى آخر قطرة، فالسنغافوريون يفعلون ذلك بمهارة. يعترف رجل الأعمال السنغافوري الناجح تشو باو (83 عاما) أنه لا ينام سوى أربع ساعات يوميا. يقول: "لا أود أن أهدر يومي في الفراش". يقضي تشو جل يومه في المكتب أو مع أبنائه. يلعب معهم كرة السلة أو يطهو لهم. يرى السنغافوري أن الموت يهرب منه كلما وجده سعيدا. يقول في مذكراته التي صدرت العام الماضي: "أنا لا أخاف من الموت. سيحملني يوما ما.. عاجلا أم آجلا، لكن لماذا أناديه قبل أوانه؟". المسنون في العالم يركضون ويستمتعون، ويتعلمون، لكن أقرانهم في دولنا العربية مريضون وحزينون ومكتئبون، يموتون قبل الموت وتبنى قبورهم قبل أوان موتهم لعل من أجمل المواقف في هذا السياق ليمني يحمل هذه المفاهيم ، طالب في الثمانين من عدن يحصل على الدكتوراه بامتياز لمَ لا نشجع أبائنا على التعلم حتى وإن بسن متقدمة ؟ لمَ لا نحفز آبائنا على أن يحافظوا على المستوى الرفيع من الذوق وحب الجمال والتمتع به؟ ومن المواقف المشهودة في حياتي ولن أنساها ما حييت أذكر في إحدى المرات التي زارنا فيها جدي الحبيب طول الله في عمره في كنا متأهبين وقتها للذهاب إلى حديقة الحيوان الواقعة في الحوبان وتحديدا ونحن قد استوينا جالسين في السيارة بمعيتنا أولاد إخوتي وأخواتي وما أن ظهر جدي حتى بدأت أصوات الأطفال ترتفع فرحة بمجيئه ، لم نجد بدا من أخذه معنا ، ولقد كانت لنا فرحة ما بعدها فرحة . وبالنسبة له فقد كانت ساعة من أجمل ساعات أيام عمره بحسب ما أفاد لنا ، ورأينا من قسمات وجهه ، علما أننا كنا نظن أنه سيضيق ذرعا من مجيئه معنا خاصة,أن الأطفال يملئون السيارة ، لقد كان للعيد في تلك السنة طعما ومذاقا خاصا لم يعهد من قبل العجيب أننا في السنة التي أعقبت هذه الزيارة أول ما انقدح إلى أذهان الأطفال للاستمتاع بالعيد هو الذهاب إلى الحديقة مع جدنا الغالي الامر الذب اضطرنا للإلحاح عليه لأن نرسل له ليعيش العيد معنا . لماذا تنطفئ حماسة معظم آبائنا في الستين؟ يقلع كبارنا عن السعادة والفرح مبكرا. يحرمون أنفسهم والآخرين من إمكاناتهم إثر تقوقعهم وانزوائهم. ونحن بالتأكيد مشاركون في هذا الأصم لانكفائنا على أنفسنا وعدم الاحتكاك بهم علينا أن نشجع أمهاتنا وآباءنا وأقاربنا على ممارسة ما يحبون.. أن يهتموا بشعرهم ويلونوا حياتهم دون أن نطفئهم بعبارات قاسية سرا وعلانية على شاكلة (شيبة) أو (لم يعد له بد في هذه الاشياء ) أو ( والدي قد كبر وليس له شيء من ذلك ) مصطلحات تجعلهم يذبلون ويختفون. تأثرت جدا عندما طلب مني أحد الآباء تصوير شهادة شكر وتقدير حصل عليها من إحدى المؤسسات وعندما قمت بتصويرها ملونة زجرني وقام بتوبيخي بحجة أنني غيرتها ، لأنه لا يعرق إلا تصوير الأبيض والأسود فقط حتى وسائل التقنية الحديثة. لا يعرفون عنها شيئا إشراقة وضاءة الإنجاز والإبداع لا يرتبطان بعمر ومرحلة معينة. تصفحوا أهم اختراعات وابتكارات ومؤلفات العالم وستجدون أن خلفها مسنين يتدفقون حياة وموهبة. فلمَ لا نصفق لمسنينا وندعمهم ونؤازرهم كبقية العالم؟ إذا لم نغير عاداتنا وسلوكياتنا فلن نكون أوفر حظا من آبائنا ، فهم نتيجة لثقافتنا وأسلوبنا العقيم. سنستمر متأخرين، ومتخلفين عن الركب، سنهرم مبكرا، وسنُهزَم مبكرا، وسنموت قبل الموت وسندفن في قبورنا قبل أوان رحيلنا وذبولنا وسيخبو كل شيء من حياتنا ونحن لما نزل في فسحة من دنيانا