لمفتي الإخوان يوسف القرضاوي سجل حافل بالازدواجية والتناقض في مواقفه من القضايا السياسية، وأينما قلبت مواقفه تجد مصلحة الإخوان عبدالجليل معالي الكتابة عن القرضاوي رجل الدين المسيّس، أو رجل السياسة المتديّن، تفرضُ نفسها أحيانا بالارتباط بكثرة «مساهماته» ووقع فعله السياسي، إذ يدلي بدلوه كلما طرأ طارئ. الثابت الأوحد في كل مساهماته أنه يخدمُ دائما طرفا بعينه، فضلا عن أنه «ينهي عن منكر ويأتي بمثله».
في السنوات الأخيرة أصبح يسيرا تبيّن أو توقع موقف القرضاوي قبل أن يصدره، تكفي معرفة اصطفاف الإخوان أو مصلحتهم، ويكفي تحديد مصلحة دولة إقامته وحليفة الإخوان، لتحديد ما يمكن إصداره مغلفا بكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الأسانيد.
موقف ينشر في موقعه الرسمي ثم يتحول بسرعة إلى مواقع «حليفة» تتكفل بنشر الموقف أو البيان أو الفتوى، ليصبح بمثابة الدليل أو القرينة على صحة الأطروحات الإخوانية. أو لم يقل الشيخ القرضاوي ذلك؟
الشيخ الذي قضى سنوات عديدة طويلة من حياته «منفيا» بسبب اختلافه مع نظام حسني مبارك، ويبدو أن الأصح أنه استطاب المقام في قطر، حيث تغدق عليه الأموال مقابل دور لم ينته بعد، عاد إلى القاهرة بعد ثورة 25 يناير 2011 ليعتلي منصة التحرير ويخطب في الملايين فيما عرف آنذاك ب»جمعة التحرير» يوم 18 فبراير 2011، ومنذ ذلك اليوم غيّر الشيخ رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من نسق مواقفه وأصبح أكثر وقعا ومساهمة وتأثيرا في كل ما تعلق بالثورات العربية. مساهمة ووقع سمحا للبعض بالقول بأن القرضاوي يمثل بمفرده رأس حربة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، يفتح لهم الطريق بفتاواه ومواقفه، ليجيز هنا ما يحرمه هناك. وكان مثالا صارخا على تحوّل «الفتوى» إلى بيان سياسي، وإسباغ تبدل السياسة على قواعد الفقه.
لا يكفي الحيز الضيق لاستعراض سجل القرضاوي الحافل بالازدواجية إلى حدّ التناقض، ولا ضيرَ في ذلك فالمهم خدمة التنظيم الإخواني بكل ما أوتي له من فتاوى وتبريرات. لكننا نستحضر كيف أن الشيخ القرضاوي دافع باستماتة وحماسة عن تدخل قوات الناتو في ليبيا لإسقاط نظام القذافي، لكنه رفض تدخل القوات الفرنسية في مالي بتعلّة أن «القوات الفرنسية استعجلت بالتدخل العسكري الذي لا يعرفُ منتهاه ولا آثاره الخطيرة من القتل والتدمير والتشريد والمآسي الإنسانية». هذه المعطيات التي استحضرها القرضاوي في بيان اتحاده نسيها أو تناساها في الحالة الليبية، ولكن الموقف القطري كان يمثل المنهج والطريقة.
الازدواجية حضرت أيضا في زيارته لغزة، وكان مدججا خلالها بأكثر من 54 شيخا من أتباعه ومريديه، وكان بينهم السوداني عبدالرحمن سوار الذهب (رئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية) والغريب في هذا الصدد أن القرضاوي أفتى قبل مدة غير بعيدة بعدم جواز زيارة الأراضي الفلسطينية طالما أنها واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، لكنه ذهب بنفسه مبدّدا الفتوى والموقف في آن.
لم يخرج القرضاوي عن خدمة التنظيم مع تأجج الاحتجاجات التركية في مايو 2013، حين خرجت فئات واسعة من الشعب التركي ضجت وسئمت ومجت مسار أسلمة زاحف يقوده الفرع الإخواني في تركيا بتؤدة وصبر، لكن القرضاوي طالب الشعب التركي ب»الالتفاف حول حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وعدم السماح أبدا لمن تسوّل له نفسه تعكير الأجواء وإعاقة التقدم، حقدا وحسدا من عند أنفسهم»، ولم ينسَ- هذه المرة- أن يدعو «الأقلية المعارضة باحترام رأي الغالبية العظمى من الشعب التركي، والكف عن تدمير ممتلكات الدولة والأفراد».
الأقلية التي يجب أن تحترم رأي الأغلبية وعدم تدمير ممتلكات الدولة، تجرنا رأسا إلى الحالة المصرية، وهي الميدان المفضل للقرضاوي، أو لم تنشأ الجماعة الأم هناك في الإسماعيلية عام 1928؟، ولاشك أن حنينه إلى زمن البنّا وبالتالي إلى منشئه الفكري والإيديولوجي، دفعاه إلى استعمال كل معداته وآلياته الإفتائية والفقهية للذود عن حكم الإخوان الذي كان يحمل عنوان مرسي وحزب الحرية والعدالة. لكن الشعب المصري الذي لم يأبه لفتاوى القرضاوي- المتهاطلة مع كل حدث ومناسبة- أوقف النزيف وأخرج من يعيثون فسادا في الزرع والضرع. فاستشاط شيخ الإخوان غضبا ودلقَ كل أواني فتاواه ضد أغلبية خرجت في 30 يونيو مطالبة حكم الإخوان بالرحيل، أما القرضاوي فقد كان يدافع هذه المرة عن «أقلية» ترنو إلى التمكين.
هيجان القرضاوي ومن ورائه شيوخ الإخوان ومن كان يحلم بتأبيد حكم الجماعة في أرض الكنانة، كان عنيفا بحيث لا يوجد طرف سياسي أو تيار أو شخصية وطنية خارج مرمى سهامه، فهاجم السيسي والمؤسسة العسكرية المصرية ومن يساند «الانقلاب» (كما يوصف في عرف الإخوان وما جاورهم) ثم عرّجَ على الشيخ علي جمعة مفتي مصر السابق حيث وصفه ب»الجنرال»، أو «مفتي العسكر».
منذ سقوط حكم محمد مرسي يوم 3 يوليو الماضي، لم يتوقف القرضاوي عن إنتاج خطاب العنف ضد المؤسسة العسكرية، وضد السلطة الجديدة، وضد كل ما لا يمت بصلة لحكم الإخوان. كل من يختلف مع الإخوان أو يعارضهم معرض للتأثيم والتشويه عند القرضاوي، وثم يليه أتباعه من شيوخ الدرجة الثانية الذين يعيدون تسويق مواقف القرضاوي فيما يشبه الفتاوى الترتيبية المكملة، وكان القرضاوي يدعو دائما الجماهير المصرية إلى «المرابطة» والاحتشاد والصبر ومقاومة «القوى الانقلابية».
هذه المواقف أدت إلى أن أمر النائب العام المصري هشام بركات بإحالة بلاغ ضدّ الشيخ يوسف القرضاوي إلى نيابة الاستئناف يتهمه ب»الخيانة العظمى والتحريض على العنف والقتل والاستقواء بالدول الخارجية لخلق رأي عام دولي ضد مصر». وجاء في البلاغ الذي تقدم به رئيس حزب الأحرار المصري، أن «القرضاوي اعتاد إطلاق تصريحات إعلامية القصد منها التحريض على أعمال العنف وقتل الأبرياء واستخدام السلاح والتطرف الفكري والاستقواء بالدول الغريبة مثل أميركا وتركيا واستخدام الدبلوماسية القطرية… في حشد الدول الصهيونية، والتي تربطها علاقات وطيدة بقطر من أجل اتخاذ مواقف معادية لمصر وكذلك تحريض الجنود بالقوات المسلحة على الانقلاب ضد الفريق أول عبدالفتاح السيسي، بجانب إشعال نيران الفتنة بين أفراد جهاز الأمن».
دفاع القرضاوي عن الإخوان وارتفاع عقيرته بالصياح تنديدا بما حدث في ميداني رابعة العدوية والنهضة، كان سيبدو طبيعيا و»إنسانيا» حتى من مصدر إخواني، لكن تقديمه من شيخ أفتى أكثر من مرة للقتل، ونذكر أنه أفتى صراحة بجواز قتل كل من يتعاون مع النظام السوري من رجال الدين والعلماء وحتى من المدنيين، وهو ما سمح للبعض باعتبار القرضاوي أجاز قتل العلامة السوري محمد سعيد رمضان البوطي الذي تم اغتياله في 21 آذار 2013.
وتوصل تقرير نشره معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى إلى أن القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يمثل أحد أسباب الفتنة بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط، وأضاف التقرير «يجزم الشيخ يوسف القرضاوي المقيم في قطر والذي شَهَرته قناة الجزيرة، وهو اليوم أقرب ما يكون إلى زعيم دولي ل «الإخوان»، بأن الشيعة يؤمنون بقرآن مختلف عن القرآن الذي يؤمن به. كما أن حرب لبنان عام 2006 بين إسرائيل و»حزب الله» قد ضاعفت الانقسامات داخل مجتمع «الإخوان» تجاه الشيعة…».
بين رفض العنف الممارس على الإخوان والدعوة إلى ممارسة العنف على كل من يعارضهم، سواء كانوا دولا أو مؤسسات أو أشخاصا، وبين الإفتاء بجواز التدخل الأجنبي هنا وضرورته «لتخليص الناس من جور الحكام»، ورفضه في مكان آخر «لما يمكن أن يحدثه من ضرر على المسلمين»، لا يبدو لنا القرضاوي متناقضا أو مزاجيا أو متلونا، بل هو في قمة المصالحة مع ذاته الإخوانية، وفي أوج الوفاء لانتمائه للجماعة قبل الوطن دائما، وقبل الدين أحيانا