في العدد (71) من مجلة (دبي الثقافة) كتب الروائي والكاتب العراقي سعد محمد رحيم عن المفكر العالمي الدكتور إدوارد سعيد تظاهرة حضارية للمثقف الكوني ونموذجاً أخيراً لهذا الإنتاج المعرفي في عالم اليوم. ما يطرحه كاتب الموضوع حول عوامل تكوين البنية الثقافية عند إدوارد سعيد هو تشربه لتقاليد الفكر الغربي وتعامله الواسع واستيعابه للاتجاهات الأساسية التي أنتجها من نظريات ومناهج حديثة، وانشغاله بمنظور وأساليب وآليات تلك المرتكزات في الحضارة الغربية، ظل يحمل رؤية إنسانية وأفقاً عالمياً عبر تفكيره الممتد إلى أبعد مسافات حوار الحضارات، فقد تجاوز الوقوف في المربع الواحد سياسياً وثقافياً وحضارياً وإنسانياً ليصل إلى كونية الإنسان. يقول الكاتب سعيد محمد : (كان منحازاً للإنسان أياً كان جنسه أو عرقه أو مكانه أو عقيدته. كان ملتزماً حراً ينفر من التزمت والتعصب.. كان إنسانياً بحق، يتحرك على الحدود المفتوحة ما بين الثقافات والهويات، حاملاً أسمى ما خلفه التنوير من قيم نبيلة وأفكار، أهمها الحرية والتسامح والعلمانية. وعلى الرغم من عاطفته القومية "الفلسطينية" ودفاعه عن قضيتها فإن إحساس المنفي لازمه عل الدوام. وقد استشهد في كتاباته مرات عديدة بمقولة الراهب هوجو: "الرجل الذي يجد أن موطنه حلو، هو شخص مبتدئ غض، أما الذي يرى في كل تربة تربته الأم فهو شخص قوي فعلاً، إلا أن الشخص الكامل هو الذي يكون العالم أجمع، بالنسبة له أرضاً أجنبية. فالروح الغضة تثبت حبها في بقعة واحدة من العالم، والرجل القوي يمد حبه ليشمل جميع الأماكن، أما الرجل الكامل فهو من أطفأ حبه". ومع هذا فإن فلسطينيته طبعت قدره ورؤياه وفلسطين مثلما ينظر إليها لها رنين تاريخي ورنين توراتي. ولآلاف السنين كانت تعطي الشياطين والقديسين والآلهة، فهي تقع في نقطة التقاطع ليس بين الشرق والغرب هناك الهيلينية والإغريقية والأرمينية والسورية والشرقية، إذا ما تحدثنا بنحو عام وكذلك الأوروبية والمسيحية والأفريقية والفينقية. إنها حالة فنتازية. لذا فهي شيء يتحرر من أي صفة ضيقة. لذلك لم يسجن رؤيته في منظور أحادي الجانب، ولم يجعل من قراءة الثقافة حالة حصار في مربع محدد من الأزمات ومواجهة الآخر كخصم لا يجتمع معه إلا على مساحة التناحر، ولكن من خلال أفقه الإنساني أدرك أن الحضارة هي مسافات واسعة من التنوع والتقارب والحوار والفكر، إنها تجارب تقدم صورة الجمال البشري، هي الوحدة العالمية لما أنتجه عقل الإنسان والثقافة هي أكبر من حدود جغرافية ورسمتها الطبيعة، أو حدود سياسية خلقتها الصراعات في فترات من تناحر المصالح. ظل العالم في فكر وأعمال إدوارد سعيد، يعني كونية الإنسان كوجود فاعل في صناعة التاريخ وقيادة الحضارة، وحتى المواجهات الحاصلة في عالمنا لم تسقط هوية الفرد الإنسانية، فقد أدرك أن العالم لا تصنع مدنيته الجرائم لأن الجريمة لا توجد التاريخ، بقدر ما تذهب بالنفس والمجتمع إلى درجات من التراجع والانحدار وتنزل به إلى ما دون مركزه الكوني في هذا العالم. لم يكن المنفى عنده حالة طرد أو إبعاد خارج المكان وهو الذي عرف معنى الرحيل عن وضع الانتماء. رحلات من فلسطين إلى مصر إلى لبنان إلى أمريكا، ثم نحو العالم، لم يجعل من الاغتراب أزمة أو حالة توحد يعاني منها، بل فتح أمامه مناهل من التعارف على اللون والشكل لمعنى حياة الشعوب، ومن منطلق رؤية الكاتب المبدع كسر محدودية أن تكون العلاقة مع الآخر قائمة على انتماء العقيدة أو اللون أو الجنس والمذهب أو حتى المكان الواحد. إن الإنسانية لها من سعة الأفق ما يجعلها قادرة على جعل الأرض الوطن الكوني لكل البشر، والدليل أن حقب السلام والتسامح والحوار هي من أوجد حضارة وثقافة وتوازناً نفسياً عند الشعوب، أما الاستحواذ والنفي وسياسة الضرب، فأفرزت اختلالات ودماراً وحقداً، أوصلت الحياة إلى أقصى حدود الرماد والموت وأصبحت من الصفحات الفاجعة في سجل التاريخ الحضاري. يقول الدكتور إدوارد سعيد : (خلفيتي عبارة عن سلسلة من الاغتراب والنفي لا شفاء منها أبداً وإحساسي بأني معلق بين ثقافات متعددة كان ومازال قوياً جداً أستطيع القول إنه التيار الأقوى في حياتي، والحقيقة أنني داخل الأشياء وخارجها، لكني لست أبداً من شيء لمدة طويلة). إن عدم الوقوف على أرضية واحدة هو الذي جعله يمتلك ذلك الاتساع في المعارف، فكل خطوة اغتراب لا تقود إلى حصار الذاتية، بل تفتح معالم لحقيقة الجوهر الإنساني لتواصل الأمم. والشعور بالنفي لديه - وهو البعد عن مكان الانتماء أرض الوطن - حالة وإن طالت أوجاعها النفس لكنها لا تسقط شعور الإدراك والتفكير في دوامة الانكسار والتقوقع في وجع الحقد العاجز عن طرح بدائل لهذا النفي القائم على اغتصاب الأرض وقتل الإنسان وتدمير الهوية وإعادة تشكيل وجه الوطن من فلسطين إلى دولة اليهود. إن المنفى بقدر ما يخلق من عذابات، بقدر ما يوجد مقدرة قوية على المقاومة والاستمرار، وهذه الخاصية إن أدركتها النفس بموضوعية تصبح الإرادة الكبرى التي تعيد إقامة هيكل العلاقة مع الآخر، فالآخر ليس هو جزئية تنحصر عند حدث ما. ولا هو حالة وجدت بعيدة عن أشكال وصور الحضارة، بل هو خط من أصولها وإن أنشق عن معان وأهداف وجعل من ذاتية فرضية قائمة على واقع لم يكن يوماً من وجوده. يقول الكاتب سعد محمد رحيم : (والمنفى الذي هو أشد الأقدار كآبة في نظره لم يزرع في نفسه عقد الاضطهاد والتعصب، على العكس، فقد جعله يرى الضفاف كلها بأريحية، ولكن ليس من غير نقد والصحيح أن نقده انطبع بطابع وضعه فهو حتى حين يؤكد أن خلفيته السياسية ونشاطه السياسي "كلها أمور موجودة في (صندوق) مختلف تماماً عن ذلك الذي أٌقفز منه كناقد أدبي أوبروفيسور). لكنه يدرك مدى وقوة وحتمية الارتباط بين إنتاج الأعمال (الأدبية والفنية) والعلاقات الاجتماعية والسلطوية، والمسألة برمتها تغدو أكثر تعقيداً في النهاية، فهو لا يريد أن يتكلم عن انسجام موهوم.. تلك سذاجة وتبسيط لواقع، أو لعالم يغلي بالتناقضات والصراعات، حتى في حالة المرء الحامل لهوية مركبة، هنا على وجه التحديد، عليه أن يلقي بإصلاح الطباق على الطاولة). إن الالتقاء مع العالم، لا تقف حدوده على ضفاف الأنا أو اقتصار النظرة للغير من منطلق الاختلاف المتصارع على هويات وثقافات وحق الحضور في ميزان التوافق الفكري بل يكون الالتقاء مع العالم عبر إدراك وتفكير بأن الآخر مهما كانت درجات الخلاف معه، هو حقيقة قائمة لا يمكن نفيها خارج معادلة التعامل مع الموضوعية. من هذه اللحظات المنفتحة على جهود الإنسانية تطرح الرؤية النقدية سلوكياتها العلمية في صناعة الاتجاه والقراءة عند إدوارد سعيد، ويصبح الفعل الحضاري عملية اجتهاد تقيم جسور الاتصال مع المعرفة التي لا تخلقها تحالفات زمنية، بل هي توجد كذلك مع تصارع أفكار وتحديات حضارية لا تعرف الوقوف عند مساحة واحدة من الزمن الإنساني. وعن أزمة الهوية وصلتها مع الغرب يقول إدوارد سعيد : (إن من المستحيل أن نحدد بوضوح ما ينبغي أن تكون عليه الهوية العربية المنشودة وهنا أفضل نفسي بشدة عن الذين يقولون ببساطة ينبغي أن نكون حديثين وفعالين ومتقدمين ومنظمين فإن من الممكن القول بأن ما يعانيه العرب هو نمط وجودهم الهلامي في العالم. ستكون صلة العربي بتاريخه خيالياً إنه تاريخ ليس ثمة استمرار فيه وهو (أي العربي) يستعيده كطيف، كان ملكه يوماً ما، واليوم هو من دونه يعيش غربته الوجودية والحضارية، ومحنته السياسية الثقافية وإخفاقه في مشروع الحداثة). ويقول أيضاً : (كانت خطيئتنا كمجتمع في تجنب أزمة الهوية، تلك اللحظة الحاسمة، حيث يخلف الإنسان ماضيه وراءه واعياً متألماً، كي يتمسك بالمستقبل لماذا تركنا أنفسنا نطفو بشكل واضح كما تطفو قشور البرتقال على سطح البحر؟ لماذا لم نقل من نحن لأنفسنا وللآخرين على الصعيدين الجمعي والفردي؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن نجيب عنها قبل أن نباشر في عمليات التجديد واسعة النطاق). الأزمة - الهوية تلك الحالة التي لم تجد بعد من يتجاوزها، هي من المسائل التي لم يغفل عنها فكر إدوارد سعيد، فهي تظل من القضايا الواقفة عند حدود الالتفاف حول الذات، بقدر ما يعلو الضجيج حولها بقدر ما تغيب ملامحها عند البحث عن معالمها الموضوعية في حياتنا. إن الهوية لم تعد حكاية من تاريخ الماضي يكفي الوقوف عند تخومها أو العيش على هامش ما كان، أو حتى محاولة التسلق على أدراج الغير واستعارة بصماته في عملية مزج الهوية مع الحداثة. لقد أدرك إدوارد سعيد عمق مأساة الوجود العربي في حضارة اليوم، وهي حالة الفراغ الذي جعل من إنسان الشرق صورة تسبح في فراغ، واقعة في تيارات التجاذب وعواصف التمزق حتى أضحت الهوية أزمة لا تخرج عن هذه الاهتزازات الضاربة بعنف في كيان هذا المجتمع فالتاريخ الذي كان مجد الماضي والحضور الحضاري لم يعد الآن عند العربي غير حكاية في ذاكرة الأمس أما مساحات القوة والمقدرة فقد تسيدت عليها حضارة الغرب التي جعلت من مالك الأمس لذلك الوجود مجرد حقل اقتحام وعملية تجريب لما لها من أفكار ومراهنات على هزيمة الكيان العربي الذي وضع في هذا الظرف التاريخي عند مساحات حقل التجارب. وعن هذا الإنتاج لمفهوم القوة في حضارة الغرب كعامل في صناعة التاريخ يقول سعد محمد : ( يبدو انه كان لابد لفكر النهضة والتنوير والحداثة من قرابين وضحايا. والمغامرة المعرفية والحضارية كانت قرابينها وضحاياها أمماً بمئات الملايين من البشر. هذه الحركة التاريخية المهولة المسماة " الاستعمار الكولونيالي" هي التي وسمت الوضع العالمي خلال القرنين الأخيرين وأوجدت تلك السرديات الواقعية التراجيدية والتي ما زلنا نعاني من عقابيلها). ما أنتج في عصر الحداثة لم يكن بعيداً في مجتمعه عن ضرائب الدم والروح فالحضارة التي صنعت عصر الهيمنة وقوة القيادة على المسار العالمي لم تخرج عن قوة ذلك التصادم الذي اوجد فيها ثنائية التناحر على المساحات الأخرى من العالم . في زمن صعود القوة الغربية كان الجانب الأخر - الشرق - هو سباق المسافات الطويلة بالنسبة للغرب وكانت العقلية الغربية قد شكلت نوعية الرؤية والحالة لهذا الشرق حسب تصورها وكأنها بهذا الأسر الاستعماري تعيد تأسيس عالم الآخر على القوالب والمعايير المناسبة لها ، أما الشعوب التي تحولت إلى حقول تجارب لمشاريعها المهيمنة فقد نظر إليها من زاوية أنها شعوب تحت مستوى التاريخ وخارج إطار الحضارة أما سياسة قهر الغير فقد تعززت في ثقافة الغرب المهيمنة كوسيلة لنقل تلك الشعوب المتخلفة من عصور الفقر الفكري والجسدي إلى خطوات أولى على بوابة الغرب. لذلك لم تأت الحداثة بالمعرفة فقط ولكن خلفت معها الأزمة التي وصلت في بعض حقب التاريخ إلى مستوى الجريمة ليس من خلال قتل الفرد بل عبر قتل تاريخه وحضارته وعقائده ولغته وثقافته وتحويله إلى كائن مفرغ من الداخل يحاول أن يستعيد وجوده من خلال التلبيس بهوية الغرب التي تتحول من وسيلة قمع إلى طريق ومخرج من هذه الغيبوبة بل عملية ذوبان في الذات الغربية. يقول ادوارد سعيد: ( اعتقد أن الهوية مسألة خصامية أكثر من غيرها - كي لا أقول أنها منفردة فكرة الهوية الواحدة لذلك فان عملي عبارة عن هويات متعددة عن أصوات متعددة النغمات صادرة في الوقت ذاته بلا حاجة إلى مصالحة كما أقول بل بحاجة فقط إلى من يجمعها معاً أكثر من ثقافة واحدة أكثر من وعي واحد بالمعنى السلبي والايجابي للكلمة أنها غريزة أساسية).