قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    34 ألف شهيد في غزة منذ بداية الحرب والمجازر متواصلة    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    الخميني والتصوف    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    الريال ينتظر هدية جيرونا لحسم لقب الدوري الإسباني أمام قادش    أول تعليق من رونالدو بعد التأهل لنهائي كأس الملك    جامعة صنعاء تثير السخرية بعد إعلانها إستقبال طلاب الجامعات الأمريكية مجانا (وثيقة)    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    الخطوط الجوية اليمنية توضح تفاصيل أسعار التذاكر وتكشف عن خطط جديدة    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    مقتل واصابة 30 في حادث سير مروع بمحافظة عمران    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    الانتقالي يتراجع عن الانقلاب على الشرعية في عدن.. ويكشف عن قرار لعيدروس الزبيدي    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    العليمي: رجل المرحلة الاستثنائية .. حنكة سياسية وأمنية تُعوّل عليها لاستعادة الدولة    الحوثيون يعلنون استعدادهم لدعم إيران في حرب إقليمية: تصعيد التوتر في المنطقة بعد هجمات على السفن    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    غارسيا يتحدث عن مستقبله    احتجاجات "كهربائية" تُشعل نار الغضب في خورمكسر عدن: أهالي الحي يقطعون الطريق أمام المطار    الكشف عن قضية الصحفي صالح الحنشي عقب تعرضه للمضايقات    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    الرئيس الزُبيدي يعزي رئيس الإمارات بوفاة عمه    رئاسة الانتقالي تستعرض مستجدات الأوضاع المتصلة بالعملية السياسية والتصعيد المتواصل من قبل مليشيا الحوثي    مأرب ..ورشة عمل ل 20 شخصية من المؤثرين والفاعلين في ملف الطرقات المغلقة    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    رئيس الوزراء يؤكد الحرص على حل مشاكل العمال وإنصافهم وتخفيف معاناتهم    الذهب يهبط إلى أدنى مستوى في 4 أسابيع    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    التعادل يحسم قمة البايرن ضد الريال فى دورى أبطال أوروبا    كأس خادم الحرمين الشريفين ... الهلال المنقوص يتخطى الاتحاد في معركة نارية    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    بنوك هائل سعيد والكريمي والتجاري يرفضون الانتقال من صنعاء إلى عدن    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القضية الجنوبية وقميص عثمان!
نشر في الوطن يوم 10 - 06 - 2009

ما أشبه ما يطلق عليه هذه الأيام بالقضية الجنوبية بما أطلق عليه خلال الفتنة التي أصابت المسلمين خلال الخلافة الراشد بقميص عثمان. إن ما يجمع بينهما هو صدق القول الشائع عليهما، أي أن كلا منهما كلمة حق أريد بها باطل. فالمطالبة بدم عثمان بعد قتله حق، ولكن استخدام قميصه الذي قتل فيه وتلطخ بدمه للمطالبة بحقوق سياسية غير مشروعة وحشد الدعم ضد الخصوم باطل. وكذلك فإن المطالبة بإزالة ما لحقق ببعض إخواننا في المحافظات الجنوبية من ظلم خلال مرحلة التشطير وبعد الوحدة حق، ولكن الادعاء بأنهم وحدهم المظلومون إن ذلك سيزول كما يدعي البعض من خلال فك الارتباط بين الشطرين أو تصحيح مسار الوحدة أو إعادة الشراكة السياسية بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام باطل.
وحتى لا ينخدع البعض بذلك فإنه لا بُد من الاتعاظ من الدروس المستفادة من فتنة المسلمين ومن محاولات الانفصال التي جرت في الماضي في اليمن. لقد أوضحت الدروس المستفادة من فتنة المسلمين أن تحقيق العدل لا يبرر ارتكاب الظلم، وأن عدم قول كلمة الحق في الوقت المناسب لا يؤدي إلا إلى ارتكاب مزيد من الظلم، وإن ترك القلة تفعل ما تشاء وتثير الفتن كما تشاء لا تضر بنفسها فقط. فلا تنجو الأغلبية من الاصطلاء بنار الفتن أبدا إذا هي لم تأخذ بأيدي مثيريها. فالوطن مثل السفينة التي اقتسمها ركابها، فركب بعضهم في أسفلها وركب البعض في أعلاها. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا.
وبالمثل فإن التعامل مع ما يسمى بالقضية الجنوبية من خلال استخدام رفع الأذى عنهم لتبرير الانفصال أو لإيذاء النظام أو لتحقيق مكاسب سياسية أو مالية سيؤدي بدون ريب إلى إلحاق الأذى بجميع أبناء اليمن بمن فيهم أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية. صحيح أنه يجب العمل على رفع هذا الظلم، ولكن الصحيح أنه لا ينبغي السماح باستخدام الظلم الذي وقع على بعض إخواننا في الجنوب كمبرر لارتكاب ظلم أكبر يعم كل أبناء اليمن في الشمال والجنوب. إن ذلك لن يؤدي -كما يتوهّم البعض- إلى وصولهم إلى سلطة (الإصلاح) أو إلى زيادة ابتزازهم للنظام القائم (الانتهازيين) أو إلى عودتهم إلى السلطة (الاشتراكي). وكذلك فعلى الجميع أن يدرك أن التغاضي عن الظلم (الفساد) من أجل الحفاظ على الوحدة لن يؤدي إلى استمرارهم باحتكار السلطة (المؤتمر). وأيضا فإن على الجميع أن يدرك أن السكوت عن بواعث الفتنة لن ينجيهم من آثارها الضارة. سوف لن يترتب عن ذلك كله سوى هدم المعبد على الجميع.
إن ربط الوحدة بما يعانيه البعض من ظلم باطل. فالحق ألاّ علاقة للوحدة بالظلم كما أنه لا علاقة لدم عثمان في المعارك الدامية التي خاضها المسلمون من بعده. لقد كان بمقدورهم منع قتل عثمان إذا وقفوا مع الحق أيا كان صاحبه. وفي هذه الحالة فإنهم كانوا سيجنبون أنفسهم والأجيال التي تلتهم إلى يومنا هذا مما ترتب على هذه الفتنة من مآسٍ.
وكذلك فإنه بإمكان اليمنيين اليوم تجنّب فتنة الانفصال والتشرذم أو الفساد إذا وقفوا مع أصحاب الحق أيا كانوا. إن ذلك يتطلب المطالبة بإزالة أي مظالم تقع على أي يمني في أي منطقة كانت، ويعني كذلك الوقوف ضد من يثير الفتنة من خلال نشر ثقافة الكراهية والتشرذم أيا كان موقعه، ومحاسبة الفاسدين أيا كانت مواقعهم.
وما لم نفعل ذلك فإنه سيحل بنا ما حل بالمسلمين من قبل. لقد ترتب على تغاضي بعض الأمة عن مقدّمات الفتنة وعلى سعي البعض الآخر إلى استغلالها لتحقيق مصالح خاصة وإلى عدم اكتراث الغالبية العظمى من الأمة بما يجري إلى اضطراب أحوال الأمة الإسلامية في أواخر ولاية الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه) اضطرابا كبيرا.
لقد كانت مقدِّمات الفتنة بادية للعيان قبل وقت كبير من وقوعها، ومع ذلك لم يحرك أحد ساكنا. ونتيجة لذلك فقد استغل دعاة الفتنة موسم الحج فخرجت جماعة من مصر يقدّر عددها ما بين خمس مائة وألف شخص، ومثلهم من البصرة ومثلهم من الكوفة. وكان أهل مصر يشتهون عليا وأهل البصرة يشتهون طلحة، وأهل الكوفة يشتهون الزبير.
وقبل دخولهم المدينة أرسلوا مندوبين لاستطلاع موقف أهلها منهم. فقابلوا كلا من أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلي وطلحة والزبير وأعلموهم بأن هدف الخارجين هو استعفاء عثمان (رضي الله عنه) من بعض ولاتهم. وعلى الرغم من عدم موافقتهم على أهدافهم إلا أنهم لم يقفوا ضدهم ولم يتبنوا مطالبهم. فعاد المندوبون إلى قومهم وأخبروهم بما سمعوه. ويبدو أن تراخي أهل المدينة عن مقاومتهم قد أغراهم بدخول المدينة. وبعد أن تم ذلك لم يعترض طريقهم أحد ممن كان في المدينة. واتجه الموالون لعلي إليه ليبايعوه والموالون للزبير إليه ليبايعوه والموالون لطلحة إليه لبايعوه. وبالرغم من عدم قبولهم البيعة من هؤلاء فإنهم لم يمنعوهم من محاصرة عثمان (رضي الله عنه)، واكتفوا فقط بإرسال أولادهم لحراسته. ولزم أهل المدينة بيوتهم.
لم يكتفوا بذلك، ففي البداية سمحوا لعثمان (رضي الله عنه) بالخروج من بيته إلى المسجد، والصلاة بالناس، ولكن ما لبثوا أن منعوه من ذلك، ونصبوا أحدهم يصلي بالمسجد بدلا عنه. ولم يناهض ذلك أهل المدينة. وبعد ذلك فرضوا على الخليفة حصارا شديدا استمر أربعين يوما. وعلى الرغم من أن عثمان (رضي الله عنه) قد كتب لأهل الأمصار يستمدهم العون، لكنه لم يأتِ قط..
ونتيجة لذلك فقد تشجّع دعاة الفتنة ورفعوا سقف مطالبهم من المطالبة بعزل بعض ولاتهم إلى المطالب بخلع الخليفة نفسه. مع ذلك رفض طلبهم هذا، قائلا: لست خالعا قميصا كسانيه الله. فردوا على ذلك باقتحام منزل الخليفة، وقتله، ودفنه بدون تشيع يليق به.
وبعد مضي خمسة أيام من مقتل عثمان (رضي الله عنه) ولم يتصدى لهم أحد قاموا بمبايعة علي (رضي الله عنه). ولكنهم اكتشفوا أن عثمان لم يكن السبب فيما يشكون منه، ومن ثم فإن قتله كان ظلما أكبر مما كانوا يطالبون بإزالته من مظالم. ولذلك فإن جريمتهم هذه لم تعمل على تجاوز الأزمة التي كانوا يعانون منها. بل إنه يمكن القول إن تصرفهم -على هذا النحو- كان يمثل انتقالها إلى مرحلة أكثر خطورة. فلم يعد التعامل معها يتطلب التخلص من بعض الولاة، ولكنه يتطلب معالجة أزمة سياسية واقتصادية تعصف بكل المسلمين.
ومع ذلك فقد كان الاعتراف بذلك والسعي للتعامل معه بما يتناسب معه، كان يمكن أن تتم معالجة الأزمة بتكلفة تقل عمّا كلفته لاحقا. ولسوء الحظ، فإن كل الأطراف تجاهلت ذلك وركزت على جزئيات لا تمثل حقيقة الأزمة ولا عمقها. ونتيجة لذلك فقد تحول عثمان وقميصه مشجبا يعلق عليه كل الأطراف مشاكلهم ومبررا يستخدمه كل طامح لتحقيق طموحه.
فبسبب تخلي كل من طلحة والزبير عن بيعتهما السابقة لعلي (رضي الله عنه) ليس بسبب المطالبة بدم عثمان، ولكن بسبب شعوريهما بأنهما لن يحصلا على ما كانا يطمحان له. وعلى الرغم من ذلك، فقد استخدما قميص عثمان (رضي الله عنه) لحشد الأنصار لمقاتلة علي (رضي الله عنه). وقد استخدم معاوية (رضي الله عنه) قميص عثمان لمنع الخليفة المعيّن من قبل علي من الوصول إلى الشام. وقد برر معاوية (رضي الله عنه) عدم مبايعته لعلي بعدم شرعية بيعته؛ لأنه لم يقتص لعثمان (رضي الله عنه). وقد برر علي (رضي الله عنه) عدم نصرته لعثمان؛ بأنه لم يطلب منه ذلك. لكنه لو قاوم داخل دعوة الفتنة في المدينة بالقوة لما حدث ما حدث، ولو منعهم من محاصرته لم حدث ما حدث، ولو منعهم من الصلاة في المسجد لما حدث ما حدث، ولو لم يقبل بيعتهم لما حدث ما حدث.
بل إنه لو تم معالجة الأسباب التي دفعت هؤلاء للخروج لما خرج هؤلاء على الخليفة على هذا النحو. لكن تقاعس الأمة عن ذلك وعن نصرة عثمان (رضي الله عنه) قد سهل لهم قتله على هذا النحو. وبذلك فقد استطاعت القلة أن تورط الأمة كلها في أزمة طاحنة؛ لأنه إذا تعاملت الغالبية مع هذه المطالب بالجديّة المطلوبة لكانت قادرة على ردع هؤلاء الخارجين ولو تتطلب الأمر استخدام السلاح ضدهم، ولكانت قادرة على إقناع الخليفة بتلبية مطالبهم العادلة. وفي كلا الحالتين لما كان حدث ما حدث، ولما كان ممكنا استخدام قميص عثمان من مناصريه ومعارضيه لتبرير تصرفاتهم المتناقضة وغير المفيدة.
ونتيجة لذلك، فإن كل محاولة معالجة هذه الأزمة باءت بالفشل، مما ترتب على ذلك إراقة دماء المسلمين بأيدي المسلمين، وبالتالي تفرق كلمتهم. ونتيجة لذلك، أيضا، كلفت هذه الأزمة الأمة الخلافة الراشدة برمتها، ومكّنت البعض من المجاهرة بالملك العضوض، الذي ما زالت الأمة تعاني من نتائجه الى اليوم.
والأمر نفسه ربما ينطبق على اليمن. فالتساهل في ردع دعاة الفتنة إما من خلال تلبية مطالبهم المشروعة وإما من خلال الأخذ على أيديهم ومنعهم من نشر الكراهية والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وقبل ذلك فإن علينا أن نقتنع أولا بأن الانفصال ليس الحل بل إنه يمثل ظلما يفوق كل المظالم التي تستخدم لتبريره.
فمحاولات الانفصال في الماضي لم تعمل على حل أي مظالم تم التذرع بها لتحقيقه. فعلى العكس من ذلك فقد ترتب على محاولة الانفصال مآسٍ كبيرة شملت كل اليمن وبدون استثناء. ففي عام 1629 حاولت بعض المناطق في المحافظات الجنوبية والشرقية (يافع العليا ويافع السفلى والعوالق وخرفة حالمين) استغلال خروج العثمانيين من اليمن للانفصال عن اليمن الأم. ولم تحقق هذه المحاولة إلا نجاحا جزئيا في عام 1731، وبعد خوض حروب ضارية مع دولة الإمامة في الشمال، وبعد توقف الحروب مع الشمال خاضت المناطق الجنوبية العديد من الحروب الداخلية، مثل: حروب "السلطان الرصاص مع السلطان قحطان وآبين مع يافع وسلطان حضرموت المدعوم من الإمام في الشمال مع منافسه المدعوم من يافع ولحج مع عدن". ولم تستقر الأوضاع في المحافظات الجنوبية والشرقية المنفصلة عن اليمن الأم إلا بعد احتلال عدن من قبل بريطانيا في عام 1839.
ومن الملاحظ أن هذا الاستقرار كان هشا للغاية. فقد اعتمد على المعاهدات التي فرضتها بريطانيا على هذه المناطق. فقد لجأت بريطانيا إلى هذه الطريقة مباشرة بعد احتلالها مدينة عدن بهدف فرض سيطرتها على هذه المناطق. ففي عام 1839، تم عقد معاهدة الصداقة والسلام بين بريطانيا وسلطنة لحج. وفي عام 1840 عقدت بريطانيا معاهدة مع شيخ العقارب. و في عام 1871 عقدت بريطانيا معاهدة مع بعض مشايخ الصبيحة، وفي عام 1886 مع سلطان سقطرى وفي عام 1888 مع سلطان بير علي وشيخ حورة وسلطان القعيطي وسلطان العوالق السفلى وشيخ العقارب وسلطان الفضلي. وفي عام 1889 عقدت بريطانيا معاهدات مع شيخ العاطفي وشيخ البرهمي. وفي عام 1895 عقدت بريطانيا معاهدة مع شيخ العلوي. وفي عام 1897 عقد معاهدة مع شيخ المخدومي. وفي عام 1902 عقدت بريطانيا معاهدة مع كل من شيخ عرقة وشيخ حورة. وفي عام 1903 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل من شيخ ضبي ونقيب الموسطة وشيخ المفلحي وسلطان يافع العليا وشيخ العوالق العليا وشيخ الصالدة وشريف بيحان. وفي عام 1904 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل من سلطان العوالق العليا وأمير الضالع. وفي عام 1905 عقدت بريطانيا معاهدة مع سلطان بالحاف. وفي عام 1912 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل من سلطان العواذل وشيخ دثينة. وفي عام 1914 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل شيخ العلوي وسلطان الحواشب وشيخ قطيب. وفي عام 1915 عقدت بريطانيا معاهدة مع سلطان الكثيري.
وهنا ينبغي أن نلاحظ أن طول الفترة التي استغرقتها هذه المعاهدات والتعديلات التي وقعت عليها تدل على صعوبة توحّد هذه المناطق تحت أي هوية غير الهوية اليمنية. إن ذلك يدل وبدون ادني شك بأنه لا يوجد هويّة واحدة للمناطق الجنوبية والشرقية سوى الهويّة اليمنية. وفي حال تجاهلها فإن هذه المناطق تتشظى بدون حدود. والدليل على ذلك عدم عقد معاهدة واحدة مع كل هذه المناطق. بل إنه وجد عدد من المعاهدات في إطار المنطقة الواحدة مثل: الصبيحة و العوالق وحضرموت وغيرها. ومما يؤكد ذلك، أنه وحتى بعد هذه المعاهدات فإن الصراع على السلطة والنفوذ بين هذه المناطق وبعضها البعض وفي داخل كل منطقة لم يتوقف.
ولم تنجح هذه المعاهدات في خلق كيان موحّد حتى في ظل أقل ما يمكن من روابط الوحدة. ففي عام 1952 حاولت بريطانيا توحيد هذه المشيخات والسلطنات والإمارات في كيان واحد أطلقت عليه الاتحاد الفيدرالي في الجنوب. ولكن هذه المحاولة فشلت فشلا ذريعا على الرغم من الجهود الجبّارة التي بذلتها بريطانيا بواسطة مندوبها السامي في عدن. وتم إعادة المحاولة من جديد في عام 1954، ولكن لم يكن مصير هذه المحاولة بأفضل من مصير سابقتها. وتم إعادة المحاولة للمرة الثالثة في عام 1956، ولكنها فشلت أيضا.
وفي عام 1959 تقدمت بريطانيا بمشروع جديد تحت اسم اتحاد إمارات الجنوب العربي، ولكن هذا المشروع لم يفشل فحسب، ولكنه مهّد لمقاومة الاحتلال. ومما يثير الاندهاش أن مقاومة الاستعمار لم تتوحد إلا تحت أسماء تحمل الهوية اليمنية. فعلى الرغم من تكوين المؤتمر الوطني في عام 1956، والاتحاد الشعبي في عام 1957، والاتحاد القومي في عام 1959، والتجمّع القومي في عام 1960، والهيئات الوطنية الشعبية في عام 1961، فإنها فشلت في قيادة أي مقاومة تُذكر للمحتل، ولم تستطيع أن تتوحد على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في سبيل ذلك.
ومع ذلك فقد انطلقت أول شرارة للثورة في 14 أكتوبر عام 1963 من جبال ردفان الأبيّة. وقد شارك في ذلك كل اليمنيين. وفي العام نفسه تم الإعلان عن تشكيل الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني في صنعاء. وفي عام 1966 تم الإعلان عن تشكيل جبهة التحرير في صنعاء أيضا. ومما لا شك فيه أن مقاومة الاحتلال البريطاني قد شارك فيه العديد من اليمنيين غير المنتمين لهذين التنظيمين من العمال والكتاب والحرفين والموظفين والتجار. وما كان له أن ينجح لولا تركيزه على الهوية اليمنية بدلا من الهويات المناطقية أو الهوية الجنوبية المصطنعة.
ومن المؤكد أن الروابط بين مختلف مناطق اليمن في الشمال والجنوب ظلت قوية حتى في حال التشرذم. فقد كان الإنسان اليمني يتحرك بين مناطق الشمال ومناطق الجنوب والشرق بدون جوازات سفر وبحُرية كاملة. ولم تنجح محاولة الاستعمار البريطاني عرقلة ذلك من خلال إطلاق ما سمي بالجنسية العدنية. بل إن هذه المحاولة هي التي سرّعت في مقاومة الاستعمار البريطاني. ونتيجة لهذه الحُرية فإننا نجد العلاقات الأسرية القويّة بين العديد من الأسر اليمنية المنتشرة في كل مناطق اليمن، مثل: أسرة الأهدل والسقاف والنهاري والحضرمي والحداد، وغيرها.
لم يقتصر الأمر على هذه العلاقات الاجتماعية، بل امتد إلى المجالات الاقتصادية والسياسية. ففيما يخص المجالات الاقتصادية فقد مثلت عدن الرئة الاقتصادية لكل اليمن. فقد كانت البوابة الاقتصادية لليمن كله. فمنها كان يتم استيراد معظم ما تحتاج من سلع، ومنها كان يتم تصدير ما تنتجه اليمن. وفي الوقت نفسه فقد كانت تمثل المركز المالي لليمن كله. وكانت عدن بوابة اليمن بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. فمعظم اليمنيين كانوا يستخدمونها معبرا لهم. وكان من يريد أن يزور اليمن لا بد له من أن يعبر إليها من عدن.
وفيما يخص المجالات السياسية فقد اتخذ العديد من أبناء اليمن من عدن مقرا لهم، وخصوصا الذين كانوا يعارضون الحكم الإمامي في الشمال. وحتى في حال التشرذم فقد كان يلجأ اليمنيون المطرودون من مناطقهم إلى المناطق الأخرى ويعاملون كمواطنين أصليين. وبشكل عام فقد كانت التطورات السياسية التي تحدث في أي منطقة في اليمن شماله وجنوبه تأثر على كل مناطقه مهما كانت بعيدة أو تعتقد أنها غير معنية بذلك.
فاحتلال اليمن من قبل الدولة العثمانية لم يقتصر فقط على المحافظات الشمالية، بل امتد ليشمل المحافظات الجنوبية. فاحتلال بريطانيا للمحافظات الجنوبية لم يقتصر عليها بل امتد ليشمل المحافظات الشمالية، مثل: مينا الحديدة وجزيرة كمران وغيرها من الجزر. وقامت بريطانيا بقصف العديد من المدن والقرى في المحافظات الشمالية في أوقات مختلفة. وبالمثل فإن من يحكم اليمن الشمالي يحاول باستمرار مد نفوذه إلى المحافظات الجنوبية والشرقية. وعندما كانت تحدث انتفاضة أو ثورة في منطقة من اليمن فلا تقتصر المشاركة فيها على أبناء هذه المناطق بل يشاركهم أبناء المناطق الأخرى. وما ثورة الفقيه سيعد علي الإمام إلا خير شاهد على ذلك.
وقد استمرت هذه الروابط حتى بعد انسحاب بريطانيا من عدن و توحيد جميع مناطق المحافظات الجنوبية تحت إطار سياسي واحد. وعلى الرغم من إعلان هذا الكيان دولة مستقلة إلا أنه لم يتنكر للهوية اليمنية لهذه الدولة. فقد أطلق على هذه الدولة اسم جمهورية اليمن الجنوبية. وعلى الرغم من هذه التسمية فإن العديد من أعضاء الجبهة القومية الشماليين والجنوبيين لم يكونوا راضين عن هذه التسمية إلى درجة قيامهم بانقلاب في عام 1969، وتحويلهم اسم الدولة إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وكما هو معروف فإن الجبهة القومية هي التي انفردت بالسلطة في هذه الدولة الجديدة. ولقد ترتب على ذلك فرار أعضاء جبهة التحرير المنافسة إلى الشمال. وفي الوقت نفسه فإن الجبهة القومية لم تكن شطرية بل كان لها أعضاء من كل اليمن.
وقد تجلى هذا الترابط بشكله الايجابي والسلبي خلال مرحلة ما بعد استقلال وقبل الوحدة. فمن ناحية، فإن العديد من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية شاركوا في الدفاع عن صنعاء خلال حرب السبعين يوما. وفي الوقت نفسه فقد كان لأنصار الجبهة القومية في الشمال دور كبير في ما أطلق عليه أحداث أغسطس 1970، عند ما حالوا الاستيلاء على السلطة في الشمال، وقد كان لأنصار جبهة التحرير الجنوبيين دور بارز في إفشال هذا الانقلاب. وعلى الرغم من فشل ذلك فقد عملت حكومة الجنوب على تسليح وتدريب وتمويل المعارضين في الشمال مما تسبب في القيام بالعديد من الاغتيالات السياسية نالت بعض أعضاء المجلس الجمهوري أعلا هيئة سياسية فيه.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد خاض الشطران حربا حدودية في عام 1972. ولم تتوقف هذه الحرب إلا بعد أن تم الاتفاق على إعادة الوحدة بين الشطرين، والتي وقعت في طرابلس الغرب. وعلى الرغم من أن لجان الوحدة قد تباطأت في انجاز المهام المطلوبة منها، فإن الحنين إلى الوحدة لم يضعف. فقد ترتب على سعي الشطرين لتحقيق الوحدة كل حسب تصوراته وشروطه إلى اغتيال ثلاثة رؤساء خلال فترة تقل عن السنة.
فقد تم اغتيال الرئيس الحمدي في 11 من أكتوبر عام 1977، وفي 24 يوليو عام 1978 تم اغتيال الرئيس أحمد الغشمي، وبعد ذلك بيومين فقط تم إعدام الرئيس سالم ربيع علي. ولا شك أنه كانت هناك علاقة قويّة بين اغتيال هؤلاء وبين مساعي تحقيق الوحدة. ولا شك أن هذه العلاقة تبيّن مدى تأثر الأوضاع السياسية في ربوع اليمن بما قد يجري من تطورات في أي جزء من أجزائه. وعلى هذا الأساس فإن الانفصال لا يمكن أن يؤدي إلى استقرار أي جزء من أجزاء اليمن.
والدليل على ذلك: أن هذه الأحداث لم تؤدِ إلى استقرار الأوضاع في الشطرين. فقد قامت حرب بينهما في مارس من عام 1979، أي بعد وقت قصير جدا من أحداث الاغتيالات السياسية سالفة الذكر. وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وعودة القوات المتقاتلة إلى مواقعها السابقة، فإن ذلك كان مشروطا بمواصلة الجهود لإعادة الوحدة. وقد تمكنت الوساطات العربية من جمع رئيسي الشطرين في الكويت، واتفاقهما على إعادة الوحدة خلال مُدة أقصاها أربعة أشهر، فإن شيئا من ذلك لم يحدث.
وبدلا عن ذلك فقد عملت الحكومة في الجنوب على إشعال صراع مسلح بين الحكومة في الشمال وأنصار حكومة الجنوب، فيما أطلق عليه "الجبهة الوطنية" في الجنوب و"أعمال التخريب" في الشمال. وعلى الرغم من تحسن العلاقة بين الشطرين بعد إزاحة الرئيس عبد الفتاح إسماعيل من السلطة، وحلول علي ناصر محمد محله، فإن نشاطات الجبهة الوطنية في الشمال لم تتوقف إلا بعد خوض الجانبين صراعا مريرا.
وعلى الرغم من تحسن العلاقة بين الشطرين بعد الاتفاق الذي تم بين السلطة في الشمال والجبهة الوطنية في عام 1982، إلا أن هذه العلاقات ما لبثت أن عادت إلى التوتر من جديد بعد أحداث يناير 1986، في الشطر الجنوبي. فقد أثبت هذه الأحداث أن العلاقات المناطقية ما زالت لها سطوة كبرى على الرغم من الشعارات الثورية الأممية والتحديثية. فقد تقاتلت الأجنحة المتصارعة داخل الحزب الاشتراكي على السلطة ولكن هذا التصارع أخذ جانبا مناطقيا أكثر منه سياسيا أو أيديولوجيا. وقد انتهى هذا الصراع بعد أن أحدث دمارا كبيرا في البنية التحتية، وخسائره كبيرة في الأرواح، وعدد كبير في المعتقلات. والأخطر من ذلك كله فقد انتهى بحدوث شرخ نفسي على أساس مناطقي. ونتيجة لذلك فقد فرت أعداد كبيرة من أبناء بعض المناطق الجنوبية إلى المحافظات الشمالية.
وينبغي أن نلاحظ هنا أن هذه الأعداد لم تلق استقبالا أو قبولا من أية دولة مجاورة، مثل: إثيوبية أو دول الخليج. ولذلك فقد كان ملجأها الوحيد هو الشطر الشمالي من الوطن. ولا شك أن ذلك لم يكن كرما من السلطات في هذه المحافظات، وإنما دليل على كون الشطرين شعبا واحدا لا يمكن أن تفرق بينه الخلافات السياسية أو الايدولوجيا المتناحرة.
وعلى هذا الأساس، فإن وحدة اليمن في عام 1990، لم تكن منحة من أي شخص ولا عملا من أي حزب، بل كانت نتيجة عن ظروف موضوعية حاولت العديد من الأطراف الالتفاف عليها منذ الاستقلال. في هذا الوقت بالذات انهزمت المحاولات الالتوائية وانتصرت الظروف الموضوعية.
إن محاولة البعض إحياء هذه المحاولات الالتوائية من جديد سوف لن تنجح؛ لأن الظروف الموضوعية في الوقت الحاضر قد أصبحت أقوى مما كانت عليه في عام 1990، أو حتى في عام 1994. فالذي حقق الوحدة هو عدم قدرة الأنظمة الشطرية السابقة على البقاء وهو الأمر الذي سيعمل على حمايتها. فلن تكون هناك أية فرصة نجاح لأي محاولة تشطيرية من أي نوع كان.
وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن من يحاول أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء سيفشل وسيعمل فقط على الإساة إلى نفسه وإلى وطنه. ومن ثم فإنه لا خوف من ذلك. وفي الوقت نفسه فإن من يحاول أن يبرر فشله في إقامة الدولة العادلة بالعقبات التي ما زالت تفق في طريق الوحدة عليه أن يدرك ألاّ أحد يصدق ذلك.
إن على الجميع أن يتجهوا إلى بناء الدولة العادلة. ومن أجل ذلك فإنه لا بُد من التخلي عن أحلام الانفصال وأحلام المركزية. لا بُد أن يرتكز بناء الدولة العادلة في اليمن على محاربة التشرذم والمركزية. فاليمن لا يمكن أن تتجزأ من جديد وفي الوقت نفسه، فإنه لا يمكن المحافظة على المركزية الحادة الحالية. ذلك هي كلمة الحق التي ينبغي على كل اليمنيين أن يقولها وأن يعملوا على تحقيقها مهما تطلّب ذلك من تضحيّات. أما التهرب من ذلك سواء إلى الانفصال أم إلى مزيد من المركزية، هو دعوى الباطل التي ينبغي على جميع اليمنيين التصدي لها مهما كانت المغريات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.