دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    تضامن حضرموت يحلق بجاره الشعب إلى نهائي البطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت بفوزه على سيئون    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    مجلس وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل يناقش عدداً من القضايا المدرجة في جدول أعماله    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    صواريخ الحوثي تُبحِر نحو المجهول: ماذا تخفي طموحات زعيم الحوثيين؟...صحفي يجيب    المنخفض الجوي في اليمن يلحق الضرر ب5 آلاف أسرة نازحة جراء المنخفض الجوي باليمن    انهيار حوثي جديد: 5 من كبار الضباط يسقطون في ميدان المعركة    نائب رئيس نادي الطليعة يوضح الملصق الدعائي بباص النادي تم باتفاق مع الادارة    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    كان طفلا يرعى الغنم فانفجر به لغم حوثي.. شاهد البطل الذي رفع العلم وصور الرئيس العليمي بيديه المبتورتين يروي قصته    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    الحوثيون يعلنون استعدادهم لدعم إيران في حرب إقليمية: تصعيد التوتر في المنطقة بعد هجمات على السفن    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    غارسيا يتحدث عن مستقبله    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مستقبل القومية العربية" (قراءة من جلال أمين)
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 02 - 2013

خاص مراسل الحقول / يقدم جلال أمين في هذا النص[1]، تجديدا مبينا للفكر القومي من ناحيتين : الأولى، في ملاحظته أن مسيرة الحركة القومية العربية، قد شهدت صعودا وهبوطا في المئتي سنة الأخيرة، وأن الأفق مفتوح على صعود لا يلغيه حال الركود الراهن. والثانية، في استنتاجه أن مركزية الدور الذي تؤديه دولة قطرية ما، ويقصد هو حال مصر، على وجه التحديد، في العمل القومي العربي، هي مركزية نسبية وليست مطلقة، وأن تراجع هذا الدور، لا يمنع من صعود دولة أو دول عربية أخرى إلى مركز العمل القومي العربي. وإذا ما استثنينا مداخلة رئيس الرئيس سليم الحص، فإن النقاش الذي تلى المحاضرة كان ضعيفا نسبيا، لأن ثناء "الوجوه القومية" التي استمعت إلى أمين، كان يفترض مستوى من النقاش يتعدى بكثير، كلمات "البرستيج" والعلاقات العامة.
نص المحاضرة
للقومية العربية معنيان من المفيد أن نميز بينهما منذ البداية، فتعبير القومية العربية ربما يستخدم للإشارة إلى العناصر والروابط المشتركة التي تجمع بين أفراد أو شعوب الأمة العربية، أو إلى شعور بالولاء الناتج من هذه العناصر المشتركة، لكنه قد يستخدم أيضاً بمعنى الحركة أو النشاط اللذين يُبذلان عمداً وعن وعي، لتحقيق مصلحة هذه الأمة، وخصوصاً فيما يتعلق بتوحيدها أو استقلالها.
أما القومية العربية اليوم، بكلا المعنيين، فهي في محنة، ذلك بأن الرابطة والولاء آخذان في الضعف والتدهور، كما أن الحركة النشاط بهدف مقاومة هذا التدهور، أو بهدف توحيد أجزاء الأمة الممزقة، هما في خمول شديد، وقد بدآ يتراجعان.
والضعف في الناحيتين يغذي أحدهما الآخر:
فالضعف الذي يصيب الشعور بالولاء يزيد حركة التوحيد ضعفاً على ضعف، وما يصيب حركة التوحيد من ضعف يغري أفراد الأمة بالتمرد عليها يأساً وقنوطاً.
إن إسترجاع تاريخ القومية العربية خلال الخمسين عاماً الماضية لا بد من أن يقوي شعورنا بالقنوط. فبعد فترة من الازدهار بين أواسط الخمسينيات وأواسط الستينيات من القرن العشرين، من حيث ازدياد قوة الشعور بالولاء، أو ارتفاع درجة النشاط من أجل تحقيق الوحدة والاستقلال، أصيبت القومية العربية بضربات في النصف الثاني من الستينيات، ثم توالت عليها الضربات من كل اتجاه طوال الأربعين عاماً التالية، حتى كادت الدعوة إلى الوحدة، بأي صورة من الصور، تختفي من جداول أعمال السياسيين العرب وخطبهم، وأصبحت المقارنة بين مشاعر شبابنا اليوم من الوحدة، ومشاعر جيلي عندما كنا في مثل اعمارهم، تدعو إلى الأسى والدهشة في الوقت نفسه.
غير أنني أريد أن أزعم أن قراءة تاريخ القومية العربية لفترة أطول من خمسين عاماً، أي خلال قرنين كاملين، يمكن أن تخفف من هذا الشعور بالقنوط، وربما يستخلص منها أن القومية العربية، بكلا المعنيين، تمر بدورات من الإزدهار ثم الضعف، وأنها لا تسير بالضرورة، في تقدم مستمر أو انحدار مستمر، وإذا كان الأمر كذلك حقاً، فإن من المهم أن نفهم بالضبط عوامل الازدهار وعوامل الانحسار، لعلنا في هذا الفهم نستطيع وقف التدهور الراهن وإعادة الحيوية من جديد إلى الشعور بالولاء لهذه الأمة، وإلى الحركة الهادفة إلى توحيدها.
مرت القومية العربية خلال القرنين الماضيين بثلاث مراحل مراحل باهرة من الازدهار، تلتها ثلاث مراحل من التدهور، وكانت أولى هذه المراحل في العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر، وقد قام بالدور الناصع فيها، والي مصر محمد علي وابنه إبراهيم باشا، فمحمد علي كان يطمح بلا شك إلى إقامة إمبراطورية عربية، ونجح في فتح السودان وضمها إلى مصر في سنة 1821، واستمر ذلك ثلاثين عاماً حتى وفاته في سنة 1849، كما أن ابنه إبراهيم فتح بلاد الشام، فانضمت بدورها إلى حكم محمد علي بين سنتي 1832 و 1840.
وتحالف محمد علي مع الأمير بشير الثاني الشهابي الذي حكم لبنان نحو خمسين عاماً حتى سقط معه في سنة 1840، ودان الحجاز لمحمد علي بالولاء إلى أن ضُرب (محمد علي) في سنة 1840. ودخلت حركة التوحيد العربي في حالة انحسار طوال الربع الثالث من القرن التاسع عشر، ثم التهبت المشاعر من جديد ونشطت حركة المناداة بالتوحيد في العقدين الأخيرين من القرن وخلال الحرب العالمية الأولى، فتعددت منذ سنة 1875 الجمعيات السرية والعلنية التي راحت تنادي بالاستقلال للعرب، وبإحياء حضارتهم، وتحقيق وحدتهم، وساهم في هذه الدعوة كتّاب ومفكرون مسلمون ومسيحيون كعبد الرحمن الكواكبي ونجيب عازوري، حتى تحولت الدعوة إلى ثورة ضد الإمبراطورية العثمانية قادها الحسين بن علي شريف مكة، ثم ضُربت الفكرة والحركة والثورة العربية ضربة قاصمة، كما هو معروف، بخيانة الحلفاء لوعودهم وقيامهم بتقسيم غنائمهم العربية بين بريطانيا وفرنسا، وقد انشغلت دول المشرق العربي، في فترة ما بين الحربين، وكذلك مصر، بتحقيق الجلاء عن الأقطار العربية.
دبت الحياة من جديد في الشعور القومي وفي حركة القومية العربية في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وساهم في إذكاء هذا الشعور كتابات ساطع الحصري، والمفكرين القوميين العرب ومنهم قسطنطين زريق، وكذلك مفكري حزب البعث العربي الاشتراكي، واقترن انتعاش الفكرة القومية هذا بتتابع الثورات والإنقلابات في دولة عربية بعد أخرى، وبإعلان كثير من هذه الثورات والانقلابات إيمانه بالوحدة العربية، بل إن بعضها نجح في تحقيق أشكال مصغرة من الوحدة، على أمل أن تتسع في المستقبل فتشمل الدول العربية كلها.
وكان أكثر صور التوحيد نجاحاً وطموحاً اتحاد مصر وسورية في سنة 1958، حين ظهرت الجمهورية العربية المتحدة إلى الوجود، على أمل أن تكون نواة لوحدة عربية تزداد اتساعاً. بعد ذلك، أصاب الانتكاس الحركة القومية من جديد، وتلقت ضربات متتالية، من انفصال سورية عن مصر في سنة 1961، ثم فشل محادثات الوحدة التي تجددت في سنة 1963 بين سورية ومصر والعراق، واشتداد هجوم الدول العربية "المحافظة" على الدول العربية "الثورية"، وزيادة التباعد والجفوة بين الفريقين، إلى أن أصيب الجميع بضربة قاصمة في سنة 1967، عانى جرّاءها الثوريون والمحافظون معاً، كما أصابت في الصميم حركة القومية العربية، وأضعفت بشدة الشعور بالانتماء والولاء لأمة عربية كبيرة نتيجة الضعف الذي أصاب الأمل بتحقيق أي هدف من الأهداف القومية الكبرى، ولا يزال هذا الضعف في حركة القومية العربية وفي الولاء القومي سائداً حتى اليوم، الأمر الذي طبع بالإحباط والقنوط أي تفكير يتعلق بمستقبل القومية العربية.
نلاحظ في جميع التجارب الثلاث غلبة دور الزعيم أو القائد على دور المساهمة الشعبية أو الجماهيرية،
أو بعبارة أخرى، الطابع النخبوي الضيق للغاية الذي اتسمت به الحركة القومية. نحن نعرف جيداً أن محمد علي في سعيه لإقامة إمبراطورية عربية لم يكن مدفوعاً بحركة شعبية، أو بمشاعر طبقية، ولا حتى بمشاعر قومية أو دينية من جانبه. فهو لم يكن في أي حال عربياً، كما أنه وابنه إبراهيم لم يكونا يتقنان اللغة العربية، بل إن دافعه الأساسي ما كان سوى مطامح شخصية له ولأسرته، ومع ان ابنه إبراهيم كان أكثر تعاطفاً مع الفكرة العربية، إلا إنه لم يكن مدفوعاً أيضاً في فتحه بلاد الشام بأكثر من دوافع شخصية له ولأبيه.
ونحن نعرف أيضاً أن الشعور القومي العربي طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر كان أضعف كثيراً من الشعور الديني، لكن بعض العرب من مختلف الأديان كانوا يشعرون بكراهية شديدة للاستبداد التركي، الأمر الذي جعلهم يستقبلون الفاتح المصري أحياناً "بالتأييد والتهليل والتكبير" على حد تعبير جورج أنطونيوس، غير أن هذا الفاتح المصري لم يكن يستند إلى أي مصالح طبقية كتلك التي استندت إليها الحركات القومية في أوروبا في القرن نفسه. ويجب أن نلاحظ أيضاً أن مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي في مصر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان متأخراً، وحالة التعليم متردية، ووسائل الإتصال بين بلد عربي وآخر بدائية، بحيث منعت كلها أي نمو ذي شأن لحركة تستهدف الوحدة العربية.
لا أعتقد أن علينا أن نعلق أهمية كبيرة في تفسير الحركة القومية، بنجاحها أو فشلها،على مدى نبل الدافع إليها، فالحركات القومية نادراً ما عُرف عن قوادها نبل الدافع أو تجردهم من المصالح الشخصية، ولا أظن ان الحكم على أي حركة قومية من هذه الزاوية يتسم بالحكمة، إذ كثيراً ما يصدر أفضل الأشياء عن أهداف غير نبيلة، وكثيراً ما تنجح مطامح الحاكم الشخصية في أن تثير لدى الناس العاديين أنبل المشاعر وتدفعهم دفعاً إلى تحقيق أعظم الأهداف، لكن المؤكد في أي حال، هو أن إقدام محمد علي وابنه إبراهيم على توحيد مصر والسودان وبلاد الشام والحجاز بإمرتهما، لم يكن تلبية لمطلب شعبي، ولا استناداً إلى مصالح شعبية أو طبقية.
ومن هذه الزاوية، كان الوضع أفضل قليلاً بعد نصف قرن، إذ أصبحت الوحدة العربية وإحياء الحضارة العربية مطلبين حقيقيين لدى شريحة واسعة من المثقفين في المشرق العربي. إلا إن قيادة هذه الحركة لم تأت هذه المرة من مصر، وإنما قامت في الشام والجزيرة العربية، ذلك بأن الحركة الوطنية في مصر منذ الاحتلال الإنكليزي لمصر في سنة 1882، كانت تهدف إلى تحقيق الجلاء، كما أن هدف الوحدة العربية أو إحياء المجد العربي، كانا بالنسبة إلى المصريين في ذلك الوقت، هدفاً بعيداً عن الهدف الملحّ، أي التحرر من الاحتلال البريطاني، بينما كانت الأهداف التي تحملها فكرة القومية العربية في بقية بلاد المشرق العربي، متسقة تماماً مع هدف التحرر من الاستبداد التركي، ومن قهر اللغة التركية للغة العربية، ومع هدف توحيد المشرق العربي كله.
ومع هذا، فإن الحركة القومية العربية لم تكن في هذه المرحلة أيضاً، تستند إلى أي مصالح اقتصادية ذات شأن، ولا إلى أي مصالح اقتصادية ذات شأن، ولا إلى تأييد طبقة أو شرائح اجتماعية تجد لها مصلحة قومية في تحقيق الوحدة، إذ لم يكن التطور الاقتصادي في ذلك الوقت، في أي بلد من البلاد العربية، قد أسفر عن ظهور أكثر من طبقة متوسطة صغيرة للغاية ترتبط مصالحها بالزراعة، ولا تعتمد بدرجة تذكر على التجارة أو الصناعة اللتين كانتا تخضعان لسيطرة الأجانب.
والمدهش أن أمراً مماثلاً يمكن أن يقال عن الحركة القومية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فهذه الحركة كانت أيضاً، نابعة من الأعلى، وتركز على شعبية الزعيم أكثر من استنادها إلى المصالح الاقتصادية، وعلى طموحات مثالية أكثر من الرغبة في تحقيق منافع طبقية. نعم، كانت الطبقة المتوسطة قد نمت بشكل ملحوظ في كثير من البلاد العربية خلال العقود الأربعة الفاصلة بين سقوط الثورة العربية وقيام دعوة عبد الناصر القومية، لكن هذا النمو كان سببه انتشار التعليم، وليس النمو الاقتصادي وحده، كما ان امتلاك سوق أكثر اتساعاً، أو فتح مجالات جديدة للاستثمار، أو الحصول على مواد أولية، لم تكن ذات أهمية تذكر لدى المنادين بالوحدة العربية في ذلك الوقت.
لقد كانت الدوافع الأساسية لدى دعاة الوحدة العربية وأنصارها في الخمسينيات والستينيات، تتعلق أساساً بتحقيق الاستقلال السياسي (وخصوصاً لدى الدول العربية التي كانت لا تزال تحت حكم الاستعمار)، والاستقلال الاقتصادي عن الدول الاستعمارية أو المتقدمة اقتصادياً. وهذه الدوافع، على الرغم من نبلها، وبعكس الدوافع الاقتصادية الأنانية المباشرة، لم تكن قادرة على الصمود طويلاً أمام ما يمكن أن يوجه إلى أصحابها من ضربات، من جانب من لهم مثل هذه الدوافع الأنانية المباشرة.
ما أريد أن أخلص إليه هو أن هناك نقطة ضعف أساسية ومشتركة بين التجارب القومية الثلاث السابقة: تجربة محمد علي؛ تجربة الحسين بن علي؛ تجربة جمال عبد الناصر. فهذه كلها كانت حركات قومية تُلقى على الناس من علٍ، وتقودها شخصيات قومية وملهمة وقادرة على تجميع الناس حول هدف الوحدة، أو على الأقل على إجبار الناس على قبوله، إلا إنها كانت بطبيعتها غير مؤهلة للصمود طويلاً في وجه عواصف آتية من الخارج. ومهما يكن الأمر، فإنه ليس من المستغرب أن يكون للعوامل الخارجية دور في تحديد مصير القومية العربية، حتى الآن على الأقل، أكبر مما تؤديه أي عوامل داخلية، فالدول العربية ظلت طوال المئة والخمسين عاماً الماضية على الأقل، دولاً تابعة، بمعنى أو آخر، لقوى خارجية. وكانت تجربة محمد علي قد بدأت قبل أن تتم أي دولة أوروبية ثورتها الصناعية، ومن ثم قبل أن يكون لأي من هذه الدول أطماع ذات خطر على أي بلد عربي، لكن هذه الأطماع اكتملت ودفعت الدول الأوروبية إلى إيقاف محمد علي عند حده، وذلك قبل أن يكتمل، للأسف، مشروعه في إقامة إمبراطورية عربية، ومنذ ذلك التاريخ أي منذ سنة 1840، وقفت القوى الخارجية بالمرصاد للعالم العربي، فأصبح هو التابع، وهي المتبوع، فكيف يمكن أن نتوقع أن يكون التطور الداخلي، سياسياً أو اقتصادياً7 أو إجتماعياً، هو الحاكم الرئيسي لمسار القومية العربية؟
إن المغرمين بالبحث عن أسباب اقتصادية واجتماعية داخل أي مجتمع، لتفسير ما يحدث له في مختلف جوانب الحياة، كثيراً ما يكونون على حق عندما يتعلق الأمر بمجتمع منعزل عن العالم، أو بمجتمع يؤثر في العالم المحيط به أكثر مما يتأثر به، أو مجتمع لديه من الوسائل ما يحمي بها نفسه من هذه المؤثرات. لكن أياً من هذه الحالات لم يكن هو حالة العالم العربي طوال المئة والخمسين عاماً الماضية، ولهذا، لا عجب في أن الحركة القومية العربية، بل فكرة القومية العربية نفسها ومشاعر الولاء التي تثيرها، تعرضت كلها لعواصف عاتية هبت عليها من الخارج وتهدد الآن باقتلاعها من جذورها. ولذا، يجب ألا نستغرب أن يكون للعوامل الخارجية دور مهم، ليس فقط في ضرب حركة القومية العربية إذا ما تعارضت مع مصالح دول أقوى، بل حتى تشجيعها ودعمها إذا رأت هذه الدول مصلحة لها في نمو هذه الحركة ونجاحها.
لقد حدث هذا وذاك: التشجيع والدعم مرة، والضرب بقسوة مرة أخرى، طوال المئة والخمسين عاماً الماضية، بل إن الدعم والتشجيع بدآ حتى في أوائل تجربة محمد علي في إنشاء إمبراطوريته العربية.
يقول جورج أنطونيوس في كتابه "يقظة العرب": من الثابت أن محمد علي كان ينوي، بالإضافة إلى (إنشاء إمبراطورية عربية)، السعي للاستيلاء على الخلافة نفسها، ولم يخف هذه النية. وكان يعلم أن فرنسا تحبذ قيام مملكة مستقلة ومستقرة تضم بلاداً كبلاد الشام ومصر والجزيرة العربية واقعة على الطرق الكبرى المؤدية إلى الشرق، أو بالأحرى على طريق بريطانيا المؤدي الى الهند. كما ان النمسا شجعته في مساعيه إذ أوفدت له الكونت بروكش أوستن في مهمة خاصة، وكان يحمل اقتراحات معينة، ففي مذكرة له مؤرخة في 17 مارس/ أذار1833، رسم الخطوط الكبرى للمشروع الذي يقترحه بشيء من التفصيل، ويتلخص هذا المشروع في أن يتولى محمد علي الخلافة وينشئ دولة عربية تضم مصر والسودان والجزيرة العربية والشام والعراق، وقد فُهم من هذا الإقتراح، او على الأقل فهم محمد علي منه، أن الحكومة النمساوية تؤيده[2].
فيما يتعلق بتجربة الثورة العربية التي قادها الشريف حسين خلال الحرب العالمية الأولى، فإن دور بريطانيا (وإلى درجة أقل فرنسا) معروف ومشهور في دعمها وتشجيعها بالسياسة والسلاح، لتسهيل انتزاعهما المشرق العربي من يد الأتراك، ومنع ألمانيا من الظفر به، بينما كانت تجربة جمال عبد الناصر في السعي لتوحيد العرب، أقرب إلينا تاريخياً من أن تسمح لنا بأن نتبين بوضوح دور العامل الخارجي في دعم هذه الحركة وتشجيعها. لكن لا يمكن للمرء مهما تبلغ حماسته وتعاطفه مع الحقبة الناصرية، إلا أن يلاحظ ما حققته الحركة القومية العربية من منافع للسياسة الأميركية، خلال النصف الثاني من الخمسينيات، في تقليص النفوذ البريطاني والفرنسي في الخليج وعدن والأردن ولبنان والجزائر، وفي صد النفوذ السوفياتي الزاحف على المنطقة في هذه المرحلة من الحرب الباردة.
أما قصة الضرب والوأد اللذين تعرضت لهما الحركة القومية العربية ثلاث مرات خلال المئة والخمسين عاماً الماضية، فهي أشهر من أن نعيد روايتها، فكلنا يعرف الطريقة التي تعاملت بها بريطانيا مع محمد علي لتفكيك إمبراطوريته العربية، ومع الشريف حسين للتخلي نهائياً عن حلمه بإعادة المجد العربي، والطريقة التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع جمال عبد الناصر للتخلي عن حلمه بتوحيد العرب، وخصوصاً دعمها الهجوم الإسرائيلي على مصر وسورية والأردن في سنة 1967؛ ذلك الهجوم الذي أصاب مشروع التوحيد العربي بنكسة ما زلنا نعيش فيها حتى الآن، بعد أن مر عليها أكثر من أربعين عاماً.
إذ كان الأمر كذلك، فلا بد لمن يحاول استشراف مستقبل القومية العربية، من أن يتأمل ما حدث من تطورات خلال الأربعين عاماً الماضية، في بيئة المجتمعات العربية (أي العوامل الداخلية التي يمكن أن تعطل أو تساعد على استعادة الحركة القومية حيويتها)، وفي البيئة الدولية (التي يمكن لهذه الحركة أن تقوم في ظلها).
البيئة الداخلية
إن حجم الطبقة الوسطى في معظم البلاد العربية لا يقل عن ثلث السكان، وهذه النسبة هي أكثر من ضعف حجمها النسبي عندما رفع عبد الناصر شعار الوحدة في منتصف الخمسينيات، وأكثر من ثلاثة أضعاف في أيام الثورة العربية في سنة 1916، وأكثر من عشرة أضعاف عندما شرع محمد علي وإبنه إبراهيم في تكوين إمبراطوريتهما العربية. إلا أن حجم هذه الطبقة لم يكن ذا شأن يذكر في مشروع الوحدة العربية في التجارب القومية الثلاث السابقة، عندما كانت فكرة التوحيد فكرة نخبوية تأتي من علٍ، ولا يعبأ الحاكم كثيراً بما إذا كانت تحظى بتأييد كبير من الجماهير أو لا تحظى به، ومع ذلك، فليس من الممكن حالياً، في رأيي، تجاهل حجم الطبقة الوسطى وخصائصها في محاولة التنبؤ بمدى نجاح أو فشل حركة جديدة تقوم اليوم أو في المستقبل، لتوحيد العرب، أو لتحقيق آمالهم كأمة. كما انه من الصعب الأن أكثر من أي وقت مضى، أن نتصور حاكماً عربياً يقود حركة لتحقيق الوحدة العربية من دون أن يستند إلى تأييد شرائح واسعة من الطبقة الوسطى العربية، أو على الأقل لا يصادف مقاومة منها، وأنا أقول هذا ليس لأني أرى أغلبية البلاد العربية أكثر ديمقراطية مما كانت عليه منذ خمسين أو مئة عام، وإنما لأن أي خطوات قد تتخذ للتعاون الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، تتطلب الآن، أكثر مما كانت تتطلب في الماضي، نشاطاً إيجابياً من المجتمع المدني، وهذا النشاط يضطلع به في الأساس أفراد وجمعيات ونقابات تنتمي إلى الطبقة الوسطى التي تضم الآن نسبة من المتعلمين أكبر كثيراً من قبل، ولديها قدر من المعرفة بالبلاد العربية يفوق كثيراً معرفة أقرانها منذ خمسين عاماً (فضلاً عن أقرانها منذ مئة أو مئة وخمسين عاماً)، وربما اكتسب هؤلاء المتعلمون هذه المعرفة بالبلاد العربية الأخرى عن طريق التجربة المباشرة، من خلال إقامتهم عدة أعوام في إحدى الدول المنتجة للبترول، أو عن طريق السياحة، أو التلفاز والأقمار الصناعية. لقد قيل مرة عن تجربة عبد الناصر في الحركة القومية إن إذاعة "صوت العرب" كان لها شأن مهم في تعبئة الجماهير لمصلحة الوحدة، بينما لا يوجد الآن في وسائل الإعلام العربية ما في إمكانه أن يعبئ حماسة الناس للوحدة، لكن من المؤكد أن وسائل الإعلام العربية خلال الأربعين عاماً الماضية، بالإضافة إلى حركة العمالة المهاجرة والسياحة، زادت بدرجة ملحوظة في معرفة أهل كل بلد عربي بعادات ولهجات البلاد العربية الأخرى، الأمر الذي يمكن أن يسهل حركة جديدة للتوحيد ويدعمها.
ولا يقل أهمية عن ذلك، نمو مصالح تجارية ومالية في كل بلد عربي، وهي تتطلع إلى مزيد من التعاون والتقارب، من النوع الذي حفز الحركات القومية في أوروبا في القرنين الماضيين، ولم يكن له وجود بأي درجة ملموسة في تجارب الوحدة العربية الثلاث السابقة.
هذه التطورات كلها ايجابية من حيث مستقبل القومية العربية، لكن علينا أن نعترف بتطورات أخرى مهمة، وذات أثر سلبي للغاية، فمنذ خمسين عاماً، أي في مطلع الستينيات، عندما بلغت حماستنا الذروة لدعوة جمال عبد الناصر إلى الوحدة، كان رعاة الوحدة يعترفون بوجود شرائح صغيرة من الطبقة المتوسطة في البلاد العربية تناهض الوحدة، لأن مصالحها الاقتصادية الضيقة، وخصوصاً التجارية منها، ستتعرض للضرر جراء ما لا بد من أن تؤدي إليه الوحدة من إغلاق أبواب التجارة مع البلاد الأكثر تقدماً اقتصادياً، وذلك بغرض تشجيع نمو الصناعات المحلية.
وكان هناك أيضاً شرائح صغيرة من المستهلكين ذووي الدخل المرتفع نسبياً بسبب عوائد البترول، تنظر شزراً إلى مشروع الوحدة، لأنها كانت تنفر مما ربما تجبرها عليها الوحدة من التخلي عن مستويات استهلاكها البالغ الارتفاع، كما كان هناك شرائح البيروقراطية في كل بلد عربي، والتي حصلت على مراكزها وامتيازاتها خلال العقود الأربعة التي تلت تقسيم المشرق العربي إلى دويلات جرّاء تفتيت أوصال الدولة العثمانية. لقد أصبح لكل من هذه الدويلات ملك أو رئيس، وكذلك برلمان وعلم ونشيد وطني، ساهمت كلها في إيجاد نوع من الولاء للدولة الصغيرة، علاوة على بيروقراطيات تتمتع بامتيازات اجتماعية، ولا تحب أن ترى نفسها وقد ابتلعتها بيروقرطية دولة عربية موحدة.
ومع هذا، فقد كانت الحال منذ خمسين عاماً، أهون كثيراً منها الآن فالمصالح الاقتصادية الضيقة نمت وترسخت خلال تلك الأعوام، كما أن عادات الاستهلاك الترفي ازدادت قوة مع نمو الدخل الناجم عن عائدات النفط، فضلاً عن أن البيروقراطية المحلية نمت أيضاً وتشعبت.
وربما كان الأهم من ذلك كله، إضعاف الشعور بالولاء للأمة العربية ككل، واشتداد تغريب الحياة الاجتماعية، وزيادة الافتتان بكل ما ينتجه الغرب.
نعم، كانت الدول العربية قد تعرضت لموجة من التغريب في العقود الأربعة التالية للحرب العالمية الأولى، لكن هذا التغريب ظل، طوال تلك الفترة، محدوداً بحدود النسبة الصغيرة التي يمثلها سكان الحضر، والتي لم تكن تزيد في أواسط القرن عن 20 بالمئة من مجموع السكان، باستثناء لبنان ودول الخليج، بل إن سكان الحضر أنفسهم لم يكونوا قد عرفوا بعد جهاز التلفاز والأقمار الصناعية، ولا ما شهدناه في نصف القرن الماضي من أعداد غفيرة من السياح الآتين من الغرب. لقد ساهم هذا كله في زيادة تغريب الحياة الاجتماعية العربية، ومن ثم، في إضعاف درجة الولاء لفكرة القومية العربية.
علاوة على ذلك، ثمة تطور إضافي آخر خلال الخمسين عاماً الماضية، ويتعلق بما طرأ على المكانة النسبية التي تتمتع بها مصر بين الدول العربية، لقد كانت كل من الحركات العربية الثلاث السابقة تستند إلى إرادة قوية لقائد طموح ذي تاريخ مشرف من الانتصارات العسكرية، بينما استند قائد الحركة الثانية الحسين بن علي، إلى انتسابه إلى الأسرة الهاشمية، أما قائد الحركة الثالثة، جمال عبد الناصر، فكان يستند إلى انتصارات مدوية في تحدي الاستعمار، وإلى نجاحه الباهر في معركة تأميم قناة السويس.
وكان قائد مشروع التوحيد في تجربتين من هذه التجارب الثلاث هو رئيس مصر القوي، وكان هذا طبيعياً ومفهوماً نظراً إلى أن مصر كانت الدولة الأكثر سكاناً بين البلاد العربية، والأقوى أثراً سياسياً وثقافياً.
خلال نصف القرن الماضي، حدث تدهور مذهل في مكانة مصر، كان لا بد من أن يؤثر تأثيراً سيئاً للغاية في حركة التوحيد، وكانت بداية هذا التدهور هي هزيمة حرب 1967، التي أضعفت بشدة صورة مصر كدولة قادرة على حماية شقيقاتها من أي عدوان خارجي، وتلا هذه الهزيمة اعتماد مصر اعتماداً كبيراً، ولعدة أعوام، على ما يقدم إليها من معونات مالية من الدول العربية الأكثر ثراء. ولم يستطع النجاح العسكري الذي حققته مصر في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 من إحداث تحسن كبير في مكانة مصر في العالم العربي، إذ لم يجلب هذا الإنجاز العسكري إنجازاً سياسياً، وإنما فرض على مصر إتخاذ مواقف مهادنة لإسرائيل ومهينة للعرب. ومع ازدياد تبعية مصر للولايات المتحدة في أعقاب سنة 1973، فقدت مصر كثيراً مما كانت تتمتع به لدى الدول العربية الأخرى. فبعد أن كانت الكعبة التي يحج إليها السياسيون العرب قبل أن يتخذوا قراراً حاسماً يتعلق بدولة عربية أخرى، أو للتداول معها في الموقف الواجب اتخاذه تجاه دول كبرى، أو حتى فيما يتعلق ببعض شؤون دولتهم الداخلية، صار السياسيون العرب لا يأتون إلى القاهرة إلا لماماً، وإذا أتوا، فالأغلب أن تكون زيارتهم مجاملة، أو لحضور اجتماع ثقيل على نفوس الجميع، ويعرف الكل مقدماً أنه لا نفع فيه، أما إذا ذهب السياسيون المصريون إلى أي بلد عربي، فإن ذلك نادراً ما يكون للمساهمة في حل مشكلة هذا البلد العربي، وإنما الأغلب أن يكون إما لحل مشكلة مصرية (كثيراً ما تكون مشكلة مالية)، وإما لتبليغ رسالة جاءت رسالة إلى مصر من طرف غير عربي.
وكانت مصر في أواسط القرن الماضي أعلى الدول العربية دخلاً (قياساً بمتوسط دخل الفرد) باستثناء لبنان، لكنها الآن أصبحت أقل الدول العربية دخلاً، باستثناء الصومال وموريتانيا واليمن، بل من دون استثناء السودان بعد أن زاد دخله من النفط، وكان لا بد من أن يظهر أثر هذا الضعف الاقتصادي في مختلف نواحي الحياة الأخرى السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، وكانت محطة إذاعة "صوت العرب" المصرية تستحق الإسم الذي تحمله، لكن أموراً كثيرة تغيرت منذ ذلك الوقت، فحلّ التلفاز محل الراديو، ثم دخلت القنوات الفضائية كل بيت عربي، واستطاعت دولة قطر الصغيرة أن تسلب من قنوات التلفزة المصرية جمهورها، واكتسبت نشرات أخبار "قناة الجزيرة" الفضائية القطرية صدقية أكبر كثيراً مما تتمتع به أي نشرة أخبار مصرية.
وكان لا بد لهذا الضعف الذي أصاب مركز مصر في العالم العربي، من أن يصيب أيضاً فكرة القومية العربية والولاء لها والأمل بتحقيق الوحدة، وإذا كانت الدولة التي عُلقت عليها هذه الآمال جميعها قد أصابها كل هذا الضعف. فمن بقي لنا ليقوم بهذه المهمة؟
إن ما جرى في مباريات كرة القدم في سنة 2010، بين مصر والجزائر، دليل قاطع، بقدر ما هو مخزٍ، على ما أصاب الشعور بالولاء للقومية العربية من ضعف لدى المصريين والجزائريين على السواء. وأظن أن ما حدث زاد في إحباط المتعاطفين مع فكرة القومية العربية، حتى في خارج مصر والجزائر.
البيئة الخارجية
إن الضعف الذي أصاب كلاً من مركز مصر النسبي، وولاء شريحة واسعة من الطبقة الوسطى العربية إزاء الفكرة القومية، كان، إلى حد كبير، نتيجة تأثير عوامل خارجية، فالتدهور في مركز مصر حدث ابتداء من هزيمة 1967، أي جراء الاعتداء الخارجي، كما أن ضعف الولاء الناتج من اشتداد حركة التغريب في العالم العربي، يعود، إلى حد كبير،إلى ما طبقته الدول العربية من سياسات الانفتاح على الغرب، وهي سياسات نجمت عن ضغوط خارجية أكثر من كونها اختياراً حراً للسياسيين العرب. لكن مسؤولية العوامل الخارجية في إضعاف القومية العربية اتخذت أيضاً خلال الأربعين عاماً الماضية، شكل سياسات وإجراءات متعمدة من جانب قوى خارجية لإضعاف المشروع العربي، وأقصد طبعاً، وبصورة خاصة، إسرائيل والولايات المتحدة.
والأمر اللافت هنا، هو كيفية تحول وجود إسرائيل في داخل العالم العربي من عامل موحّد للعرب منذ إنشاء هذه الدولة في سنة 1948 حتى حرب 1967، إلى عامل مفرق ومشتت لهم بعد هزيمة 1967. فغَرْس الدولة الإسرائيلية في العالم العربي في سنة 1948، كان كدخول الشوكة المسمومة في الجسم العربي، وقد ظل العرب طوال العشرين عاماً التالية، محافظين على الأمل بقدرتهم على انتزاع هذه الشوكة من جسمهم، وكان اجتماعهم على تأييد عبد الناصر والسير وراءه ناتجاً، إلى حد كبير، من هذا الأمل. لكن الأمر تغير بصورة مأساوية مع وقوع هزيمة 1967، إذ أخذ اليأس يحل بالتدريج محل الأمل، وأغرى ذلك جزءاً بعد آخر من أجزاء العالم العربي بالبحث عن آمال وطموحات أخرى، بعيدة الصلة عن تحقيق مشروع النهضة العربية والتوحيد العربي.
وكان هجوم صدام حسين على الكويت في سنة 1990، عاملاً مهماً في نشر مزيد من اليأس والإحباط بين المؤمنين بالقومية العربية، بل إنه حتى هؤلاء الذين رأوا في هذا الهجوم بصيص أمل بتوحيد العرب، سرعان ما رأوا الأمر على حقيقته، واكتشفوا أن المستفيد الوحيد منه كان إسرائيل والولايات المتحدة، وأنه ترك أثراً بالغ السوء في أمل العرب بالوحدة، وخصوصاً لدى سكان الخليج العربي.
وما إن إنتهت حرب الخليج حتى رُفع شعار "الشرق الأوسطية"، وهو مشروع إسرائيلي أميركي يهدف إلى القضاء، إلى غير رجعة، على مشروع القومية العربية، وإلى إحلال مشروع جديد مكانه، يقوم فيه العرب بدور التابع، سياسياً واقتصادياً، للدولة الإسرائيلية، وتحل فيه محل الهوية العربية، هوية شرق أوسطية، أو بالأحرى هويات متعددة لا يجمعها إلا خدمة الأهداف الإسرائيلية. وقد أدت وسائل الإعلام، ولا تزال تؤدي دوراً مهماً في خدمة المشروع الجديد، بما في ذلك كثير من وسائل الإعلام العربية.
وكان من الممكن أن يأمل المرء بأن يؤدي تيار العولمة، الذي ازداد قوة خلال الأربعين عاماً الماضية، إلى تقريب الدول العربية بعضها من بعض، وإلى تقوية درجة الالتحام بين الشعوب العربية، وأيضاً بين شعوب العالم بأسره. لكن المذهل هو أن العولمة، وإن كانت سهلت الاتصال المادي بين أجزاء العالم العربي، وزادت في تنقل العمالة والسلع فيما بينها، وفي تسهيل نقل المعلومات بين بلد عربي وآخر، لم تساهم بأي درجة تذكر في تقوية الروابط الفكرية أو العاطفية بين الشعوب العربية، ولا حتى فيما يتعلق بالمعلومات، وأنا أقارن اليوم بين كمية الأخبار والمعلومات التي تنشرها الصحف المصرية بشأن ما يجري في سورية مثلاً، أو في السودان أو المغرب أو تونس، وبين ما كنا نقرأه من أخبار هذه الدول في حقبة الشباب، فألاحظ تدهوراً مدهشاً سببه السهولة التي يمكن بها نقل الأخبار والمعلومات من مكان إلى آخر في عصر العولمة. ولا يمكن تفسير ذلك بقلة الكفاءة مثلاً، إذ لا بد من أن يكون نتيجة سياسات متعمدة للتفريق والتشتيت، بالإضافة إلى ضعف الهمة واللامبالاة ببذل الجهد اللازم للخروج من هذه المحنة.
على الرغم من هذه الأسباب الداعية إلى التشاؤم، فإنني لا أعتقد أن الوضع خال تماماً من دواعي الأمل بمستقبل أفضل للقومية العربية سواء أكان ذلك في الوضع الداخلي في العالم العربي، ام في الوضع الخارجي، لكن قبل أن أعرض دواعي الأمل هذه، أريد أن أعبر عن وجهة نظر ربما تبدو غريبة وسط جوّ مفعم بالتشاؤم بمستقبل القومية العربية.
إن الباحث عن سبب للتفاؤل بمستقبل القومية العربية سيجد ان الأمر المدهش في الوضع الراهن للعرب ليس فشلهم في تحقيق وحدتهم، ولا دوام انقسامهم وتفرقهم، وإنما استمرار وجود الشعور القومي العربي في نفوسهم، وأن أمل الوحدة لا يزال يطوف بأذهانهم بين الحين والاخر، على الرغم من كل ما تعرضوا له طوال المئة والثمانين عاماً الماضية، أي: احتلال الإنكليز عدن في سنة 1830؛ احتلال الفرنسيين الجزائر في السنة نفسها؛ تجزئة الدولة العربية إلى أكثر من دولة: رسم حدود هذه الدول بحسب مطامح الدول الاستعمارية المتنافسة؛ فرض كل دولة استعمارية نظاماً للتعليم يقوم على تعليم لغتها وحدها من أجل ترسيخ الشعور بالولاء لثقافتها دون غيرها، واتباعها سياسة اقتصادية تفتح الأسواق لسلعها فقط؛ غرس دولة غريبة في قلب الأمة العربية لا تكف عن العمل على وأد أي محاولة للنهوض؛ عرقلة أي محاولة للوحدة بين هذه الدول.
والمدهش أيضاً، هو أن المجتمعات المدنية في هذه الأمة التي تبدو كأنها تمر بأحلك أيامها، والتي يبدي حكامها استهتاراً بالروابط القومية، بل مقاومة للتيار الداعي إلى تقريب العرب بعضهم من بعض، ويتخذون خطوات متتالية للتقارب مع إسرائيل، فإنها (المجتمعات) لا تزال ترفض خطوات التطبيع مع إسرائيل، وهي مستعدة لتحدي الحكومات العربية من أجل مساندة الفلسطينيين ودعمهم. وعلى الرغم من الجهود طوال 180 عاماً لتقطيع أوصال الأمة العربية، فإن الكتاب العربي الذي يصدر في الجزائر أو في تونس، يقرأه
أهل الكويت والبحرين، وما يكتبه الشاعر الفلسطيني أو السوري يتحول إلى أغنيات يتغنى بها المصريون والسودانيون.
وهناك أيضاً في العالم الخارجي تطورات مهمة ربما تدعو إلى التفاؤل بمستقبل القومية العربية. فالعالم في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يبدو مختلفاً جداً عما كان عليه عندما تلقت التجربة الثالثة للحركة القومية العربية تلك الضربة الفادحة في سنة 1967. لقد مضى على تلك الضربة ما يقرب من نصف قرن بدأ مركز الثقل فيه الآن ينتقل بالتدريج من الغرب إلى الشرق، كما أن زعامة الولايات المتحدة للعالم أخذت تتهاوى، بعد أن كنا نظن منذ عشرين عاماً فقط أنها أصبحت الآمر والناهي الوحيد في العالم.
إن تدهور المركز النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي لا بد، عاجلاً أو أجلاً، من أن يؤدي إلى تدهور مركزها السياسي والثقافي هي التي استمرت طوال نصف القرن الماضي، في تقديم العون والدعم لإسرائيل التي استخدمتهما في قهر العرب والدعم لإسرائيل وضرب القومية العربية، ولذلك، فإن هذا التدهور اقتصادياً وسياسياً، علامة خير، وربما نجد فيه بصيص أمل، مهما يكن ضعيفاً، بانتعاش القومية العربية. لقد كتب المستشرق فون غرنباوم مرة أنه حين تخضع أمة لسيطرة ثقافة غريبة عنها، فإن نهضة الأمة المغلوبة وإحياء ثقافتها يتوقفان على إصابة الأمة الغالبة بالضعف والانكسار أكثر مما يعتمدان على عوامل ذاتية في الأمة المغلوبة نفسها، فإذا كان هذا صحيحاً، فإنه ربما يبعث في نفوسنا بعض الأمل بمستقبل الأمة العربية.
علاوة على ذلك، فإنه من الحماقة أن نبالغ في تعليق الآمال على تدهور أمة أخرى، ذلك بأن تاريخ القومية العربية نفسه، يعلمنا أن العرب يمكن أن تتداولهم دولة استعمارية بعد أُخرى من دون أن يحرزوا تقدماً يذكر نحو تحقيق آمالهم، وأن الأمل لا بد من أن يعقد في نهاية الأمر، على ما يفعلونه بأنفسهم. ومع هذا فإنه من المهم أيضاً أن نلاحظ أن العالم يبدو اليوم كأنه مقبل على تحول لم يحدث لهم منذ خمسمئة عام، وهو انتقال مركز الإشعاع الحضاري في العالم من الغرب إلى الشرق، وأن التدهور النسبي في مكانة الولايات المتحدة، ربما يعني شيئاً أهم من ذلك، وهو بداية مغيب الحضارة الغربية كلها.
مع هذه الأسباب الباعثة على بعض الأمل، أعود فألاحظ شيئاً آخر من شأنه أن يضاعف الخوف ويزيد التشاؤم، وهو أثر التيار المتسارع للعولمة ليس في الشعور بالولاء للقومية العربية فحسب، بل في الهوية العربية نفسها أيضاً. إن التجارب الثلاث السابقة للحركة القومية العربية تبدو مختلفاً فيما بينها في الدوافع الأساسية المحركة لها، وهذا لا بد من أن يدفعنا إلى التساؤل عمّا إذا كان الدافع المحرك لحركتنا القومية في المستقبل يمكن، بدوره أن يكون من نوع جديد.
ففي تجربة النصف الأول من القرن التاسع عشر كان الدافع إلى تكوين دولة عربية، هو تحقيق الاستقلال السياسي عن الإمبراطورية العثمانية استجابة لطموحات فرد واحد، أو أسرة واحدة هي أسرة محمد علي، بينما في تجربة الحرب العالمية الأولى، فإنه حتى لو كان من دوافع الحركة القومية دوافع الاستقلال السياسي أيضاً عن الإمبراطورية العثمانية، إلا أن أقوى هذه الدوافع كان الأمل باستعادة المجد العربي القديم. أما في تجربة أواسط القرن العشرين، فقد اقترن دافع تحرير فلسطين بدافع الاستقلال السياسي عن الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، علاوة على تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتنمية الاقتصادية السريعة من خلال تكتل عربي موحد.
وهنا نصل إلى التساؤل: ما هو الدافع الذي يمكن أن يثير همة العرب الآن للقيام بحركة قومية جديدة، ويثير حماستهم لتحقيق الوحدة العربية؟
إن البلاد العربية التي كانت محتلة في أواسط القرن الماضي، تحررت كلها سياسياً، ولو اسمياً، ما عدا فلسطين، وقد أضيف العراق إليها الآن في محنة مشابهة ابتداء من سنة 2003. كما أن قضية الاستقلال الاقتصادي ما عادت تحتل المكانة التي كانت تحتلها في أواسط القرن الماضي، لا لأن البلاد العربية استردت سيادتها على مواردها، وإنما لأن السيادة الوطنية على الموارد الاقتصادية لم تعد تلهب حماسة الناس في عصر الشركات الدولية العملاقة والعولمة الاقتصادية، مثلما كانت تلهبها منذ نصف قرن.
لكن إلى جانب قضيتي فلسطين والعراق، فإن قضية جديدة بدأت تظهر وتنمو خلال نصف القرن الماضي، ولم تكن، فيما أظن، لتخطر في بال قادة أي من الحركات العربية الثلاث السابقة، وهي ما يتعرض له العرب من تهديد متزايد لوجودهم كأمة.
وهذا الخطر، في رأيي، هو الخطر الأساسي الذي يهدد العرب اليوم، أكثر من الاحتلال العسكري والسيطرة السياسية والاستغلال الاقتصادي، لأنه يهدد استمرارهم كأمة، بما في ذلك ما يجمعهم من لغة وثقافة وعادات وقيم مشتركة، أي كل ما يكوّن هوية الأمة ويميزها من غيرها من الأمم.
إن عوامل تخريب الهوية العربية، والتي نشطت خلال العقود الخمسة السابقة، كان بعضها نتيجة تسارع تيار العولمة الذي خضعت له سائر الأمم بدرجات متباينة، بينما نجم البعض الآخر عن أعمال متعمدة لتفكيك أوصال الأمة، والانفراد بكل جزء منها على حدة، وإضعاف لغتها واستبدالها بغيرها، وتحقير ثقافتها، وتزوير تاريخها، وإفساد نظام التعليم فيها، ومع أن هذا التخريب المتعمد يخدم مصالح اقتصادية خارجية ترى في تمسك العرب بثقافتهم وولائهم لها عائقاً في وجه توسيع الأسواق أمام السلع ورؤوس الأموال الأجنبية، إلا إنه يخدم أيضاً، ومن دون شك، مصالحهم الصهيونية في ترسيخ وجودها في فلسطين كما يسهل بشدة مهمة المحتلين الغربيين في إخضاع العراق واستغلاله.
وإذا كان هذا التصور لطبيعة التحدي الذي يواجه الحركة القومية العربية اليوم صحيحاً، فإنه يبدو لي أخطر وأصعب مما كان يواجه أياً من الحركات القومية الثلاث السابقة، فمحمد علي وابنه إبراهيم كانا يواجهان جيشاً تركياً ضعيفاً ودولة عثمانية اجتمعت فيها العلل، وقد استطعا ان يؤسسا إمبراطورية عربية صغيرة ، لولا اتحاد الدول الأوروبية ضدها لترسخت جذورها واتسعت، كما أن الشريف حسين واجه دول عثمانية ضعيفة، وتلقى مساعدات عسكرية من بريطانيا، لكنه واجه أيضاً مؤمراة مبيتة من أقوى دولتين في العالم هما بريطانيا وفرنسا، منعتاه من أن يرسي أول حجر لتأسيس دولته العربية. وعندما حمل جمال عبد الناصر لواء القومية العربية بعد ذلك بأربعين عاماً، كان العالم قد أصبح أكثر قسوة، وكان عليه أن يواجه، فضلاً عن المصالح المحلية المعادية، دولة صهيونية جديدة تدعمها أقوى دولة في العالم، ولها أطماع في ثروة العرب البترولية، وهو ما لم يكن له شأن يذكر لا في أيام الشريف حسين، ولا في أيام محمد علي وابنه إبراهيم.
أما اليوم، فإن العرب يواجهون، ليس فقط دولة صهيونية أقوى كثيراً مما كانت عليه في أواسط القرن الماضي، الأمر الذي جعلها تطمع في أكثر بكثير مما كانت تطمع آنذاك، بل أيضاً تياراً من العولمة يفتّ في عضدهم، ويضاعف شكوكهم في أنفسهم، ويعمل على طمس هويتهم كأمة.
فهل نفهم من هذا أن الحركة القومية العربية، بعد أن كانت تتصدى في الماضي للاحتلال العسكري أو للسيطرة السياسية والاقتصادية، أصبح مستقبلها اليوم يتوقف على مدى نجاحها في التصدي لقضية الوجود نفسه؟
أعتقد أن هذا التصور لمستقبل القومية العربية، إذا كان صحيحاً، وأعتقد أنه صحيح، يتطلب منا جهداً لم نعهد القيام بمثله سابقاً، وزعماء من نوع لم نحظ به من قبل، ونشاطاً في مجالات لم نكن نعيرها أهمية كبيرة في السابق، وهو يفرض علينا أن نعيد النظر في بعض المسلمات التي اعتدنا اعتبارها من البديهيات، والتي باتت لا تلائم العالم الجديد الذي سيتحدد فيه مستقبل القومية العربية، ولا التحدي الجديد الذي تواجهه.
لقد اعتدنا النظر إلى قضية القومية العربية على انها قضية سياسية، أو قضية سياسية واقتصادية، لكنها اليوم أصبحت قضية ثقافية في المقام الأول، ذلك بأن الخطر الأساسي المحدق بنا يدور اليوم حول هوية الأمة وثقافتها. واعتدنا أيضا بالاعتقاد أن تحقيق الآمال القومية مهمة منوطة بالدولة، فالدولة هي التي يمكن أن توحد العرب سياسياً واقتصادياً، لكن عندما تكون القضية الكبرى قضية الحفاظ على الهوية والثقافة القومية، فإن المسؤولية الكبرى في التصدي لها تقع على المجتمع المدني، بجمعياته الأهلية والمدنية، وبمفكريه المستقلين عن الدولة. إن العولمة قد تضعف الدولة لكنها قد تقوي الأفراد، فهي كأنها عاصفة هوجاء ربما تغرق السفن الكبيرة، إلا أنها تترك فرصة أمام القوراب الصغيرة للنجاة، واعتدنا أيضاً أن نضع آمالنا كلها في دولة قائدة هي الدولة العربية الأكبر، لكن ماذا لو أن هذه الدولة أصابتها علل جسيمة، وركزت عليها قوى العولمة أسلحتها أكثر ممّا ركزت على غيرها، فإذا بالدول العربية الطرفية التي لم تكتسحها العولمة بالقدر نفسه، والتي هي أكثر تمسكاً بمقومات الأمة العربية أصبحت قادرة على الدفاع عن وجود هذه الأمة أكثر من قدرة الدولة العربية الأكثر حجماً؟ إن قضية الدفاع عن القومية العربية أصبحت اليوم وأكثر من أي وقت مضى، دفاعاً عن وجود الأمة نفسها، بل إن ما طرأ على عالمنا العربي خلال الخمسين عاماً الماضية، يحفزنا على النظر إلى العدوان الصهيوني على فلسطين، وإلى العدوان الأميركي على العراق، على أنهما تجاوزا كثيراً قضية احتلال أرض وتشريد شعب وتبديد موارد.
فهذان الاعتداءان يبدوان اليوم من خلال ما تتعرض له الأمة العربية كلها في جميع أجزائها من عدوان ثقافي وعقلي ونفسي، مجرد مظهرين (وإن كانا أكثر المظاهر حدة وقسوة) لمحاولة محو الأمة العربية من الوجود، لا بالمعنى المادي أي بالقتل والتشريد، وإنما بالمعنى الجوهري، أي بمحو الهوية وإذابتها والقضاء على وعي الأمة بذاتها، ليس عن طريق التفرقة والتجزئة فقط، بل أيضاً عن طريق محو ذاكرتها، بتزوير تاريخها وتخريب لغتها، ولذلك فإنه ليس من قبيل المصادفة أن نجد أعداء الأمة العربية، ولأول مرة في تاريخ العلاقة المشؤومة بينهم وبين هذه الأمة، يتعمدون ألاّ يشيروا إليها باسمها، ولامانع لديهم من أن يشيروا إلينا كمسلمين، والأفضل بالنسبة إليهم، كشرق أوسطيين، أما فيما يتعلق بكلمات مثل العرب أو الأمة العربية أو العروبة، فإنهم يفضلون تجنب استخدام هذه الأسماء، إمعاناً في إنكار وجود الهوية العربية أصلاً، وتسهيلاً لمهتمهم في محوها تماماً. ولهذل، فإنني أعتبر الدفاع عن القومية العربية اليوم من قبيل الواجب الأخلاقي أكثر مما كان في أي وقت من الأوقات، لقد كان الانتصار للقومية العربية، دائماً موقفاً محموداً ونبيلاً، سواء عندما كان الهدف تحرير البلاد العربية من الاحتلال الأجنبي، أو المواجهة للوقوف في وجه تجزئة الأمة إلى دول والتفريق بينها، أو تشريد سكان بلد عربي وإحلال غيرهم محلهم، إلا إن الأمر الآن يبدو لي كأنه تجاوز هذا كله إلى ما هو أكبر وأخطر، أي النفاذ إلى عقل هذه الأمة ووعيها بذاتها.
إن الغضب من الاحتلال العسكري للأرض، أو من الاستغلال الأجنبي للموارد، أو حتى من قيام الأجنبي بطرد السكان من قراهم ومدنهم، هو أقرب إلى الغضب من عملية سرقة أو اعتقال أو تعذيب، إلاّ إنه غضب يقابله غضب أشد ومن نوع مغاير، هو غضب لانتهاك العرض، كل شيء يمكن تصحيحه إلاهذا، إذ من الممكن أن يستعاد المال المسروق، ويُطرد المحتل من الأرض، ويعود المطرودون إلى قراهم ومدنهم، وتتوقف عمليات التعذيب، ويطلق المعتقلون من سجونهم، لكن العرض لا يمكن تعويضه.
هكذا أنظر إلى ما تتعرض له القومية العربية اليوم من تهديد، فالغضب ممّا يحدث للغة العربية حالياً، أشبه بالغضب من الاعتداء على الشرف، ومن تسميتنا بغير أسمائنا، ومن تغيير المقررات المدرسية، الأمر الذي ينطوي على تزوير للتاريخ من أجل إجبارنا على التنازل عن هويتنا، والتسليم عن طيب خاطر بما يقوله أعداؤنا عنا، وقبول ثقافتهم كأنها ثقافتنا، ومعاييرهم في الصواب والخطأ كما لو كانت معاييرنا.
أعرف أن هناك من يقول إن القومية العربية لا تستحق أن تُذرف الدموع عليها، فهي أخطأت الهدف وحددت هويتنا تحديداً خطأ، وهؤلاء يقولون إن هويتهم إسلامية، وإنتماءهم إسلامي، والرابطة التي تجمعهم هي الدين لا القومية، وأمتهم الحقيقية هي الأمة الإسلامية وأشقائهم الحقيقيين هم أهل باكستان وبنغلادش وأندونيسيا وجميع المسلمين في كل مكان من الصين إلى نيجيريا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإذا كان الأمر كذلك، فذبول القومية العربية، بحسب هؤلاء ليس ذبولاً للهوية، وتهديدها ليس تهديداً للوجود.
وليسمح لي القائلون بهذا بأن أختلف معهم اختلافاً تاماً، فهم يخلطون بين الهوية والعقيدة، أو بين ما يجمع أفراد عائلة واحدة وبين ما يجمع المؤمنين على رأي واحد، فالذين يميلون إلى استبدال الدين بالهوية، أو يعتبرون أن الدين هو الهوية، هم في رأيي، يميلون إلى إعتبار الدين هو الحياة كلها، وأن لا شيء في الحياة سواه. لكن الحقيقة ليست كذلك، ونحن متى اعترفنا بأن الدين هو جانب فقط من جوانب الحياة، وليس الحياة كلها، وجب علينا أيضاً الاعتراف بأن الدين هو جزء من الهوية، لكنه ليس الهوية كلها، وأنه جزء مهم من ثقافتنا وتاريخنا وذاكرتنا، لكنه ليس الثقافة كلها، ولا التاريخ كله، ولا يستوعب ذاكرتنا كلها.
لا أستطيع أن أقول، وقد وصلت إلى هذه النقطة في وصف الخطر الذي يهدد القومية العربية اليوم، أنني شديد التفاؤل بمستقبلها، إذ لو صح القول إن القومية العربية وصلت إلى حد أصبح فيه وجود الأمة نفسه مهدداً، فإننا يجب أن نعترف لأنفسنا بأن مهمة الدفاع عن القومية العربية أصبحت مهمة بالغة الصعوبة، إلا أن التفاؤل والتشاؤم، وإن كانا عاملين مهمين في تحديد الموقف السياسي الذي يختاره المرء، فإنهما يجب ألا يحددا الموقف الأخلاقي. وإذا كان دعم حركة القومية العربية قد أصبح، أكثر من أي وقت مضى، موقفاً أخلاقياً، فإن علينا اتخاذه، أياً تكن قوة شعورنا بالتفاؤل أو التشاؤم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.