تستقطب مدينة عدن هذه الأيام اهتماما كبيرا بفعل الأحداث التي تشهدها معظم مديرياتها والتي باتت تؤرق المواطنين والنظام على حد سواء. فهذه المدينة لم تعرف الهدوء عبر تأريخها وقد كانت مسرحا لأحداث تاريخية انتفضت خلالها في وجه الاستعمار والشمولية، وهاهي تنتفض الآن في وجه الظلم والفساد كما يطرح أبناؤها. عدن التي يطلق عليها ثغر اليمن الباسم لم تعد الآن كذلك، ويبدو وجهها هذه الأيام حزينا يشكو الفوضى والخراب وترتسم فيه تجاعيد الخوف والعنف، حتى معالم الاحتفال والبهجة ومظاهر الهدوء والجمال التي ظهرت بها ايام خليجي 20 اختفت وتوارت ليحل مكانها الدمار والخوف والإطارات المشتعلة وأصوات الرصاص والغاز المسيل للدموع، وأصوات تتزايد مطالبة بإسقاط النظام ورحيل الفاسدين. محاكاة ولكن في اتجاه آخر مثل سقوط نظام رئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك على ايدي شباب مصر الغاضب حماسا كبيرا لدى الشباب في كثير من البلدان العربية كي تنتفض في وجه أنظمتها وتحول الشعار الذي أطلقه التونسيون "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى شعار يتردد في أكثر من دولة عربية دون تفريق بين خصوصيات الدول وأنظمتها الحاكمة. في عدن .. أغرى هذا الشعار الكثير من شباب المدينة فاندفع إلى الشارع محاكيا النموذج التونسي والمصري في ترديد الشعار لكنه خالفه وذهب في اتجاه مضاد في تعامله مع الممتلكات العامة والخاصة، فالشباب هناك متحمس لكنه لا يجيد المحافظة على اتزانه وسلمية احتجاجاته المطلبية وسرعان ما ينزلق ويتحول إلى قطعان هائجة لا تفرق بين حق عام وممتلكات خاصة ومظاهر عامة. ومنذ نشأة ما يسمى بالحراك الجنوبي كانت عدن ساحة ساخنة لمظاهرات واعتصامات عدة، وكان شعار المطالبة بفك الارتباط والانفصال الشعار الأبرز الذي يرفعه المتظاهرون ويغذيه الحراك الجنوبي .. اما الآن فهناك تحول واضح في المظاهرات الأخيرة التي تخلو تماما من النزعات الانفصالية والأعلام التشطيرية والهتافات المناطقية أو الحزبية، فالمتظاهرون يرفعون اللافتات المنددة بالفساد والمطالبة بتحسين الخدمات وإسقاط النظام واطلاق المعتقلين. ويبدو واضحا في طوابير المظاهرات اليومية ان الشباب من سن الثامنة حتى الأربعين هم المحرك والمكون لها وغالبيتهم من مايسمى بجيل الوحدة، فخلال ساعات الصباح حتى منتصف النهار تبدو شوارع المدينة وأزقتها هادئة وساكنة، ولا تكاد تغرب الشمس حتى يتقاطر الشباب ويتجمعون ويتحولون إلى حشد جماهيري يتجول من شارع إلى اخر مرددا الهتافات المختلفة ولا يستطيع احد إيقافه سوى صفير سيارات الامن التي عادة ما تصل متأخرة. ومثلما ينتظر الشباب منتصف النهار ليخرجوا إلى الشارع ويمارسوا لعبتهم اليومية يكون المواطنون وأصحاب المحال التجارية على موعد مع القلق والخوف فيتساءلون منذ الصباح هل ستكون هناك مظاهرة ام لا؟ وعند بداية تشكلها وتحركها يضطر الكثيرون إلى اغلاق محلاتهم والعودة إلى المنازل تخوفا من اعمال نهب وسلب قد تطالهم بعد ان طالت غيرهم. الحضور اللافت للشباب والموعد المنتظم للخروج يعكس حقيقة الأوضاع التي يعيشها هؤلاء الشباب، فغالبيتهم من خريجي الجامعات والعاطلين عن العمل وليس لديهم القدرة على شراء القات حتى يسكنوا في مجالسه، كما لا يملكون عملا ينشغلون به فيندفعون نحو الشارع حيث تبدأ سجالات الكر والفر مع أفراد الأمن. لماذا مديرية المنصورة؟ مناطق عدة في عدن تشهد مظاهرات وأعمال احتجاجية للشباب .. لكن مديرية المنصورة وحدها تمثل الآن بؤرة الاحتقان وساحة المواجهة الأولى.. فلماذا هذه المديرية بالذات؟ تعد مديرية المنصورة من أهم المديريات داخل محافظة عدن فهي ذات كثافة سكانية مرتفعة واحياء سكنية مزدحمة ويقطن فيها مواطنون من الفئة الوسطى والفقيرة وتتواجد فيها منشآت حكومية هامة كسجن المنصورة والمؤسسة العامة للكتاب المدرسي ومصنع الغزل والنسيج، وفندق القصر السياحي الذي افتتحه الرئيس قبيل خليجي 20 ويقال بأنه يتبع نجله احمد ويعد واحدا من ارقى الفنادق بالشرق الاوسط، كما تعد ايضا الدائرة الانتخابية لمحافظ عدن الحالي عدنان الجفري. وثمة أسباب أخرى تجعل هذه المديرية بركانا ثائرا أكثر من غيرها إذ يسكن فيها مجموعة كبيرة من الأسر والعائلات المنحدرة من مناطق الضالع وابين ويافع وهي المناطق المشهورة بتمردها الدائم وإضمارها الحقد والكراهية للنظام الحاكم في صنعاء وإليها ينتمي معظم قيادات الحراك الجنوبي. هذه الأسر ربما استغلت الفعاليات الاحتجاجية المندلعة في اكثر من محافظة فعملت على تحريك المظاهرات الغاضبة مستغلة توجه الأنظار نحو اليمن بعد مصر ومستفيدة من ابنائها المغتربين في دول الخليج وكندا واروربا واستراليا وهو ما يتضح في مشاركة العديد من المغتربين في قناتي الجزيرة مباشر وعدن والذين يطالبون بإستمرار في تحرير الجنوب وإنقاذ اهله. البداية والأسباب في المنصورة.. ستجد ببساطة طفلا لا يتجاوز السابعة يصنع من الطين احجارا ويضعها في خط مستقيم في احد الشوارع باستمتاع واضح في ملامحه وكأنه يحاول منع السيارات من العبور، وقد يكون التصرف بريئاً لكنه يعكس محاكاة الطفل لما يدور حوله من أحداث وتصرفات يومية. وعند الرجوع لبداية المظاهرات الاحتجاجية للشباب واسبابها في المنصورة فقد اندلعت مطلع الأسبوع الفائت بعد قيام الأمن باعتقال احد الشباب من منزله ورفض أي وساطة لإطلاقه مادفع الشباب إلى التجمع بشكل يومي للتنديد بالاعتقال وظل الامن متحفظا على الشاب، وفي المقابل تزايد عدد الشباب المحتجين يوما حتى تحولوا إلى حشد كبير يخرج يوميا إلى الشارع مصعدا من مطالبه ونظرا لقيام اجهزة الأمن بقمع المتظاهرين وإطلاق الرصاص والغاز المسيل للدموع في وجوههم فقد ادى هذا إلى تمسك الشباب بالمظاهرات والإصرار على الخروج تحديا للأجهزة الأمنية خصوصا بعد سقوط قتلى وجرحى منهم. وهناك اسباب اخرى للخروج والتظاهر وتبدو واقعية لدى المواطنين هناك وتتمثل في ثلاثة أسباب الأول في طريقة تعامل رجال الامن مع المتظاهرين إذ يتم التعامل معهم – كما يقول احد المتظاهرين- بعنف سواء مع من يتم اعتقالهم من الشارع أثناء التظاهر او من يتم رصدهم من قبل عناصر أمنية بلباس مدني ومندسة وسط المتظاهرين ومن ثم اعتقالهم بشكل فردي من منازلهم حيث يتعرضون للضرب والإحتجاز او إطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع بشكل عشوائي على المتظاهرين في مداخل الحارات ما يؤدي إلى انتشار الغاز وتسربه إلى المساكن المطلة على الشوارع، واكد مواطنون للناس ان منازلهم امتلأت بالغاز المسيل للدموع اكثر من مرة معتبرين وضعا كهذا يعد سببا كافيا للتذمر واستياء الشباب. السلطة المحلية وتصرفاتها تجاه المواطنين هناك سبب ثاني لترويع وانتشار حالة من الاستياء والسخط في أوساط الشباب عبروا عنها في الاحتجاجات المستمرة، ففي يوم الأربعاء- على سبيل المثال- هطلت أمطار غزيرة في المنصورة بالصباح الباكر وامتلأت الشوارع ومداخل الحارات بالمياه، وقامت البلدية بإخراج سيارات شفط المياه لكن أفرادها بدأوا بشفط المياه من أبواب المحال التجارية أولاً الأمر الذي أغضب المواطنين الذين رأوا في هذا التصرف اهمالاً كبيراً لهم، إذ كان المفترض- حسب رأيهم- أن يتم أولاً شفط المياه من أمام منازلهم وليس من أمام المحلات التجارية التي يدفع أصحابها مبالغ لعمال البلدية مقابل شفط المياه –كما يقولون- وكان هذا التصرف سبباً مباشراً للانتفاضة ضد المجلس المحلي عصر نفس اليوم الأربعاء وانتهت بإحراق مقر البلدية بالمنصورة. وهناك أسباب أخرى تتمثل بمهام السلطة المحلية تساهم في توسيع المظاهرات ورفدها بمتظاهرين جدد وتتمثل في عدم الاستجابة لكثير من المطالب الحقوقية والوظيفية التي يتقدم بها موظفون وتقابل بالإهمال والوعود الكاذبة.. يقول أحد المتظاهرين رافضاَ الإدلاء باسمه أو تصويره أنه يعمل في المؤسسة العامة للأثاث المدرسي بعدن وأنه والعشرات من زملائه يشكون تأخير مستحقاتهم وعدم تحسين اوضاعهم وعدم تثبيت المتعاقدين مع المؤسسة رغم أن بعضهم يعمل منذ عشر سنوات. يقول وهو يومئ بيده إلى عمارتين متجاورتين " تلك العمارتين ملك لمدير المؤسسة بينما تحن لا نستطيع استلام رواتبنا المستحقة نهاية كل شهر رغم ضآلتها.. أليس هذا ظلماً؟!" ويضيف : تقدمنا بشكاوى إلى المحافظ ووزير الخدمة المدنية والصحافة لكن دون جدوى". والسبب الثالث يتعلق بالواقع الذي يعيشه غالبية المواطنين هناك.. حيث أغلبهم يعاني أوضاعاً مادية سيئة وظروفاً معيشية متدهورة وتقطن غالبية الأسر خاصة القديمة منها في منازل تملكتها اثناء حكم الحزب الاشتراكي اليمني سابقاً، ورغم تكاثر عدد أفرادها لكنها لم تستطع الحصول على منازل جديدة فيتكدس في بعض المنازل ما يزيد على العشرة أفراد، ومعظم المساكن الحديثة في المنصورة يملكها تجار أو مغتربون من خارج المديرية. تبدو الأسباب السابقة واقعية وكافية للخروج والمطالبة بتحسين الخدمات وتوفيرها.. لكن لماذا يلجأ المتظاهرون إلى الخراب والدمار ونشر الفوضى. فوضى وخراب الزائر لمديرية المنصورة هذه الأيام سيجدها وكأنها تخوض حرب شوارع مفتوحة مع استعمار.. فالإطارات تشتعل في أكثر من مكان والأحجار تتناثر في معظم الشوارع ما أدى إلى إغلاق معظمها أمام المشاه والسيارات وتسبب ذلك في ارباك حركة السير وانتشار حالة من الذعر والخوف والقلق، ويقوم متظاهرون برشق السيارات بالحجارة وكسر زجاج بعضها لمجرد أنها تحاول الدخول إلى الأماكن التي أغلقها المتظاهرون، ويشعل البعض منهم النار في القمامة وبراميلها وإلقائها مشتعلة وسط الشارع ما يجعل غالبية المحلات التجارية تغلق أبوابها حتى عودة الهدوء ومن يعترض من أصحابها يكون النهب والتخريب مصيره وهو ما حصل فعلاً يوم الأربعاء في المنصورة عندما أقدم متظاهرون على كسر زجاج إحدى العمارات لاعتراض صاحبها على تلك التصرفات وما حدث أيضاً في خور مكسر حيث تعرضت فنادق للنهب في ساحل أبين وتوقفت جميع المحال المغلقة على الساحل بعد أن أغلق متظاهرون الشارع بإضرام النار فيه وتكسير اللوحات الإعلانية والقاء الأحجار وسط الخط. يقول أحد الشباب المشاركين أن إغلاق الشوارع يأتي لسد المنافذ أمام سيارات الأمن حتى لا تستطيع الوصول إلى المتظاهرين وتتعقبهم، لكن ما يشاهد على الأرض يبدو مناقضا تماما لإجابة هذا الشاب، وإلا ما مبرر اضرام النار في الاشجار الموجودة على أرصفة الشوارع ووسط الجولات ورشق السيارات بالحجارة وبث الذعر والخوف في أوساط من يعترضهم حتى من يرغبون بإلتقاط الصور أو الفيديو. هذه الأمثال والسلوكيات دفعت رجال الأمن إلى الرد السريع فيقومون بتفريق المتظاهرين الذين يردون برشقهم بالحجارة ويتبادل الجانبان الكر والفر ليسقط في النهاية ضحايا من المتظاهرين وينسحب الأمن تاركاً للمحتجين الشارع بما فيه. مشكلة رجال الأمن أنهم يحضرون إلى أماكن المتظاهرين في نهاية الأمر بعد أن يكون البعض منهم قد أفسد الشارع، ولجأت السلطات يوم الخميس إلى تعزيز العناصر الامنية بأفراد من القوات الجوية لاحتواء الموقف المتوتر وتفريق المتظاهرين بعد سقوط قتيل وجرحى وإحراق مبنى البلدية. ولعل هذه التصرفات هي ما يفسر سقوط قتلى وجرحى في عدن في أوساط المتظاهرين خلافاً لما يتعرض له المتظاهرون في تعزوصنعاء والذين لا يجنحون نحو إثارة الفوضى والخراب في الشارع العام وبين المواطنين. من يحرك الشارع؟ حتى يوم الخميس كانت احتجاجات ومظاهرات الشباب بالمنصورة خالية من الشعارات الانفصالية أو الحزبية ومحصورة في اسقاط النظام ورحيل الفساد وهنا يثار التساؤل من يحرك هؤلاء ويدفع بهم نحو الشارع؟ إذا كانت مظاهرات الشباب عفوية فمن يمول اللافتات التي يرفعونها وصور الشهداء التي يحملونها؟ والإجابة على هذا السؤال تبدو صعبة ومن المبكر تحديد الجهة الفعلية، لكن كشاهد عيان شوهدت سيارة هايلوكس موديل 2006م تحتفظ الصحيفة برقمها تجوب شوارع المنصورة وعليها أشخاص يوزعون على المتظاهرين صور قتيل الثلاثاء وتحثهم على ضرورة الخروج في نفس اليوم مرة أخرى. السيارة ذاتها لم يعترض أحد من المتظاهرين على دخولها أحياء المنصورة كبقية السيارات بل يتم إفساح الطريق لها وإزالة الأحجار من أمامها، والتساؤل هناك يثار في اكثر من لسان عن الجهة التي تقف خلف هؤلاء الشباب؟ هل يقف وراءها الحراك؟ ولماذا إذن يخفي شعاراته ومطالبه مثلما يفعل ببقية المظاهرات التي ينظمها؟ أم يقف وراءها أطراف بالسلطة خاصة وانه لا يوجد ما يسمى بالبلطجية في عدن؟ ام هي في الاساس جهود فردية. شكاوى المواطنين كشعور عام بات المواطنون يتخوفون أكثر من أي وقت مضى من الأحداث التي يرون أنها تتطور يوماً بعد أخر.. وتستطيع أن تلحظ ردود الفعل في أوساط الناس الذين انقسموا بين مستنكر لما يحدث بصمت خشية تعرضه لأذى وبين مؤيد لاستمرار التظاهر دون فوضى.. لكن الجميع يتعاظم الشعور لديهم بالقلق من النتائج التي تؤول إليها الأمور خاصة وهم يرون انهم غير قادرين على ممارسة حياتهم العادية. المواطنون يتمنون أن تتدخل الدولة بحزم لإيقاف أعمال التخريب والفوضى وتستجيب بنفس الوقت لمطالب المحتجين وتحمي المواطنين من شر العنف المتطاير قبل توسع دائرته، متسائلين بذات الوقت عن أسباب غياب الأمن اثناء إحراق المنشآت الحكومية وقطع الشوارع. المواطنون أيضاً يرون أن السلطة وحدها تتحمل المسئولية الكاملة عما يحدث الآن لأنها تخلت عن مسئوليتها في حماية المواطنين وتوفير فرص العيش الكريم لهم مما ضاعف البطالة ووسع دائرة الفقر وزاد من شكاوى الناس فاندفعوا نحو الشارع. غياب الإعلام لم تحظ الأحداث التي تشهدها عدن بشكل عام والمنصورة بشكل خاص بتغطية إعلامية كافية مثلما تحظى المظاهرات في صنعاءوتعز خصوصاً من الفضائيات المحلية والخارجية وغالبية المشاهد التي تبثها الفضائيات خاصة الجزيرة عبارة عن لقطات عبر الإنترنت، وتغيب بشكل كامل مشاهد المظاهرات اليومية وما يحدث خلالها من أعمال شغب وفوضى وتعتمد غالبية وسائل الإعلام الخارجية على مراسلين يتمركزون في العاصمة صنعاء وهو ما يجعل الصورة الكاملة لما يبدو في عدن غير مكتملة والحقيقة غير واضحة، ويجعل الأخبار الصادرة من هناك مستقاة من اشخاص او مصادر تسير دفة الأحداث وإيقاعها بالاتجاه الذي تريد.