لا يمر عام دون أن نسمع أن عاصمة غربية أو أكثر تحتفي ب"ملكة سبأ"، فيما الصحف تنغمس بثمالة السرد لشيء من ذلك التاريخ.. صاحبة الجلالة البريطانية الملكة إليزابيث رغم تقادم عمرها ما زالت تتباهى بذلك الرأس البرونزي الذي أهداه لأسرتها الإمام يحيى بن حميد الدين أوائل القرن العشرين.. ولم تترك معرضاً أو متحفاً جوالاً إلاّ وقصدته للتباهي بالرأس البرونزي، وليس من سبب يدعوها لذلك سوى أنه لأحد ملوك "حميَر" في اليمن.. سعادة السفير الألماني بصنعاء "ماركوس مان" اعتاد كلما التقى الصحفيين أن يفاضل ألمانيا على بقية دول أوروبا بأن كان لها شرف الوصول إلى اليمن والتنقيب عن آثارها قبل حتى أن يعرف الأوربيون أين تقع اليمن.. وغالبا ما تجده منشرحاً وهو يتحدث عن اكتشافات وإنجازات البعثات الأثرية الألمانية.. بل وحتى عن المصور الألماني الذي التقط أول صور فوتوغرافية لليمن عبر تاريخها.. وفي فرنسا لا ينقطع ذكر اليمن، وكذلك هو الحال في كندا وأمريكا الذين يستمتعون بأفلام المخرجة المتألقة خديجة السلامي وهي تجسد حياة وقضية شعب.. فيما ظلت الصحف الماليزية تفاخر أن تقاليد الأعراس السائدة لدى شعبها هي تقاليد يمنية، ثم تنغمس في التعريف برموزها المنحدرين من أصول يمنية.. لا أطيل عليكم فلليمن في كل بلد في العالم قصة، وذكر مصحوب بالدهشة والانبهار بهذا الصرح التاريخي .. في اليمن فقط ليس هناك من يحتفي بالتاريخ، أو يتباهى بموروث الحضارة القديمة.. وإذا ما تجرأ أحد على الحديث فإن الأمر لن يتعدى دعوات خاصة لنخب تتكرر صورها في كل زمان ومكان.. وفي صالة صغيرة تتقطع فيها الأنفاس- وكل من حضر إليها يعرف مسبقاً بكل ما سيقال أو ربما أكثر من ذلك، لأنهم متخصصون.. تذكرني الطريقة التي يحتفي بها اليمنيون بالتاريخ بمشهد للنجم الكوميدي عادل إمام، يستغرب فيه كيف "ناس عندهم لحمه يروحوا لناس عندهم لحمه عشان يأكلوا لحمه"..! فقد جرت العادة لدينا أن تقيم جهة مختصة فعالية تعريفية بالتاريخ فتدعو المؤرخين الذين كتبوه ليستمعوا إلى ما كتبت أقلامهم! الأمر ليس قاصر على التاريخ بل أن السياحة التي ندرجها ضمن رهاناتنا التنموية يروج لها المعنيون في الصحف الرسمية بقصد إغراء السائح الأجنبي الذي هو أصلاً لا يجيد قراءة هذه الصحف، ولا تصله أيضاً.. والطريف أن لدى الترويج السياحي مطبوعات سياحية مختلفة - مدفوع ثمنها بالعملة الصعبة، ومضاف إليه تكاليف إيفاد مبعوثين- لكنها توزع على الوفود (النخب) الذين غالباً ما يتركوها على كراسيهم عند المغادرة، بينما كثير من اليمنيين لا يعرف شيئاً عن المعالم السياحية في بلدهم.. رغم أن هناك إجماع شعبي على معرفة سد مأرب، وتلك الأعمدة الستة التي يرونها دائماً دون أن يعلموا أنها بقايا معبد "آوام". من خلال تجربتي مع الإنترنت تعلمت شيئاً مهماً جداً وهو أنني عندما أحتاج لصورة عن منطقة يمنية أو معلم تاريخي أو سياحي يمني أن لا أستخدم خدمة (جوجل) العربية لأنني لن أجد شيئاً، بل استخدم الخدمة الإنجليزية لأن الأجانب كانوا أحرص منا على توثيق كل شيء، وعمل المواقع المتخصصة التي تظهر جزئيات الحياة اليمنية.. وبوسعكم التجربة لملاحظة الفرق! بالتأكيد لسنا شعب متخلف لا يجيد عمل أي شيء، بل على العكس، الشعب اليمني من أكثر الشعوب قدرة على العمل.. لكن ما يعيقه هو أن الجهات المسئولة لا تقدر مواهبه، وأيضاً تبخسها إلى أبعد الحدود.. فلو تقدم الزميل الفنان الفوتوغرافي عبد الولي الطوقي بالصور التي التقطها لليمن – وعددها بالآلاف- لا أتوقع أن أحداً سيهتم بها، وربما سيوجه وزير السياحة بصرف خمسة آلاف ريال له مقابلها - من باب دفع البلاء- لكن لو تقدم أجنبي بقسم من نفس الصور لخرج بآلاف الدولارات.. لمجرد أن هناك اعتقاد أن الطوقي بوسعه تناول "الكدم" بينما ذلك الأجنبي يجب أن يتناول "البيتزا"! لا أدري كيف لبلد يراهن على السياحة في زمن ثورة المعلومات وليس لديه حتى اليوم موقع الكتروني واحد يقدم من خلاله "بضاعته" السياحية!! ولا أدري كيف لبلد يفاخر بتاريخه وحضارته وما زال هذا التاريخ أما غير موثق، أو يناقش في فعاليات تكاد تكون شبه جلسات خاصة، لا يُدعى لها إلاّ "الذين آمنوا وعملوا الصالحات".. وهؤلاء كما المبشرين بالجنة- من حيث العدد- تجدهم في محافل الأدب، والإعلام، والسياسة، والصناعة، والتجارة، وحتى في الحفل الذي أقامته الفنانة المتعرية "مريام فارس" كانوا وحدهم الحاضرون، فيما خزينة الدولة هي التي دفعت الأجر، وستدفع غداً أجرة الفنانة "ديانا حداد" التي ستصل صنعاء في العشرين من ديسمبر، لكن هذه الخزنة لن تفتح لمن يريد طباعة كتاب تاريخي، أو إنجاز عمل إبداعي إلاّ بشرط واحد: وهو أن يكون المستفيد غير يمني !! هناك احتكار لكل شيء.. حتى للتفكير.. ولمهارة توثيق التاريخ اليمني التي أنيطت بلجنة محددة من "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" الذين يصلحون لعمل كل شيء، ولأي مناسبة كانت.. لذلك لم يوثق التاريخ، ولا التراث، ولا شيء مما تأمله المعنيون – باستثناء صرفيات اللجنة هي الموثقة في كشوف مالية.. ألم يتبادر لذهن أحدنا السؤال: لماذا الصحف الرسمية وحدها من يمر على مفردات التاريخ بينما جميع الصحف الورقية والالكترونية الأخرى لا تعرف شيء اسمه تاريخ يمني!؟ أليس معنى هذا أن التوعية التاريخية لم تصل للنخب الإعلامية المناط بها قيادة الوعي الشعبي!؟ ثم أليس هذا هو ما يفسر الشطحات الثقافية التي تقفز فوق قيم الولاء الوطني..!؟ نحن اليوم مدعوون إلى إعادة النظر بكل شيء.. بطريقتنا للترويج لتاريخنا وسياحتنا، وبطريقتنا لاختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، وحتى بالطريقة التي نختار بها مستشارينا.. فأعظم الفساد هو فساد الرأي، وأفسد الآراء هي تلك التي سبق أن اشتريت ذمم أقلامها بالملايين..! همسة: غياب ملفات الفساد عن وسائل الإعلام الوطنية – سلطة ومعارضة- تعني أحد أمرين: أما لا يوجد فساد بالأصل فلا يوجد ما يستحق النشر، أو أن الإعلام نفسه فاسد ويفضل التستر على الفساد..