- قبل السادس والعشرين من سبتمبر ، لم تكن اليمن شيئاً مذكوراً ، ليس فيها إلاّ الإمام بنظامه الكهنوتي، والسلطات التشريعية ، والتنفيذية، والقضائية ، مختزلة بذاته ،التي أضفى عليها هالة من القداسة والتبجيل ، لمجرد انتمائه الأسري والسلالي، أما اليمنيون فقد قسمهم إلى سادة وقضاة ومشائخ ورعاع أو رعية ، وطبقات أخرى، رسخ في أذهانهم ، وأذهان من حوله، أنّ اللّه ما خلقهم إلاّ لكي يخدموه، ومن معه، ولاحظ لهم في أي تطلع ، أو طموح يخرجهم من دائرة العذاب والاستعباد التي يدورون فيها. - والذين عرفوا ذلك الكهنوت عن كثب أو قرأوا عنه ، أو سمعوا من آبائهم وأجدادهم، يدركون الفارق الكبير، الذي انتقلت إليه اليمن بعد الثورة ، ،، لدرجة أن الأحرار والثوار ، بحسب روايات بعضهم ، احتاروا بعد الثورة في اختيار وترتيب أهدافها، مؤكدين أنها لم تكن متبلورة في أذهانهم، بشكلها المعروف حالياً ، وإنما كان هدفهم الوحيد هو القضاء على جرثومة الإمامة ، وفيروس الطغيان الذي يتمدد في بنية المجتمع ، وأوساط الناس بادعاء أحقيته الإلهية في الحكم واستعباد البشر، ومن يقرأ أهداف الثورة من جيل اليوم، قد لا يرى فيها مايستحق النضال والكفاح من أجله !! لماذا؟لأنها صارت متوافرة ، وولد ويعيش في مناخاتها وبين منجزاتها، ولم يتسن له العيش في عهد الإمامة ، ليقيس الفارق الكبير، والرصيد الهائل الذي حققته الثورة بعد أن استقرت ، واستطاعت السيطرة على حدود اليمن ، ومقدراته ، منذ أقل من ثلاثة عقود من الزمن. - صحيح أن هناك سلبيات في معظم المؤسسات الحالية ، وفوارق اقتصادية بين الناس، إلاّ أنها معروفة ، وتسعى الدولة للقضاء عليها، بما وسعها من جهد وإمكانات ، ولايوجد من يبرر لها ، أو يعتبر أنها من الأمور الحتمية ، التي كفلها الشارع عز وجل لحفنة من البشر ، وإنما هو تفاوت ، خاضع لجهد الناس، ومدى قدرتهم على الاستفادة من الأوضاع الاقتصادية ، في تنمية مواردهم ، وتطوير معيشتهم. هذا في الجانب الاقتصادي ، إلاّ أن النقلة كانت واسعة ومذهلة ، في الجانب الثقافي ، ويكفي أن ندلل على ذلك بالطفرة التعليمية التي شهدتها اليمن، وتوجه الدولة نحو المؤسساتية (تشريعياً ، وتنفيذياً ، وقضائياً) ، بعد أن كانت مختزلة في شخص الإمام. - إن الذين ينتقصون اليوم من حجم ما تحقق ، ويحاولون تصغيره ، أو تحقيره ، لا يخرجون عن فئتين ، الأولى تفعل ذلك عن جهل وعدم معرفة وإدراك ، لصغر سنهم ، وضحالة معرفتهم بالماضي ، وهؤلاء معذورون ، والوزر الأكبريتحمله الجهات المعنية بكتابة التاريخ اليمني ، فهي لم تتقدم خطوة نحو الأمام، رغم توفر الإمكانات ، ولسنا مخولين للبحث عن دوافعهم في هذا التقصير ، إلا أننا نحملهم جزءً كبيراً من جهل جيلنا الحالي بثورته.. أما الفئة الثانية فهم الذين أضرت بهم الثورة ، وفقدوا بسببها مميزاتهم ، التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ومنهم حاقدون ، ومنتفعون ، استغلوا الأجواء الديمقراطية التي تحققت لليمن بعد إعادة الوحدة المباركة ، وما انفكوا يشوهون كل المنجزات ، التي صارت واقعاً على الأرض، وحقائق ملموسة ، مستغلين جهل الصنف الأول ، وعدم جدية المعنيين في كتابة التاريخ اليمني ليبثوا أراجيفهم بين الناس ، ومعهم آلات إعلامية ، ممولة من جهات مشبوهة ، تكره الديمقراطية ، وتحقد على الثورة والوحدة التي أعادت اليمنيين إلى إنسانيتهم وآدميتهم ، بعد أن افتقدوها أيام الإمام . - لسنا نملاً أو نحلاً ، حتى نكرس حياتنا كلها للطعام والشراب على حساب حرية العقل والوجدان ، وإذا كانت الرفاهية من المطالب الضرورية التي يفترض أن نسعى إليها ، فلا يكون تحقيقها إلا بالعلم ، والوعي ، وتنمية الإنسان بحقوقه وواجباته .. مع التأكيد أنه لايوجد يمني مات من الجوع ، أو جعلته الفاقة يتخلى عن مبادئه وأخلاقه، كما هو حال كثيرين في دول أخرى أكثر نمواً وازدهاراً ، وذلك لقيم التكافل التي تحكم أبناء اليمن على مر العصور . - وباستقراء الواقع الانتخابي الحالي بمشاهده الانفعالية ، لن يجد المتابع أية صعوبة في انتزاع الشواهد على ماذهبنا إليه ، وربما يبرر البعض ذلك بأنه يجوز في الانتخابات مالايجوز في غيرها ؟!.. وذلك عذر أقبح من ذنب ، خصوصاً ممن كنا نحسبهم حريصين على ما تبقى لهم من عفة في اللسان ، بعدما انتهك الطمع أياديهم ، التي كنا نحسبها عفيفة عن المال الحرام. - فالنظام الكهنوتي الإمامي ، المستبد ، الذي يحاولون إسقاط واقعنا عليه ، لم يكن ليسمح لأحد منهم بتنظيف نفسه من الأوساخ والقاذورات ، حتى لا يقال : إنه يتشبه بالإمام ، بَلْهَ أن يسمح لمواطن من عامة الناس ، لترشيح نفسه على مستوى الحكم المحلي، وستنقلب القيامة ، لو أعلن رغبته في حكم اليمن . - يكفي الثورة والوحدة اليمنية أنها جعلت مواطنين بسطاء من أواسط الناس ولا يتكئون على نسبهم السلالي أو المشيخي يحلمون ، بل ويتقدمون ، للترشح لرئاسة الجمهورية، وساوت بينهم في الحقوق والواجبات ، لا فرق بين مواطن اسمه علي أو ياسين أو فيصل أو أحمد أو فتحي ، كلهم سواسية أمام الناخب وصندوق الاقتراع ، ولو لم يكن للثورة والوحدة من إنجاز غير ذلك لكفى. - بل إن التعصب الإمامي يطال حتى الأسماء ، فقد سمعت أحد المتعصبين للكهنوت الإمامي يسخر ذات مرة من قاضٍ لم يعجبه اسمه (...) مترحماً على الإمام ،لأنه لم يكن ليسمح بهذه المهزلة ،التي تجعل من سمير ، أو فتحي ، أو عصام ، أو هزاع ، أو دبوان ، وزيراً أو قاضياً .... ولم يفطن ذلك المتعصب أنه بقوله قد فضح نظام الإمام ، وأعطانا تبريراً جديداً لكراهيته. * رئيس مجلس ادارة مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر