في قراءة أحداث ومراحل من تاريخ المنطقة العربية، رصدت الأسباب والعوامل المرافقة لحركة التغيرات في الشرق الأوسط، حتى أصبحت الفكرة وصاحبها من الحقائق التي علينا النظر فيها عند العودة إلى إسهامات الرؤية الاستشراقية في صراع التاريخ وحوار الثقافة بين الشرق والغرب. ذلك ما تذهب إليه العقلية في قراءة ما أنتجه لنا المستشرق البريطاني الفرد هوليداي، في التاريخ المعاصر لصراعات الشرق الأوسط، وقضاياه، التي وإن تعددت مساراتها فهي تظل رؤية العقل الغربي لحالة الشرق وأزمات مجتمعاته، الباحثة منذ عقود من الأزمنة عن الهوية والانتماء ولغة تحاور بعض مفرداتها إلى المفهوم الغربي لمعنى خاصية الشرق وعن طريق أية معانٍ تشكل قواعد الحوار. قدم لنا الفرد هوليداي عدة دراسات ومؤلفات حول العالم العربي غلب عليها الجانب التاريخي والسياسي من أوضاع العالم الغربي، ومنها هذه المؤلفات (الإسلام وخرافة المواجهة ، الدين والسياسة في الشرق الأوسط)، و(الصراع السياسي في شبه الجزيرة العربية) و(دراسات شرق أوسطية)، و(الثورة والسياسة الخارجية: حالة اليمن الجنوبي 1967 1987م)، و(العرب في المنفى، الجاليات اليمنية في الحضر البريطاني) وقد شغل منصب أستاذ العلاقات الدولية في مدرسة لندن للاقتصاديات وقام بعدة زيارات للمنطقة ومنها بلادنا في منتصف القرن الماضي، وهذ ما أعطى لكتاباته طابع الاتصال المباشر لمواقع الحدث، والتعرف على التحولات الآتية من إفرازات كل تبدل في الفكر والنقلة المصاحبة لحركة التاريخ وموقف الثقافة من هذه المجريات ومكانتها من كيان الأمة وهذا الوجه من المعرفة يفتح أمام الفكر منافذ متنوعة لتحليل هذا النوع من الاستشراق الذي ينفلت من قبضة ما تفرضه سياسة وثقافة الغرب نحو الشرق. يقول الفرد هوليداي عن القومية من حيث هي ثقافة وتاريخ وهوية (عندما نتحدث عن القومية، فإنما نتحدث عن مسألتين مترابطتين ولكنهما متميزتان، كل منهما أثارت جدلاً في الأوساط الأكاديمية والسياسية. المسألة الأولى هي القومية بوصفها إيديولوجيا، أي مجموعة من الافكار حول كيف يدار العالم، وبصورة مماثلة، كيف يجب ان يدار. ليس للقومية مفكر كبير مؤسس، ولكن مجموعة من العقائد الأساسية المرتبطة بالقومية نشأت من تاريخ الحركات الديمقراطية والشعبية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، تؤكد هذه الإيديولوجيا أن العالم ينقسم إلى شعوب، وأن لكل واحد من هذه الشعوب ما يميزه من صفات وتاريخ، ولغة عادة وأنه مخصوص بقطعة من الأرض، وأن من يولدون في هذه الأمة ملزمون باحترامها. والقومية في التعريف المشهور لارنست جيلز هي مبدأ سياسي يعد أن الوحدة السياسية والقومية يجب أن تكونا متطابقتين، وبمعنى آخر، إن تلك الأمم موجودة ويجب أن تكون لها، لا بل من حقها أن تمثل، بدول مستقلة ضمن إقليمها وعاداتها الخاصة.وفي شأن الشرق الأوسط، كانت مقاومة القومية واضحة بشكليها. ففي القرن التاسع عشر وما بعده، كان هناك داخل الإمبراطورية العثمانية من يحاول المحافظة على التنوع ما قبل الفوضى وعلى الرغم من كل الحسابات والمناورات المتضمنة، فإن ظهور قوميات لغوية معنية داخل الإمبراطورية العثمانية والدول التي ورثتها كنس هذه العالمية وأنتج شرق أوسط انتشرت فيه الحركات القومية التي تتطلع إلى توحيد الأمة، ومن المنظور الآخر، مفهوم الأممية ما بعد القومية، هناك الكثيرون ممن يسعون إلى إنشاء علاقات عبر الحدود العرفية، ولاسيما في المحيط العربي. القراءة لهذه الرؤية لا لفرد هوليداي حول مفهوم القومية في تكوين الهوية الثقافية والسياسة والتاريخ، تنطلق من مرتكزات عدة تجمع ما بين الالتحام أو الانقسام. فهي إن وجدت على أرضية تسعى إلى مد جسور التعامل مع الآخر وتشكيل وجهة نظر تخاطب كل الأطراف، فهي قد وضعت مبادرة الحوار الحضاري مع الغير، وتصبح القومية عامل اتصال فكرياً وثقافياً وحضارياً مع العالم، تلك صفات تميزت بها الحضارة العربية في الماضي حيث كانت الثقافة الإسلامية الهوية الكبرى لمعنى القومية وكان الانتماء للفكر هو ما يحدد الشخصية الحضارية وذلك ما جعل لتلك الحضارة مساحة واسعة في الحضور العالمي حي بعد سقوط دولة الإسلام في العالم ظلت ثقافتها عنوان قوميتها الإنسانية التي تعلم غيرها من الشعوب. ولكن عندما تصبح القومية ثقافة انقسام وتناحر وحصر دور القضية في زاوية واحدة من الفردية، عندما تتحول إلى حالة من ثنائية التصادم حتى في داخلها، وذلك ما يرسم حدوداً جديدة في كل مرحلة من تصاعد الانقسام في الداخل والتصادم مع الغير وفي هذا الظهور لثقافة التطرف ورفض كل مالايتفق مع رؤيته، ومن هنا تبدأ حالات من التصدع في المساحة الواحدة التي تذهب إلى طوفان التشرذم وتنهار معها كل إمكانيات الحوار وتخاطب العقول، أما لثقافة تصبح أسيرة لتلك المراكز المسخرة لها في لعبة الانقسام والتناحر. وبالنظر إلى تاريخ الشرق الأوسط منذ مطلع القرن الماضي سعت بعض العقليات الثقافية والإصلاحية إلى استعادة الهوية التاريخية الإسلامية وجعل القومية العربية في جوهر هذا الانتماء الذي يعد القوة الحافظة لوحدة العرب والإسلام وكانت اسهاماتها كبرى في هذا المجال، غير أن حركة الأحداث في العالم ووضع الشرق الذي وصل إلى مستوى من التراجع وصعود الغرب كقوة هيمنت على العالم وتحول هويته القومية إلى مشاريع استعمارية، والتقدم في المعارف العلمية، ضرب هذا الجهد العربي في استعادة الحق التاريخي لمكانة العرب والحضارة الإسلامية، وعندما جاءت مفاهيم القومية مع هجمة الغرب على الشرق لم تكن تحمل سوى إحياء النزعة المناطقية والعشوائية جعل الجغرافية الثقافية والبشرية والطبقية هي محاور الانتماء عن الجماعات تحت شعار القومية وتلك مذاهب وعقائد عززت تناحر الأمة أكثر مما ساعدت على توحيد الكيان. ويقول في الموضوع نفسه: (وفي الوقت نفسه، تستخدم القومية للإشارة إلى مجموعة من الحركات حركات سياسية تنشأ في ظروف خاصة وقيادات استثنائية. وتبدأ هذه الحركات أيضاَ، إضافة إلى المطالبة بتقرير المصير، والاستقلال لشعوبها، بتعريف الأمة، وصفاتها وتاريخها وطريقتها الخاصة في التحدث بلغتها، ومن يمثل جزءاً منه، وأهم من ذلك، من لايمثل جزءاً منها. وحركة القوميين، ولنقل بوضوح هي الحركة التي تعتنق مبدأ تسعى لتطبيقه، كأي معتنق لنظرية معيارية، وهذا ما فعلته القومية العربية منذ مطلع القرن العشرين، وما دافعت عنه إيران منذ تسعينات القرن التاسع عشر، وهو برنامج الصهيونية، منذ المؤتمر التأسيسي للحركة في بال عام 1897م، فالقومية بهذا المعنى ضرورية ومعيارية: تعتنقها اليوم كل دولة في العالم وأياً كانت أصولها أو محتواها الخاص، وكل إيديولوجيا قومية يجب أن تلبي الشروط المعيارية لهذه الإيديولوجية، تماماً كما لكل دولة علم، وعاصمة وخطوط جوية وطنية وفريق كرة قدم، وفلوكلور، ومطبخ وطني وغير ذلك.