بالتأكيد أن التاريخ لا يصدر المصالح الشخصية الضيقة ومواصفاتها للرموز والحكام أو للجماعات ، بقدر ما يحرص على تصدير المواقف ومقاييسها ونتائجها.. فالمصلحة الشخصية لا تدوم ، بينما الموقف له نتائج - وتداعيات حاضرة ومستقبلية – تدميرية أو إيجابية ، .. يعتمد ذلك على نوعه. لنتأمل ملياً في أزمات اليمن شمالاً وجنوباً ، سنجد في جميعها أن اليد الأميركية حاضرة وبقوة .. مع هذا لا تربأ بعض الأصوات بنفسها عن الحديث التضليلي وإشاعة الثقافات الإنهزامية التي تثبط المجتمع اليمني وتثنيه عن اتخاذ مواقف إيجابية ، لرفض اليد الأمريكية ، سيما أنها يد ذات سمة يهودية صهيونية ، لن يتسامح معنا الله تعالى أبداً إذا صمتنا تجاه استمرارها في التلطخ بدماء إخواننا المسلمين من أبناء اليمن أو من الشعوب العربية والإسلامية عامة.. بعض الأصوات تتجه إلى تتويه عقول عامة الناس مستغلةً حالة السطحية والتجهيل وانعدام الوعي والتثقيف السليم ، التي تولدت في أوساط المجتمع اليمني عن سياسة متعمدة من قبل السلطة.. أصوات تزرع في الأوساط العامة قناعات بأن الطيران الأميركي لا يتدخل في حرب صعدة ، مع أن أصحاب الشأن المتضررين يؤكدون هذا التدخل يومياً ،.. فلماذا لا نصدقهم طالما المؤشرات جميعها تؤيد ذلك؟!.. سيما أن الحوثي لا يمتلك وسائل تكنولوجية حديثة للرصد والتتبع والتصوير واستخدام الأقمار الصناعية ، أو حتى الرادارات العادية ، لرصد حركة الطيران ، من أين يقلع وأين يهبط.. وإلا لقدموا لنا الدليل الملموس.. السلاح الأميركي ضرب أهدافاً " سماها عناصر القاعدة " مدنية بريئة ، في محافظة أبين ،.. وتبنى النظام اليمني هذه العملية ، .. لكن الجانب الأميركي - الذي ليس من مصلحته الإقرار بالتدخل المباشر في حرب صعدة في الوقت الراهن مع أنه أعلن الدعم والتدريب – لم يتردد لحظة واحدة في إحراج النظام اليمني بالإعلان عن نجاح صواريخ بارجاتها الرابضة في شواطئ اليمن في تحقيق أهداف بمدينة " المعجلة-أبين".. بل وإعلان أميركا عن عملياتها القادمة في اليمن ، إذ من مصلحتها خلق وهم كبير في أوساط المجتمع اليمني ، بأنها حمل وديع وأهدافها مقتصرة على ملاحقة عناصر القاعدة.. مع هذه الصراحة الأميركية في استهداف المسلمين اليمنيين وأطفالهم ونسائهم ، بذريعة القاعدة ، ظهرت مجدداً أصوات الثقافة الإنهزامية ،لتحاول إقناع المجتمع اليمني أن أميركا لن تتدخل –عسكرياً- مباشرة في شئون اليمن ، فذلك ليس من مصلحتها..وأنها لن تتدخل أبداً حتى لا تكرر تجربتها المريرة في العراق وما تكبدته من خسائر مادية ومعنوية وبشرية في غزوها للعراق.. وأنها فقط ستستهدف عناصر من القاعدة وترحل باحترام وقبلات الحب والتقدير لليمن تتطاير من فوهات مدفعياتها ، وبالمقابل تقدم لليمن مصالح عملاقة ، تنموية واقتصادية ،.. شراء المواقف والصمت.. رغم أن شريعتنا الإسلامية لا تجيز لنا الصمت على عمليات عسكرية أميركية في بلادنا حتى لو كان الهدف هو القاعدة.. ولكن يبدو أن السواد الأعظم من الشعب غير مستعد حالياً للعودة إلى ثقافة القرآن الكريم ، وما يريده منا للتصرف إزاء هذه المواقف.. لنتأمل قليلاً.. لم تعلن أميركا الحرب المباشرة على أفغانستان بذريعة ملاحقة القاعدة ، إلا بعد العديد من العمليات غير المباشرة وتواجد محدود للسلاح الأمريكي في أفغانستان ، حتى تمكنت الإدارة الأمريكية من خلق الوهم الكبير لدى الشعب الأفغاني بأنها حمل وديع ولن تتدخل في شئونهم عسكرياَ ،ثم نفذت مؤامرتها الكبرى لاحتلال أفغانستان بذريعة الانتقام من عميلها الحصري ، أسامه بن لادن إثر زعمه تبني تفجير برج التجارة العالمي.. مع أن التفجير للبرج كان من الأسفل ، وليس بفعل ارتطام طائرة بالدور بعد المائة.. وكانت الساحة الأفغانية ممهدة أمام القوات الكبيرة ، إذ على مدى سنوات استمر تدفق الفرق القتالية الخاصة والاستخباراتية الاميركية إلى أفغانستان حتى تواجدت بقوة في كثير من المعسكرات الأفغانية ، - كما يحدث تماماً هذه الأيام في اليمن – بمبرر تدريب وتأهيل القوات الأفغانية على كيفية مواجهة القاعدة.. ثم انطلت – بعد أحداث 11 سبتمبر – على الأمة العربية والإسلامية جميع الحيل الأميركية لاحتلال أفغانستان ، وبتواطؤ وتمويل من الأنظمة العربية .. اليوم تتكرر تجربتا العراق وأفغانستان.. تتوافد الفرق الاستخباراتية والقتالية الأميركية المتخصصة إلى اليمن بكثافة وتنتشر في المعسكرات اليمنية لتدريب الجيش اليمني على ملاحقة عناصر القاعدة.. وكأنهم "جن" لا تراهم إلا الإدارة الأميركية وجيوشها الذين سلبهم الله كل بصيرة وحكمة.. أقول أن أميركا لا يهمها ما ستخسر عند دخولها عسكرياً إلى أي بلد .. لأنها من الأساس لا تخسر شيئاًَ في أي غزو تقوم به.. فالأنظمة العربية هي التي تمول العمليات الأميركية ، وتتكفل بإعادة الأعمار ، كما فعلت هذه الأنظمة مع عمليات غزو العراق ، بتمويل عربي خليجي، والسعودية تكفلت بإعادة إعمار العراق.. فأين خسارة أميركا؟!.. إذا كان القصد خسارة الأرواح أو العتاد ، فالجيش الأميركي لا يقتحم أي بلد إلا بعد ضمان انحطاط أهل البلد ، وعجزهم ، أو الأصح خوفهم وخضوعهم ، فلا تكون الخسائر كبيرة.. وبالنسبة للخسائر البشرية في العراق كانت كبيرة لأن الجيش الأميركي واجه جيشاً عراقياً تم إعداده قبل حدوث الخيانات العسكرية.. أما في اليمن ، لن تحدث مواجهات مع الجيش اليمني ، لأن أميركا تأتي لمساندته كما تزعم.. ونحن نصدقها لأنا حمقى.. نحن العرب نخسر ونتسبب في خسارة أنفسنا ، وأي تضحيات أميركية ستكون هينة مقابل سيطرتهم على منابع النفط.. في الطرف الشمالي من اليمن أعلن الحوثي تدخل الطيران الأميركي وارتكاب مجازر بشعة ضد الشعب اليمني ،بعد الفشل الميداني للجيش السعودي ،.. وكان ذلك عقب زيارة قام بها الأمير سعود الفيصل والتقى خلالها بأعضاء البنتاجون ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون.. ودخل سلاح جديد إلى الحرب في صعدة ، وهو الأقمار الصناعية لتتبع الأهداف بدقة عالية ، وهذا سلاح أميركي فقط.. مع ذلك أعلنت الأصوات الإنهزامية أن التدخل الأميركي غير مباشر ولن يتعدى ذلك.. فحدث التدخل ، وتضاعف الوهم الكبير بأن أميركا تلاحق القاعدة فقط.. وقواتها " فرق متخصصة من كل نوع " تتدفق إلى اليمن.. لنتأمل أخيراً في النقاط التالية: 1- هناك شبه إجماع عربي ودولي أن تنظيم القاعدة ذراع أميركية مزروع بإبداعات سعودية في جسد الأمة العربية والإسلامية ، بهدف تقديم مبررات دخول القوات الأميركية إلى أي دولة.. فأينما تواجد عناصر القاعدة تحدث الكارثة.. واليمن اليوم أصبحت هدفاً بمبرر استهداف طائرة ديترويت.. والدول العربية جميعاً لا تخجل من تأييد المزاعم الأميركية بأن اليمن أصبحت محضناً ومعسكراً رئيسياً للقاعدة.. مما يعني شبه إجماع عربي على ضرورة الدخول الأميركي إلى اليمن. 2- مصلحة أي جهة – في أي دولة أخرى – بدون حضورها المادي والمعنوي ، لن تستمر.. فأيهما أخطر على المصالح الأميركية ، تنظيم القاعدة الذي يستهدف المصالح البسيطة فقط ، مع ثبوت عدم استهدافه أي مصلحة أميركية في اليمن حتى اليوم ، أم جماعة الحوثي الذين أطلقوا صرخة قوية وسريعة الانتشار في وجه الحضور الأميركي بشقيه المادي والمعنوي ، وغيرها من دول أوروبا ، بل وفي وجه كل نظام عربي عميل لأمريكا؟!.. والثابت أن كل الأنظمة العربية عميلة ومتواطئة مع دول أوروبا وأمريكا وإسرائيل ،.. ايهما أخطر ؟!.. سيما إذا علمنا أن المئات من عناصر القاعدة عبارة عن مجاميع قليلة مشتتة ليس لها إطار جغرافي ، ولا امتداد سياسي واضح المعالم في أي دولة ،.. بعكس عشرات الآلاف من جماعة الحوثي المنظمين والدعّمين بفكر جهادي قرآني ،سريع التأثير في النفوس ، وبسطوا نفوذهم الجغرافي والعسكري في ثلاث محافظات يمنية ، علاوةً على عشرات الآلاف من المؤيدين في مختلف المحافظات وخارج اليمن.. "ما لكم كيف تحكمون ،" .. كيف تنهزمون وتتواطئون ؟!.. كيف نصدق أن أميركا وجهت ضربات استباقية ضد عناصر القاعدة الأقل خطراً وتأثيراً في ظل كونهم ذراع أميركية ،.. ونستنكر أن يكون لها تدخلاً عسكرياً مباشراً في حرب صعدة ضد جماعة الحوثي اللذين يجيشون الناس ضد كل مصلحة أميركية في ظل العدوان والغطرسة الإسرائيلية والأميركية تجاه كل دولة إسلامية، فهم أشد خطراً على حضور ومصالح أميركا ودول أوروبا وإسرائيل.. من الغباء أن تعلن أميركا تدخلها المباشر – في الوقت الراهن – في حرب صعدة ، كون ذلك سيثير حفيظة الشعب اليمني ويمحو من أوساطه الوهم الكبير ، ويحبط أهم وأكبر السياسات والمطامع الأميركية في اليمن قبل أن تتهيأ الظروف الكاملة لتنفيذها.. مع أنها ستعلن ذلك التدخل لاحقاً بعد توغلها عسكرياً في جنوب وشرق اليمن بذريعة ملاحقة عناصر القاعدة.. لماذا نتنصل من مسئولياتنا ، ولا نرغب أن نتحملها – مع أننا محاسبون عليها – أمام الله تعالى وأمام الضمير الإنساني والمحاكم التاريخية ؟!.. فنحن مسئولون عن صمتنا تجاه كل قطرة دم تسيل من جسد مسلم بسلاح يهودي.. وسيكون الصامتون شركاء في القتل والجرائم كلها ،.. من المفترض أن المؤمن نبيه وكيس وفطن ، لا سطحي ولا غبي ولا أحمق.. لا نحتاج إلى انتظار رؤية الحذاء الأميركية تدوس على رأس بعض إخواننا كي نملك دليلاً ، فالمؤشرات تؤكد ذلك التدخل ، إن بشكل مباشر ، أو كما يريد البعض أن يصفه " تدخل غير مباشر".. في جنوب السودان ارتكب الطيران الأميركي مجازر بشعة راح ضحيتها أكثر من 120 مواطن سوداني مسلم بريء.. وأعلن النظام السوداني حينها أنه سلاحه الداخلي هو الفاعل.. لكن بعد صدور مذكرة ضبط للرئيس البشير كمجرم حرب ، من المحكمة الجنائية الدولية العام الماضي ، أعلنت وزارتا الدفاع والخارجية السودانيتين أن الطيران الأميركي هو الذي ارتكب المجزرة في الجنوب بشكل مباشر.. لماذا لا نكون أصحاب مواقف عقدية وإنسانية ووطنية صادقة وجادة ، ونحتج ونرفض أي تدخل أجنبي أو عربي في شئون اليمن ، سواء ضد جماعة الحوثي أو ضد ما يزعمون أنه تنظيم قاعدة.. قبل أن تتسع دائرة الخطر والدمار لتشمل كل اليمن.. فكل ما نحتاجه لندرك الحقيقة ونصدقها وننصرها ، هو القليل من الصدق مع أنفسنا وضمائرنا ، بل صحوة ضمير ، تتجاوز الثقافات الانهزامية والتحليلات الخرقاء التي تخلط الغث بالسمين لتتويه العقول وتجميد المواقف عند مستويات رعناء وبائسة.. لنا مبادئ وعقائد وقيم ، وعقول تدفعنا أقلها إلى تذكر المصير الأسود الذي يمكن أن يغشانا في الدنيا والآخرة نتيجة التقصير والتفريط في واجباتنا ومسئولياتنا تجاه بعضنا البعض وتجاه عقائدنا وأوطاننا. Osama