لعقود قادمة من تاريخ الفكر الحضاري العالمي سوف تظل أفكار الدكتور إدوارد سعيد مثاراً للجدل والنقاش، متواكبة مع فضاءات متعددة في ثنائية التصادم بين العقل والتاريخ .. مسافات تعبر من خلال مصائر شعوب ومستقبل حضارات وبقدر ماتطرح من مبدأ للحوار التاريخي بين الثقافات بقدر ما تفرز من ثنائيات الخلاف والتصادم عندما يصبح الإنتاج المعرفي حقولاً للهيمنة وتسلطاً سياسياً يمارس القمع كأحد أشكال الهوية الحضارية. حول إحدى ركائز المعرفة لنوعية العلاقة بين الشرق والغرب في دائرة الإستشراق والأطر التي ترسم عليها تلك الرؤية يقول الدكتور إدوارد سعيد: (معروف أن الإستشراق، بوصفه نطاقاً من الفكر والخبرة، يشتمل على العديد من الأوجه المتداخلة: أولها تلك العلاقة التاريخية والثقافية المتغيرة بين أوروبا وآسيا التي ترجع في التاريخ إلى 400 عام، وثانيها، ذلك الفرع العلمي الذي بدأ في الغرب من أوائل القرن التاسع عشر، وراح يتخصص المرء على أساسه في دراسة الثقافات والتراثات الشرقية المختلفة، وثالثها، تلك الافتراضات الأيدلوجية، والصور والإستيهامات المتعلقة بمنطقة من العالم تدعى الشرق. والقاسم المشترك بين أوجه الإستشراق الثلاثة هذه هو ذلك الخط الذي لا يمثل كما سبق أن رأيت، واقعه من وقائع الطبيعة بقدر ما يمثل واقعه من نتاج البشر، كنت قد أسميتها بالجغرافيا التخيلية. وما يعنيه ذلك هو أن الانقسام بين الشرق والغرب ليس بالثابت الذي لا يتغير كما أنه ليس مجرد اختلاف أو تخييل. ما يعنيه يقيناً هو أن الشرق والغرب، شأن جميع الأوجه فما دعاه (فبكو) عالم الأمم، هما واقعتان من نتاج البشر، وبذا تتوجب دراستهما كعنصرين مكونين من عناصر العالم الاجتماعي، وليس العالم الاجتماعي يشتمل على الشخص أو الذات التي تضطلع بالدراسة فضلاً عن الموضوع أو الميدان المدروس، فلابد من إدراجهما كليهما في كل تناول للاستشراق. ومن الواضح كفاية أن الاستشراق ماكان ليوجد لولا وجود المستشرقين، من جهة أولى ووجود الشرقيين، من جهة ثانية). ثنائية التصادم بين العقل والتاريخ في جوهر الفكر الإستشراقي حالة يصنعها المطلب السياسي، فهذا الإنتاج الحضاري الذي يجب أن يكون الاهتداء في مسار التوحد لخلق مساحات تحاور بين الأمم يصبح عبر صناعة الجغرافيا التخيلية إعادة صياغة مغايرة لما هو قائم أصلاً في الواقع، وذلك ماتفرضه صناعة القرار السياسي التي تخرج العلم من توازن الحياد إلى تحالفات المصالح والهيمنة. أن المعرفة التي ينتجها التاريخ عبر العقل البشري، لا تقف عند مساحة محددة من الإدراك والتفكير. بل هي تتحول في مساراتها مع تصادم الحقب التاريخية، وفي هذا ما قد يفرز في مكوناتها طابع التوحش النفسي أو الفكري، وتحديداً عندما تجد حضارة نفسها وقد ارتفعت في درجات المعرفة بينما حضارات أخرى توقفت عند حدود الماضي، وأصبح الحاضر بالنسبة لها تلقياً يأتي من هناك، وهنا تظهر حالات الترفع والتسيد وتحويل المعرفة إلى وصاية جبرية على العقول المحصورة في زوايا الذاتية. الإستشراق هو من خلق هذا الوضع، فمساحة المتخيل في عقله تجاه الشرق لم تنفلت من عقال مشروع الهيمنة وإعادة التشكيل في هذا المكان، لذلك يجب أن توظف أساليب القراءة والرؤية حسب الغرض الهادف إلى جعل تدني هذه الشعوب ساحات تجارب لكل وسائل الصراع بين الشرق والغرب، وما يعزز هذا الانتماء في العقلية الغربية، غياب مشروعها القومي الذي يخلق هويتها في هذا الصراع. إن العقل المتخيل الإستشراق لهذا الوضع هو الآخر لا يتخذ من مسار منفرد آلية عمل على نفس الاتجاه، بل هو يتواكب مع تغير المراحل ، التي تصبح فواصل زمنية تعزز الفوارق بين الشرق والغرب حيث يدخل إنتاجها المعرفي في دائرة صعودها الحضاري وسطوة تاريخها على العالم، وهنا تكون الإنكسارة الكبرى في هذه الحالة، صعوداً للهيمنة من جانب وتقزيم من جانب آخر. ما يسعى إليه الدكتور إدوارد سعيد من خلال تصوره هذا، هو التعامل مع الحضارات في إطار مشروعها الإنساني والتواصل المعرفي، دون سيادة العقل السياسي الذي يحول الشعوب والحضارات إلى مربعات تتصارع فيها المصالح، والأفكار حيث يعاد تأسيس التصورات وإمكانية الفرد حسب الهدف الفكري لحضارة الغرب التي مازالت تسعى إلى جعل الشرق نسخة عن متخيلها ما شدد هذه الثنائية بين الغرب والشرق، وحالة الحصر هذه تولد ذلك النوع من حق رد الفعل، الدفاع عن الهوية وممارسة عملية الطرد لهذا الغربي القادم. وفي هذا الخندق الضيق من العلاقة حيث تصغر المساحة وتعظيم المواجهة، تفقد الثقافة روحانيتها الإنسانية وصدقها الحضاري لأنها تكون أداة قمع وقهر تاريخي. وفي رؤية أخرى يطرح إدوارد سعيد وجهة نظرة قائلاً: (وإذا ما كانت المجموعة الأولى من المسائل معنية بمشكلات الإستشراق إذ يعاد فيه النظر من زوايا قضايا محدودة وموضعية مثل: من الذي يدرس الشرق ويكتب عنه، وفي أية أوضاع مؤسساتية أو خطابية، ولأي جمهور، ولأي غايات متوخاة فإن المجموعة الثانية من المسائل تمضي بنا إلى دائرة من القضايا أوسع وأعرض. وهي قضايا تطرح بادئ ذي بدء من طرف المنهجية. وتعمق إلى حد بعيد بأسئلة كالسؤال: كيف لإنتاج المعرفة أن يخدم على أفضل وجه غايات جماعية لا غايات فئوية أو طائفية، وكيف يمكن إنتاج معرفة غير هيمنته أو قهرية في وضع محوط بسياسات القوة، واعتباراتها، ومواقفها، واستراتيجياتها. ولسوف المح عامداً، في هذه الضروب المنهجية والأخلاقية من إعادة النظر في الإستشراق، إلى قضايا مشابهة طرحتها تجارب نسوية أو دراسات النساء، والدراسات السوداء أو الأثنية، والدراسات الاشتراكية والمناهضة للإمبريالية، حيث تنطلق جميعاً من حق جماعات بشرية لم تمثل من قبل أو أسيء تمثيلها في أن تعبر عن نفسها وأن تمثل نفسها في ميادين جرى تحديدها، سياسياً وفكرياً، بحيث تعمل بصورة عادية على إقصائها، واغتصاب وظائفها الدلالية والتمثيلية وطمس واقعها التاريخي وباختصار فإن إعادة النظر في الإستشراق من هذا المنظور الواسع والتحرري لا يمكن أن ترضى بأقل من خلق موضوعات لنوع جديد من المعرفة. وفي جوهر العملية المعرفية، لا تقبل التحولات التاريخية في توقف آليات الإنتاج المعرفي عند حد رؤية الهيمنة السياسية، بقدر ما تسعى إلى ضرب حلقات حصار العقل وتجاوزها إلى مسافات أخرى في التاريخ الذي ينظر إليه كقوة إنتاج معرفي للحضارة والهوية، فالتنوع في المعارف يعد من العوامل المهمة في تغيير شكل العلاقة مع كل الأطراف وفي مختلف المجالات وخاصية هذا التنوع أن لا تجمد عقلية النظرة الإستشراقية عند نقطة الاتجاه المفروض، هنا تصبح المؤسسة المعرفية حالة من ضمن حالات متعددة تذهب في عملها إلى خلق كيانات جديدة تسعى هي الأخرى إلى وضع تصورات مغايرة. فالتصادم ينزاح عن مربع التحكم في قيادة المعرفة كسلطة تهيمن على ماينظر إليه كعقل يعيد تكرار ذاته ومفرغ من التسيد العلمي، وما يدرك من معارف هي حالة استعادة للماضي، عند هذا المستوى من التحول تنقطع الرؤية القاصرة التي جعلت من الشرق حالة تخيل أنتجها الفكر الإستشراقي ، الذي سعى لسنوات طويلة إلى جعل الشرق حالة لا تخرج عن هوية المتخيل. عندما يصبح إنتاج المعرفة مستوى من الخدمة الهادفة إلى التعامل مع الجماعة بعيدة عن انحياز الطائفة أو الفئة التي تمثل جانباً من هذا الإنتاج الحضاري، تكون العلاقة حواراً معرفياً قائماً على حق الآخر في قراءة مشهده الثقافي وإعادة إنتاج المعارف من المساحة التي يقف عليها، وكل توسع في هذه الموضوعية يقود إلى أوسع الآفاق المتوازنة في الاتصال الحضاري بين الأمم. إن ماتم تجاهله أو حصره سابقاً بفعل سياسة الهيمنة الحضارية من قبل الغرب على الشرق، لم يعد من الممكن إسقاطه حاضراً لأن حدود المسافات البعيدة تقلصت وأصبح الحدث يتفاعل في لحظة واحدة في أكثر من مكان، وفي هذا امتلك العقل قوة المتابعة ورصد المعلومات، وإعادة قراءاته لها، بل ووضع بصماته على معالمها، وهنا تأتي الأشكال الجديدة للنوعية المعرفية. من جوانب ثنائية التصادم بين العقل والتاريخ في عقلية الفرد الذي يشكل وجوده إحدى حقائق الصلة بين الشرق والغرب، المنفى ذلك الجانب من الهجرة الرحيل من مكان الانتماء إلى مساحة مغايرة، يقول الدكتور إدوارد سعيد: (يجبر المنفى المرء على التفكير فيه ويالها من تجربة فظيعة. أنه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي، لا يمكن البتة التغلب على ما يولده من سجن أساسي. وإذا ماكان صحيحاً أن الأدب والتاريخ يحفلان بحوادث بطولية، ورومانسية، ومجيدة، بل وظافرة حدثت في حياة النفي، إلا أن هذه الحوادث لا تعدو وأن تكون جهوداً يقصد منها التغلب على أسى الغربة الشال فمآثر المنفى لايني يقوضها فقدان شيء ما خلفه المرء وراءه إلى الأبد. ولكن إذا ما كان المنفى الحقيقي حالة فقدان مبرم فكيف أمكن له أن يتحول بتلك السهولة إلى حافز قوى بل ومخصب، من حوافز الثقافة الحديثة. لقد أعتدنا النظر إلى الحقبة الحديثة على أنها حقبة يتيمة ومغتربة روحياً، عصر القلق والغربة. وقد علمنا (نيتشه) ألا نشعر بالارتياح للتقاليد. وفي رؤية أخرى يقول: (القوميات أمر يتعلق بالجماعات، أما المنفى فهو عزلة تعاش خارج الجماعة بإحساس بالغ الحدة: حيث يشعر بضروب الحرمان لعدم وجود المرء مع الآخرين في الموطن المشترك فكيف للمرء، إذاً أن يتجاوز عزلة المنفى دون أن ينزلق إلى لغة التفاخر القومي، والعواطف الجمعية، وأهواء الجماعة، تلك اللغة والراعدة؟ وما الجدير بانقاده والتمسك به بين إفراطات المنفى من جهة أولى، والتأكيدات الشرسة التي تطلقها القومية من جهة أخرى؟ هو للقومية والمنفى آية صفات ضمنية وجوهرية؟ أهمها مجرد تنويعين متصارعين من تنويعات البارانويا؟ (مرض نفسي). هذه أسئلة تتعذر الإجابة عنها إجابة وافية إذ يفترض المنفى والقومية على نحو محايد ومنفصل، دون أن يحيل أحدهما إلى الآخر، والحال أن ذلك من غير الممكن). يرى الدكتور إدوارد سعيد المنفى كحالة فصل عن مكان الانتماء).حيث يصبح التواجد في ذلك الجانب علاقة تفرد مع خصوصية المكان، وبما أن الدكتور إدوارد سعيد قد عاش المنفى الاغتراب لسنوات طويلة، فالانقطاع عن انتماءات الذات المكان يولد شعور اًبمد بدائل جديدة للصلة مع عالم مغاير له صفاته في تكوين العقل وصناعة التاريخ، وتلك خصائص تدرك من قبل من كانت لهم عقول وثقافات قادرة على تحديد المسافات بين الحضارات والشعوب فهذا المنفى قد يصبح هوة تسقط فيها نفسية المنفى وتذوب في ثنايا ذلك المحيط الواسع من غياب حق الانتماء والبعد عن القومية التي تكسب الفرد قوة الجماعة. إن الجماعة وهي تاريخ فردي، تسعى إلى دمج نفسها في بعض الحالات في القومية حتى تصبح من التاريخ العام الأوسع الذي تتحرك في إطاره أشكال متنوعة من الأفكار، والمصالح، لذلك تحدد قضية العلاقة بين الفرد والمنفى في إطار القومية حيث تتحول إلى صورة من الوطن، تشكل صغير يساعد على حمل هوية الحق الأصلي، ومحاولة استرجاع بعض الشعور لما فقد بفعل الرحيل من أرض إلى أخرى. والمنفى بقدر ماهو حالة عزلة يصبح من تقادم المراحل حقيقة يجب أن تدرك بأنها المساحة البديلة الممتدة ما بين الروح والوطن. هنا قد تتراجع فرضية التصادم بين العقل والتاريخ وتتكون ثقافة أساسها الحوار، المعرفة، هذه الخطوة هي أوليات يصنعها العقل لوضع مستويات إدركه في موضع التوازن، الغرب هو المنفى ولكن به زوايا متعددة للتعارف ثقافة الحضارة التي أنتجها بلغت مكانة من التواصل الروحي مع الغير. لذلك يمكن نقل القومية من مساحة الانتماء الجماعية المحدودة إلى آفاق واسعة من التقارب مع الأمم. وعند هذا المستوى من التقارب لم تعد القومية حالة احتماء من غربة المكان وصيانة للذاتية من طوفان هذا الاغتراب الحال لكل ماهو بعيد عن الأصول، تظل القومية من ملامح حفظ الهوية ولكنها لا تصبح سلاح تصادم مع الطرف الآخر، لأن لغة للحوار قد تشكلت بينهما، وموقع المنفى في هذه الوضعية هو عملية إعادة لقراءة التاريخ بين المفرد والجمع. يمكننا قراءة إسهامات الدكتور إدوارد سعيد كظاهرة ثقافية كونية في تاريخ الحضارة العالمية، فما طرحه على العقل الإنساني في هذا العصر، لا يمكن تجاوزه لأنه أحد العقول الفكرية التي رسمت عدة ملامح وحددت غايات لعلاقة العقل بالتاريخ وسعى إلى وضع رؤية موضوعية لثنائية التصادم بينهما، وأدرك أن الثقافة هي إعادة لإنتاج المعرفة بصور متطورة، وأن الاتصال مع الآخر لا يلغي هوية الانتماء والعلاقة مع الغرب وإن حكمتها إنتاجات معرفية هيمنة عليها صناعة القرار السياسي لعقود من الأزمنة فالحالة لا تظل عند هذا التربح، من إفرازات العقل الغربي لأن عصر التلقي عند الآخر تحرك نحو زاوية التخاطب الحضاري، لتكون ثقافات الشعوب عملية تواصل لا تسيد وإلغاء وقمع، والنظرة الدونية لإسهامات الشعوب التي حرمت من حق المشاركة في قيادة التاريخ لحقب من الزمن. تلك بعض الجزئيات الصغيرة من محاولة الاقتراب من أفكار الدكتور إدوارد سعيد الذي يظل بحق علامة ثقافية كبرى في تاريخ الفكر العالمي، وسوف تظل أعماله تقدم للعقل البشري معارف إنسانية تعيد قراءة ثنائية التصادم بين العقل والتاريخ. المرجع: تأملات حول المنفى الدكتور إدوارد سعيد . ترجمة: ثائر ديب الناشر دار الآداب بيروت الطبعة الأولى 2004م.