مجموعة الشاعر المصري خالد السنديوني الجديدة «نمر يبتسم» تقف وحيدة في أجوائها و»موضوعاتها»، وحتى في شكل مقاربتها لتلك الأجواء والموضوعات. هو شاعر «يتنصل» من «رصانة» التصقت بالشعر عموما، وبالشعر الحديث خصوصا، بالمعنى الذي يبيح له ولوج مشاهد وعوالم شعرية من حدقة تمزج الرؤية العيانية لما يقع عليه النظر المباشر بمقاربات المخيلة، والفكرة في سعي لتكوين شعري آخر، له مذاقه المختلف، ونكهته المميزة. «نمر يبتسم» (منشورات دار شرقيات للنشر القاهرة 2008)، قصائد شديدة الالتصاق بالحياة، وجزئياتها اليومية، ولكنها مع ذلك تتنكب عن مألوف «القصيدة اليومية» وتبحث لنفسها عن ملامح أخرى تعثر عليها في فضاء تأمّلي، فيه الكثير من رغبة عارمة في كشف دلالات ما وراء اليومي، وخلف ظلال «المألوف» والعادي الذي نمرّ به فلا نكاد في الغالب ننتبه: « خلقت الحياة ليتفرج عليها الموتى وخلق الموت ليتفرّج عليه الأحياء أما أنا فأحمل الموت على ظهري طوال الوقت ولا أستطيع أن أنظر إليه». رؤية شعرية كهذه إذ تأتي في بنائيات «قصيدة النثر» تختار في الوقت ذاته وشائج من نوع مختلف مع العالم المحيط، وتختار بالأساس زوايا رؤية أبرز ما فيها إتكاؤها على نوع من «فانتازيا واقعية» تعيد تقليب الأشياء، الموجودات، والأماكن، وبالضرورة، تعيد تأسيس العلاقة مع المحيط بمجمله انطلاقا من المخيلة وتجوالها الطليق. «موضوعات» قصائد «نمر يبتسم» تنضوي كلها تحت ذلك العنوان الذي اختاره خالد السنديوني لكتابه الشعري، والذي يحمل للقارئ مفارقة حادة، توحي بالوقوف بين عالمين يتناقضان إذ يلتقيان، ولكنهما مع ذلك يتوحدان في انتمائهما إلى الرَغبة في القبض على الحقيقي الذي تخلقه تلك التناقضات: «قال ضبع: إنه أحكم السيطرة على أفكاره بشكل مطلق وقال آخر: بل هو متقلب المزاج بشكل مخيف كانت تظن أن ابتسامته مجرد أسطورة الآن يُسمونها الفريسة المحظوظة لأن أحداً لم يلقْ هذا المصير من قبل أما هي فتتمنى لو روحها الخائنة هربت». هي قصائد رعوية «مقلوبة»، تتوسّل المشهد البدائي في علاقته بالفردية في ضياعها واغترابها الوجودي، والشاعر يحمل إلى قصائده رؤاه المشبعة بالطبيعة البدائية وما تضمره من جموح في حركة الأشياء والبشر، كما في طلاقة الأفكار، في برّيتها التي تبيح بوهيمية ما، نراها في قصائد المجموعة وقد غرقت تماما في أتون يزدحم بصور الفرد في عزلته وفي تأمّله، وفي حواره مع محيطه وما يزخر به من عوالم تؤلّف أفكارها ومشاهدها.هي نوع من قصائد «وحشية» تنطوي على الفلسفة دون أن تسكنها، وتسكن البراري بحكمة الثقافة وسعيها إلى مقاربات أحدث، مقاربات تستطيع شرح الوجع الفردي دون أن تبتعد كثيرا عن العام الذي يظل في خلفية المشهد حاضرا ونابضا بالحياة، ويتحدث بلغة نكاد نسمعها، غير أنها تختفي وراء صورة الفرد وصوته: «لو تحدّث ضحاياه لقالوا: صَعقَتنا جوهرتان من العالم السفلي وأخذنا جماله قبل أن تغمرنا وحشيته وما من فريسة وهو يفتك بها إلا تمنت فقط لو يبتسم». في مجموعة خالد السنديوني «نمر يبتسم» يمكن ملاحظة قصدية «أنسنة الوحوش» ومحاولة استنطاقها وزجّها في مشاهد الحياة البشرية في سياقات شعرية تأتي في الغالب أقرب إلى «الفانتازيا» وما تشيعه من مناخات جميلة، ولكننا مع ذلك كله نلحظ أن هذه الفانتازيا» تقترب بعض الأحيان من «الحكمة» أو «خلاصة القول» بما في ذلك من رتابة لا تلائم الشعر بل هي تأخذه نحو لون من «عقلانية» النثر وتقريريته. هي حالات نلحظها هنا وهناك وإن كنا نشدّد على جماليات قصائد المجموعة ككل. خالد السنديوني في مجموعته الجديدة «نمر يبتسم» يأتينا من فرجة المفارقة، وباب المتناقضات، وهو يفعل ذلك برغبة عارمة في إكساء العادي والمألوف حلة الشعر ووهجه وألوانه الزاهية.