إذا أردنا مناقشة قضية الربيع العربي ونتائجه على حاضر ومستقبل الأمة العربية والإسلامية ينبغي ان نحتكم للعقل والمنطق ونهجر ثقافة العاطفة والانفعال ، وان نسلّم بان القراءة السياسية متغيرة ونسبية وقابلة للتبدل واختلاف الحكم والرؤية ، فمن يمتدح الثورة ويناصر الربيع العربي لن يدخل الجنة ، ومن يرفضه ويذمه فلن يخلّد في النار ، انطلاقا من هذا المنطق فلا شك بوجود عوامل وأسباب اجتماعية وسياسية تدعو إلى الثورة والانعتاق من حالة الجمود السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، فالعرب ليسوا الأمة الوحيدة التي قامت بالثورات أو دعت إليها أو مارستها ، فقد سبقتنا الشعوب واكتفينا بتبديع الفكر الثوري وربما تكفيره لننطلق بعد وصول الربيع العربي إلى شواطئنا في مسابقة دينية وثقافية للتنظير للفكر الثوري وشرعيته ، تدخل المنطقة العام الثاني من انفجار بركان الربيع العربي وسط تساؤلات كبيرة ومتزايدة تتكاثر في كل يوم من تاريخ هذه الثورة ، وليس هذا المقال مسطرا ليكون حكما عاما أو تقييما لهذه الثورات وإنما قراءة في مقدمات الربيع لنصل إلى النتائج المجهولة التي سيقودنا إليها الربيع العربي بمساره الحالي ، فانطلاق الثورة واشتعالها الصاروخي والسريع يجعل الربيع العربي محاطا بالتساؤلات والفجوات دونما تفسير واضح ، هذا الغموض والجدل يحتاج للمنجمين والمشعوذين لإزالة طلاسم الطالع الثوري ، تلك التساؤلات والفجوات من يستطيع الوقوف عندها وفهمها والربط بين أحداثها وتفاعلاتها سيصل إلى قراءة واقعية ومنطقية للربيع العربي وسيتمكن من استقراء المستقبل ويرسم ملامح المرحلة القادمة ، فمن المأخذ والفجوات في مسيرة وانطلاق الربيع العربي : 1 مسلمة منطقية تقول بان الأمة العربية لم تشهد أي تغيير ثقافي أو اجتماعي أو سياسي يتناسب مع هذا التغيير والزخم الثوري السريع والصاروخي ، ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل ، فالأمة ونخبها ومجتمعاتها شهدت تراجعا ثقافيا وفكريا وسياسيا وسادها الفكر الشمولي . وكل أرقام المنظمات تشير إلى تراجع العرب في القراءة والثقافة والتعليم وفي كل المجالات . 2 ليس اعتباطا ان ترفع هذه الثورات شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " ولم يرفعوا شعار تطوير النظام أو تطويره بل يوجد إصرار على الاجتثاث والإقصاء والهدم ، وكان يقال الشرعية الثورية فوق كل الشرعيات القانونية والدستورية والدولية والدينية والأخلاقية ، والأمر المحير مع اختلاف الشعوب التي اشتعلت فيها الثورات وتفاوتها الثقافي والسياسي والمكاني إلا أنها توحّدت حول هذا الشعار وغيره من الشعارات التي تكرس الهيمنة والإقصاء ، وهذا ما دعاء نيلسون مانديلابعد شهر من قيام الثورة في مصر ان يرسل رسالة لثوار تونس ومصر يدعوهم فيها إلى المصالحة ورفض الإقصاء إذا أرادوا بناء دولة ويتركوا الاحتراب والعنف والانتقام . 3 إذا أردت ان تنجز مشروعا صغيرا لا بد ان يكون لك أهداف وخطة واضحة وغاية من هذا المشروع ، فكيف تنطلق ثورات تريد التغيير وترفع شعارات كبيرة جدا رفعتها قبلها الأنظمة الثورية السابقة من الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية دون ان تكون لهؤلاء الثوار أو الحركات الشمولية " الإسلامية والليبرالية " أي تصور عملي واقعي لتطبيق هذا الشعارات ، فالمعارضة في اليمن طالبت برحيل النظام وراهنت بان رحيله سيحل كافة قضايا اليمن سواء منها قضية الجنوب أو الحوثيين أو القاعدة ، وهذه القضايا استفحلت وكبرت ولم تستطع حكومة الوفاق ان تنجز إلا إبدال العطلة من الجمعة إلى السبت . 4 شهدت الثورة خدعة كبرى تجلت في خروج الشباب إلى الساحات والميادين وتقديم التضحيات وعند تقاسم الغنائم تمَّ تهميش الشباب والمرأة وشرائح اجتماعية كثيرة وتربّعت على السلطة حركات إسلامية وأصولية لم يكن لها أي تواجد في صناعة الثورة ، فانقسم الشارع العربي إلى شباب معارض متمترس في الساحات وإسلاميون يجلسون على أريكة البرلمان المريحة ، وهذا يبشر باستمرار الصراع في دول الربيع العربي . 5 رفعت الثورات العربية شعار السلمية ، وقد اخترق هذا الشعار وقتل وما زال الإعلام الموجّه يسمي الثورات المسلحة والعنقية في ليبيا وسوريا بالثورات السلمية ، ففي مصر هاجم مسلحون مجهولون مراكز الشرطة فقام الأفراد والضباط بالدفاع عنها وقتل العديد من المهاجمين ، فتمت محاكمة الضباط بتهمة القتل مما أدى إلى ان رجل الشرطة أصبح يتفرج على المواطنين الذين يقومون بالنهب والفوضى على مرأى ومسمع منه كما حصل في أحداث بور سعيد ويبررون موقفهم بقولهم أفضّل ان أحاكم بالتقصير من ان أدان بالقتل ، فالثورات التي يطلق عليها سلمية يراد منها إضعاف الأمن والجيش لتعم ثقافة الفوضى ، وهو ما يحصل في كثير من دول الربيع العربي . 6 ما يحدث على مسمع ومرأى من الدول الغربية وراعية الديمقراطية سابقة خطيرة جدا ، فالغرب يدين استعمال العنف مع المتظاهرين الذين يقطعون الشوارع ويهاجمون المراكز ومؤسسات الدولة ، وهو يمنع بالعنف حتى التظاهر والوقوف في الساحات العامة في ميادينه وساحاته كما حصل مع حركة " احتلوا وول ستريت " ويفرض تكتما إعلاميا كبيرا على هذه الحركات ذات المطالب البسيطة والمعاشية مما أدى إلى تراجع أمريكا أربعة عشر درجة في مقياس حرية الإعلام محتلة المرتبة السادسة والثلاثين . 7 بالغت الدول الغربية في مناصرة الثورات العربية علما بان الغرب نفسه هو من دعم وأيد الدكتاتوريات العربية ، فقد انتهك الناتو قرار الأممالمتحدة في حظر الطيران على ليبيا وشارك في المعركة ميدانيا ، وهذا يعارض مواثيق الأممالمتحدة ويعدّ جريمة حرب ورفض الغرب حتى التحقيق في جرائم القتل متناسيا شعار الديمقراطية والشفافية ، وتذهل حين تشاهد قناة غربية مثل " يورو نيوز " أو قناة " فرنسا24 " تعرض الجيش الحر السوري يفجر دبابة للجيش السوري وهم يطلقون صرخات الله اكبر ، إضافة إلى عرض جثث السوريين من الجنود والمواطنين ملقاة في الشوارع متناسيين حقوق الإنسان وانتهاك القيم الإعلامية العالمية التي تمنع بث صور الجثث والقتلى . 8 تذكرك إحداث الربيع العربي بقصة علي بابا والأربعين حراميا ، فالثورة في مصر تطيع بحسني مبارك وتتم مجزرة في المحاكم بفتح 200 ألف قضية ومحاكمة في مشهد انتقامي غريب ولا تتم محاكمة عمر سليمان رئيس الاستخبارات المصرية ونائب الرئيس وصانع مآسي مصر والمشرف الأساسي على ملفات التعذيب والقتل وتجويع الشعب الفلسطيني وراعي العلاقات مع إسرائيل بل يأتي مرشحا للرئاسة مدعوما من الجيش ويبدءا حملته الانتخابية من ميدان العباسية المشهور بانطلاق الحملات المؤيدة للجيش منذ بداية الثورة ، فما حدث في مصر يؤكد على وجود صفقة تمت بين الجيش وعمر سليمان والإخوان المسلمون برعاية أمريكية . 9 شهد الربيع العربي قفزات فكرية وتغيير في المواقف كبير جدا لا يمكن استيعابه فالحركات الإسلامية والسلفية التي كانت ترفع شعار الولاء والبراءة ومعاداة الغرب وأمريكا وترفض الانتخابات والاحتكام لغير شرع الله وترفض الخروج على الحاكم وتكفّر الفكر الثوري تنقلب فجأة لتأييد الثورات وتعتبر الغرب وأمريكا المنقذ للشعوب وتجيز الانتخابات وتقاتل مع الناتو في ليبيا ، والأغرب بان الغرب يقرون بوجود جماعات إرهابية ومسلحة ويقدمون لهم الدعم في الوقت نفسه ، فوزير الدفاع الأمريكي " بانيتا " وجفري فيلتمان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى يعترفان تحت القسم الأمريكي في الكونجرس بوجود جماعات إرهابية تقاتل مع المعارضة السورية ومع ذلك يسخّر الغرب كل وسائله لدعم هذه المعارضة التي يصفونها بالإرهابية . 10 المحك الحقيقي للحكم على هذا الربيع الثوري هو بنتائجه وثمرته ، فقد أدى الربيع العربي إلى إضعاف الشعوب العربية وتشتتها ، وإذكاء الصراعات المذهبية والاثنية والمناطيقية والقبلية والسياسية كما يحدث في مصر وليبيا وسوريا ، وساهم في إضعاف المؤسسات الأمنية والعسكرية فأنبوب النفط في مصر يفجر للمرة الرابعة عشر ، وساعد في انتشار الفوضى واشتغال العرب بأنفسهم وتناسي قضاياهم الوطنية والمصيرية ، وقاد إلى تهميش قضية فلطستين وتصفيتها تماما ، وكرس فرض الوصاية الغربية على العرب ، وأضعف الدول العربية وقوّى إسرائيل .