منذ أن ظهرت إلى السطح ما يسمى بالقضية الجنوبية تساءل الكثير من المراقبين للشأن السياسي اليمني سواء على مستوى الداخل أو الخارج عن هذه التسمية الجديدة في الساحة اليمنية التي تحولت بين ليلة وضحاها من أفكار انتهازية إلى "قضية" مناطقية ذات طابع انفصالي مرفوض ومدان، استغلتها بعض أحزاب المعارضة في الساحة للابتزاز السياسي الرخيص. بل لقد تجاوزت هذه الأحزاب أشكال الابتزاز المعروفة لتنتقل مع هذه التسمية الرنانة إلى طور آخر من الأشكال المقيتة للاستغلال الحزبي المناطقي الذي يؤدي إلى إثارة النعرات المناطقية الهدامة، وبالتالي أتيحت فرصة ذهبية سواء بقصد أو بدون قصد لكل المتربصين من أعداء الوطن في الداخل أو الخارج ليعملوا ليل ونهار من أجل إحداث شرخ حقيقي في الوحدة الوطنية- إن استطاعوا- والوصول إلى مبتغاهم أو هدفهم الأكبر الذي لم ولن يتحقق، وهو تمزيق اليمن وتقسيمه إلى كيانات متعددة تتناحر فيما بينها كما حدث ويحدث في الصومال أو بعض الدول التي تعرضت للانهيار والتمزق أو العودة بالتاريخ إلى الوراء- كما أوضح ذلك الأخ الرئيس في خطابة الأخير أمام نقابة الصحفيين. ومحاولة السير باليمن نحو الصوملة حقيقة يسعى لها الكثير من أعداء الوطن والشعب سواء كانوا في الداخل أو الخارج، وهي ليست نغمة أو أسطوانة يخوف بها الشعب أو الأطفال عند نومهم كما يذهب بعض من يستهينوا بالأمر لأسباب سياسية معروفة!! الوحدة الوطنية خط أحمر ينبغي على كل القوى والأحزاب السياسية في الوطن عدم الاقتراب منه أو مسه لأي سبب كان، هذا إذا كان الكل تهمه بحق المصلحة الوطنية العليا التي تتمثل في الوحدة والتنمية والأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، ونتمنى أن يكونوا كذلك وهم إذا أحسنا الظن ببعضنا كذلك، حتى وإن سلك البعض منحى آخر من العمل السياسي الانتهازي. وهذا البعض مهما قصر أو طال الزمن سينتهي به المطاف إلى العودة إلى جادة الصواب لأن الإنسان اليمني بطبعة وتكوينه وتميزه يحب تراب وطنه ولم ولن يفرط به مهما كانت الصعاب أو الضغوط من حوله. وهذا لا يعني أن الخيانة غير موجودة لأنها للأسف الشديد موجودة بالفعل في قاموس البعض ولكنها في اليمن شئ نادر والنادر كما نعلم جميعا لا حكم له. للعودة إلى موضوعنا نلاحظ أن الحديث هذه الأيام كثر من قبل البعض سواء داخل أحزاب المعارضة أو ممن فقدوا مصالحهم وامتيازاتهم الشخصية ويعيشون في الخارج في حالة ضياع وبعضهم في حالة تربص بالوطن وأهله، نقول كثر الحديث غير المسئول من قبل هذا البعض الذي يطالب وبإلحاح عجيب من السلطة بضرورة اعترافها بهذه القضية التي تسمى جنوبية، وهنا لا بد من وضع النقاط على الحروف لإسكات هذه المطالب الهدامة المغلفة زورا وخداعا بالحقوقية.. الطامة الكبرى هنا أن هناك أطراف من هذا البعض الذي يطالب اليوم بالاعتراف بهذا الطرح التمزيقي وفق هذه النظرة المناطقية المقيتة وأحيانا النظرة الانفصالية الواضحة والمدعومة من أعداء الوحدة والوطن في الخارج يعتبرون زورا بأن الوحدة اليمنية التي تحققت في الثاني والعشرون من مايو عام 1990م وفق توافق سياسي وإجماع وطني واستفتاء شعبي عام- أي قبل ثمانية عشر عاماً- تعاني اليوم بحسب منطقهم العجيب والمريب في آن من "مأزق"، وبالتالي لابد من عمل مراجعة سياسية بل ورجعة تاريخية إلى الوراء. وكأن هؤلاء الذين شاركوا بصورة أو بأخرى في المحاولة البائسة للانفصال صيف 1994 م وفشلوا سياسيا وعسكريا بعد استخدامهم لكل أدوات القتل والإجرام وتلقيهم للدعم المالي المهول الذي استلموه سراً أو علناً من أعداء الوحدة في الخارج يريدون اليوم إعادة التجربة ولكن بصور وأساليب وأشكال مختلفة ابتدءوها بإنشاء مجموعات تخريبية عبثية أشبة بالمليشيات سميت فيما بعد ب"الحراك السلمي الجنوبي"، وكأنهم بذلك يريدون تضليل بعض السذج من أنصارهم محدودي العدد بأن هناك بالفعل قضية جنوبية ستحل جميع مشاكلهم. ولكن كما يقولون لن يحدث ذلك إلا بعد ما أسموه ب"الاستقلال" التام عن الشمال وسيطرة وإقصاء الشمال للجنوب، وكأن أهلنا في المحافظات الجنوبية يعانوا من ظلم وجور وإقصاء وإخوانهم في المحافظات الشمالية سعداء بالنعيم الدائم والتنمية المستدامة والعيش الرغيد الذي يتمتعون به!! وبالتالي القضايا الحقوقية التي يستخدمها هؤلاء للتضليل والهدم ليست قضايا الشمال والجنوب معا، بل إن الشمال لا يحتاج لها فقضايا الناس المعيشية في المحافظات الشمالية غير موجودة لان الشماليين كما أسلفنا يتمتعون برغد من العيش الكريم الدائم، أو إنهم في الأول والأخير بحسب نظرة هؤلاء عبارة عن "دحابشة" يقبلون بأي وضع وأي حياة وأي معيشة، ونسي هؤلاء أن أبناء الشمال كانوا قبل الوحدة يعيشون بالفعل في وضع اقتصادي أفضل بكثير من الوضع الحالي ولكنهم أكثر وعيا لما يحاك ويدبر، لذلك لم يخرج بعض الشواذ من بينهم لينادي بالانفصال والتجزئة لأنهم يدركون جيدا أن الوحدة ليست سبب الفقر أو الظلم الذي يقع هنا أو هناك، وليست سبب تفشي ظاهرة البطالة واتساع رقعتها في الوطن كله.. فالوحدة بالنسبة للشعب حقيقة تاريخية ومصير واحد يؤمن بها الجميع في الوطن من أقصاه إلى أقصاه، بل ويعتبرها الانجاز الأعظم في التاريخ اليمني المعاصر.. وهذا لا يعني أن شعبنا في المحافظات الشمالية أشد حرصا على الوحدة من شعبنا في المحافظات الجنوبية، لان الحقيقة أيضا تقول أن الشعب واحد ومسألة الشمال والجنوب انتهت والى غير رجعة مهما حاول البعض إثارتها إعلاميا بين الحين والآخر.. ولا نبالغ هنا إذا قلنا إن شعبنا في المحافظات الجنوبية أكثر حبا وحرصا على الوحدة من غيرهم لسبب بسيط أنهم أكثر من عانى ويلات التشطير والحكم الشمولي في فترات التاريخ التي سبقت قيام دولة الوحدة التي ناضل آبائهم وأجدادهم من أجل تحقيقها. الظلم، والفقر، والبطالة، والفساد ظواهر ومشاكل يعاني منها أي مجتمع على مستوى المعمورة بل على مستوى التاريخ البشري وتختلف المجتمعات من هذه الناحية فقط في درجة ومستوى هذا الظلم أو الفقر أو البطالة أو الفساد لذلك تعمل الدول للتقليل والحد من حجم هذه المشاكل لكنها لا تستطيع القضاء عليها نهائيا في مجتمعاتها حتى وإن كانت هذه المجتمعات من أغنى الدول على مستوى العالم. لذلك نجد دائما أو غالبا المجتمعات المستقرة سياسيا واجتماعيا والتي تتمتع أو تتميز بتماسك جبهتها ووحدتها الوطنية هي أكثر المجتمعات التي تتغلب على هذه المشاكل لان قضيتها الأساسية والمنطقية هي المحافظة على السلم الاجتماعي وتقوية عرى الوحدة الوطنية، التي بدورها ستجلب الأمن والاستقرار وبالتالي التنمية المستدامة؛ وبدون هذه القضية يخسر أي مجتمع قضاياه الأخرى التي يطالب بها. القضايا الانتهازية غالبا ما تتسم في شكلها الخارجي للتمويه والخداع بالقضايا الحقوقية لذلك لا يمكننا وصفها سوى بقضايا "حق يراد منها الباطل" بعينة. فالقضايا التي تخرج عن الإطار المجتمعي العام وتتحول إلى قضايا خاصة- انتهازية أو قضايا مناطقية عنصرية- تعترف فقط بحقوق منطقة أو جماعة معينة وتتجاهل حقوق الآخرين بل حقوق المجتمع ككل، مصيرها الدائم والمنطقي هو الفشل.. بل إن المجتمع لن يتقبل مثل هكذا قضايا أو مطالب تضره أكثر مما تنفعه، وهذا هو بالضبط ما نلمسه في هذه "القضية" التي أسماها أصحابها بالجنوبية لتجعل منها بعض الأحزاب أو الأطراف أو الأفراد مطية فقط للابتزاز السياسي الرخيص.