لا شيء قادر ان يخفف من ضجيج (المكرو) في رحلته اليومية فالركاب اعتادوا ذلك المشوار اليومي الصباحي و لم يعد من احد يهتم للمناظر الطبيعية الخلابة وخصوصا من اسعفه حظه بنيل مقعد قرب الشباك فلم يكن من السهولة تامينه جلوسا في منتصف ثمانينات القرن الماضي . كان الباص مكتظا والوجوه صامتة وسارحة كل في مشاكله اليومية كوكتيل من البشر منهم الطلاب المهمومين بمراقبة علب الشنكليش والمكدوس والزيتون وكل ما تيسر من مونة بيت الاهل تعينهم وتخفف قليلا من عبء تكاليف الدراسة في الجامعة ومنهم المجندين المشتاقين للقاء الاهل بعد اسابيع طويلة من الخدمة العسكرية فتجد هؤلاء يطالبون الشوفير بمزيد من السرعة قبل ان يحتج البعض على ذلك ويبدأ حوارا طويلا فتعلو االاصوات مرتفعة ولكن صوت الراديو واغنية (شوفير التاكسي يا بو سليمان) يبقى هو الاعلى فيبدو ان السائق في عالم آخر ولا يهتم لمجرى النقاش الدائر يبدو منتشيا ومطروبا ولسان حاله يقول والله ما المقصود غيري . في احدى زوايا الباص امراة تحتضن طفلتها الصغيرة التي استسلمت للنوم رغم الضجيج الهائل وامها تراقب وجهها وتلعب بخصلات شعرها الكستنائي ، في كل زاوية من زوايا الباص حكاية وقصة تستطيع ان تحلل كل حالة على حدة عن طريق لغة العيون فتحزن هنا وتفرح هناك تفرح لمنظر الطفلة ابنة الخمس سنوات السعيدة بلعبتها الجديدة والتي تصر على ان تجد لها مكانا وسط هذا الزحام وتحزن لمنظر امراة اخرى تشعر وكان تعاسة العالم كله في عينيها تضحك عند سماع تعليقات عجوز سبعيني لا يصمت ويوجه الانتقادات اللاذعة بالتساوي على الركاب والسائق المتهور الذي وبسبب قيادته الرعناء اطاح بأطرميز المكدوس وتسرب الزيت الى امتعته ويزداد غضبه اكثر كلما ارتفعت اصوات القهقهة ليصب جام غضبه على الطالب المسكين . في منتصف الطريق يصرخ شاب بالسائق طالبا منه انزاله يقف الباص فجاة ويشق الراكب طريقه بصعوبة باتجاه البوابة ينزل مسرعا دون ان يلتفت خلفه . يتابع الباص سيره المعتاد وتعلو من جديد الاصوات فيحتدم النقاش ليتفق الجميع ان الحق كله على الشوفير الذي سمح للطالب ان يدخل اطرميز المكدوس الى داخل الميكرو بدل ان يضعه في المكان المخصص له خارجا . في غمرة هذا الحوار ينتبه احدهم ان الراكب الذي نزل في منتصف الطريق قد نسي امتعته ولكن لا احد يهتم لذلك ابدا فالنقاش اخذ بعدا جديدا محوره الرئيسي انه ليس من حق السائق ان يُسمع الركاب على ذوقه الكل اصبح يطالب بفيروز يرضخ الشوفير مكرها يفتش بين الاشرطة باحثا عن الشريط بمسك به يخبطه على التابلو مرتين قبل ان ينزلق داخل المسجلة فيخرج صوت فيروز المخملي عاليا . حبيبي بدو القمر والقمر بعيد والسما عاليه ما بتطالها الايد رغم كل هذا الضجيج والصراخ تابعت الطفلة الصغيرة نومها العميق جدا بينما اصابع والدتها تلعب بخصلات شعرها الكستنائي .......... في اواسط الثمانينات انفجر باص مليئ بالركاب على طريق حمص طرطوس قتل العشرات وكان بين القتلى طفلة صغيرة بدت وهي ميتة وكانها نائمة. يحكى ان السفاح الذي فجر الباص انتبه لشدة جمالها قبل نزوله منه فزم شفتيه داعيا الله ان يحجزها له حورية من حوريات الجنة لتكون من نصيبه بعد ان يختم جهاده على الارض