حينما يُصاب محمود ياسين بالسأم (2) كانت المعلومات الأولية التي سربتها وسائل الإعلام قد تحدثت عن أن عبد ربه منصور هادي، حين عرض عليه البعض تولي منصب الرئيس خلفاً للمخلوع صالح، كان غير عابئ بالأمر، بل كان أكثر ميلاً لمغادرة الحياة السياسية بهدوءٍ كالهدوء الذي تميز بها طوال سنواته السابقة. وحين عُرض عليه الأمر بشكلٍ رسميٍّ، تردد كثيراً في قبول المهمة، على أن الضغوط الكبيرة والإلحاح الشديد الذي مُورِس عليه من قِبل أطراف خارجية وداخلية (بعض منها محسوب على ما تُسمى بالمعارضة بكل أشكالها السياسية والعسكرية) اضطره في النهاية إلى أن يخرج عن حالة التردد، ويقبل بالمهمة العسيرة. حين حان موعد انتخاب المرشح الوحيد والتوافقي (تصوروا كم تحمل الكلمات الأربع الأخيرة من تناقض وتلفيق، لكن فيم العجب إذا ما سار بلد "أعجوبة المتناقضات" وفقاً لوصف عبدالرحمن الراشد، على ذات الخُطى، والثورة تبقى شعاراً أثيراً يواسي أحلام المهمشين المحنطة!).. حلّت المناسبة السعيدة في البلد "السعيد"؛ وتدافع الإخوة في الشمال على صناديق الاقتراع، كما تتدافع الأكلة على قصعتها، فعبد ربه بدا لكثيرين هبة من سماءٍ لطالما كانت مقترةً في منح مثل هذه الهبات، بل عدّ البعض مجرد انتخابه تقرباً إلى الله!.. عبد ربه لم تظهر عليه علامات النبوة، ولم يُبشّر القوم بتابوتٍ فيه سكينةٌ كي يُصاب الناس بمثل هذه الاعتقادات الوارفة، لكن أساليب السياسة المعتادة في دهاليز وأقبية صنعاء، كانت توجه الناخب العادي بشكلٍ خاص، وعلى نحوٍ تلقائي. كان عبد ربه الهادئ، قليل الضجيج، صديقاً لصمته وعدم اكتراثه بما يدور حوله؛ أو هكذا أظهر الأمر، إلا فيما ندر.. ظل وفياً على الدوام لطريقته في الظهور والتعبير عن نفسه، أي صورة المواطن العادي والبسيط (المواطن هنا على سبيل المجاز، في بلد اللامواطنة الفجة) الذي لا يقلق أحداً، ولا يُفكر بالسطو على أحلام أحد، ولكن تحت لقب كبير عريض هو "نائب الرئيس"! قد تكون هذه الصفات كافية كي تُحفّز صنعاء بناء على عُرفِهَا العتيق، إلى انتداب رجلٍ بمثل عبد ربه لهذه المهمة، بالإضافة إلى الصفة الأهم، أو الميزة التي باتت ذات حظوة استثنائية، فعبد ربه من الجنوب، وليس من الجنوب وكفى، بل هناك تفاصيل مغرية أخرى لمن لا ينظر إلى الجنوب إلا من الخُرم المكيافيللي لصنعاء السياسية! صحيح كانت هنا وهناك بعض الآمال المِعْوزة، حسنة النية؛ آمال على شاكلة أن يكون هناك رئيس جديد.. المهم أن يرى الناس في وسائل الإعلام رئيساً جديداً، ربما كلمة "الرئيس"، وكذلك "الجديد"، هما كل ما في الأمر، وهو فتح تاريخي هائل، وأما الباقي فعلى مُسيّر الأحوال! كيف لا أتذكر مقال الزميل محمود ياسين، بلغته المذهلة التي نعشقها كما نعشق "شوكولاتة"، "رجلان من الجنوب"، عبد ربه وياسين، وقد تجليا أمامي لبرهة كرجلين لم يسبق لي معرفتهما، قد يكونان هبطا من المريخ لغرض أداء مهمة استثنائية، وهما من النوع الذي لا تجود بهما أرضٌ! عدا عن ذلك، كانت صنعاء مشغولة بعبد ربه، وعينها الكبيرة مفتوحة على الجنوب. عبد ربه هو من سيشد عُرى "الوحدة" الواهية، عبد ربه هو من سيعيد الجنوب إلى حظيرة صنعاء صاغراً، عبد ربه هو رجل المرحلة الأنسب لشق الصف الجنوبي إلى شطرين على طريقة اضربوه ببعضه؛ وبالتالي ستكون المهمة قد أنجزت على نحو مُذهل بما يضمن سقوط القضية الجنوبية إلى دركها الأسفل، أي كمطالبَ رخيصةٍ تستجدي أزهد الزهيد من الحقوق.. وكنا نسمع هذا الكلام كل يوم، ليل نهار، وبدون حياء أو خجل. وعبد ربه، الأب الوقور، الهادئ، الحنون رغم ملامحه الصارمة، كما وصفه الزميل سامي غالب، والمحاصر بحصارين خانقين؛ "حصار السبعين" و"حصار الستين"، وكل حصار يكفي أن يودي بجمهورية بكاملها.. عبد ربه هذا، هل كان الذنب ذنبه حتى يصبح مرتعاً خصباً لكل الهواجس المريبة في صنعاء، والمدعمة بحالة مرضية صرفة ومزمنة خلال الفترة الأخيرة؟!.. الرجل لم يقل قط إنه أتى كي يقوم بهذه المهمة المتوَهَّمَة، ولم يعد أحداً بذلك قط، كل ما قاله، منذ توليه وإلى الآن، كان واضحاً وموجزاً، ويتلخص في مهمة واحدة عسيرة، هي مهمة منع نشوب الحرب. لكن المشكلة كما يقول الأستاذ هيكل، أن الشعور اللحظي بنشوة نجاح ما في فترات الانتقال، قد يغري بالانسياق مع الأوهام، أكثر مما يدعو إلى النظر في الحقائق. والحقيقة الأولى أن الجنوب قد حسم أمره مبكراً، وليس بمقدور عبد ربه منصور أو ياسين سعيد أو عبدالله الناخبي أو أيٍّ من "أنبياء" الجنوب الآخرين، أن يحرفه عن الخيار الذي تبناه، ومن يقول غير ذلك فهو مجرد بائعٌ للوهم!.. كما سيكون من العبث والتضليل استمرار وصف هذا الخيار بالطفولي والمراهق والعاطفي العابر، الخيار بات واقعاً، بل هو واقع منذ اليوم الأول لإعلان الوحدة، ثم زاده واقعية اجتياح الجنوب في 94، واحتلاله، وقد كانت بصيرة "بردون" نافذة للغاية حين تمكنت من أن تراه مبكراً جداً (كل وحدة مهيأة للانفصال كيفما كانت؛ أما وحدتنا فهي منفصلة من يوم قامت، لأنها قامت على الإلغاء).. ولا أريد هنا أن أمارس دور الوصي المتودد، ولكن اعتقادي البسيط يقول لي بأنه بات من الضروري التفكير في الأمر بصورةٍ أكثر جدّيّة، وبما يضمن قيام مصالح إستراتيجية لكلا الطرفين، عوضاً عن شحذ الأوصاف والتحليلات المثيرة بلا فائدة، عدا في أنها تزيد من حدة الاحتقانات والتكالب المُهلك! (الزميل ياسين فَزِع من عودة المؤسسة العسكرية الجنوبية، والحل البديل ما اقترحته اللجنة الفنية كمقدمات للتهيئة للحوار، أي أن يتوزع المسرحون الجنوبيون على جيش (قصدي جيوش) القبائل، وما هو معروف عن هذا الأخير قيامه بتصفية كل من يراه طارئاً عليه ومهدداً لتركيبته المتجذرة، بدءا بكتيبة الصاعقة في نهاية الستينيات، وليس انتهاء بما بدا يكشر عن أنيابه بقوة خلال الأشهر الماضية تجاه الكوادر الجنوبية تحديداً!). والحقيقة الثانية التي بات من الملح على النخب في صنعاء الانشغال بها بشكلٍ جدّيًّ ومنهجيًّ، هي ليست الاستغراق المُلهي بترتيبات الرئيس المسكين عبد ربه الذي لم يقوَ على ترتيب حراسته الشخصية، ولا حتى بألاعيب المخلوع الشيطانية، أو الوقوف ندباً على الوحدة.. كل هذه الأشياء بالنسبة للتاريخ الكبير هي أشياء لحظية وطارئة كسحابة صيف أو أخف قليلا، المهم في شيءٍ أكبر من هذا وذاك، وربما كان الزميل محمود ياسين قد حاول مؤخراً أن يناوشه في مقال جاء تحت عنوانٍ دالٍ "بلاد بلا ضمانات"، وكأنه يقوم بمهمة تنقيب مضنية، بحثاً عن الخلل الجوهري، والغائب الكبير الذي جعل حياة الناس في مهب الفوضى العارمة والاختلال الكلي. فهل هو: العقد الاجتماعي (الدستور)، القانون، الجهاز القضائي، الجهاز التنفيذي؟ أم هي، في الأساس، الدولة (الحديثة) التي تكون بمثابة الوعاء المتين لوجود مثل هؤلاء جميعاً؟ منذ ما يُقارب العام والنصف قلتُ في مقالٍ نشرته صحيفة "القدس العربي" اللندنية: "إن ما يحتاج إليه الناس في اليمن هو أن يكفوا عن ترديد المفاهيم والمصطلحات الحديثة من قبيل: الثورة والجمهورية والدستور والديمقراطية والمدنية... إلخ، لأنه باسم هذه الكلمات الفضفاضة الخالية من المعنى، تناسى الجميع ما كان يجب أن يُثبت ويبقى، وما هم بأمس الحاجة إليه، وينبغي أن يركزوا جل نضالهم من أجل تحقيقه كاملاً، ودون نقصان، وهي الدولة الحديثة".. والسؤال الأساسي الذي يلح جاك باغنار في أن نبدأ بطرحه فوراً في حالةٍ كهذه، هو "من أين تأتي الدولة؟"، في ظل الواقع المتعين. كان عالم الانثروبولوجيا البريطاني الشهير بول دريش، انتهى في بحثٍ له بعنوان "الأئمة والقبائل: كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى"، إلى خلاصة مفادها "القبيلة كمشروع فردي كانت وما زالت متوقعة، وذلك بناء على قابليتها المطلقة للانقسام، كما أن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما جمهوراً لم يكن، ولن يكون، بمقدور القبائل تشكيله. أما الأمير الذي يستهدف إلغاء القبائل كليا، لمصلحة الهوية البسيطة، بين الدولة والشعب، فإنه سيواجه مشاكل من النوع الذي لا يقدم مكيافيللي ولا ابن خلدون إرشادات كافية حولها"!.. قد تكون هذه الخلاصة صادمة للغاية، لكن ينبغي على النُّخب أن يكون لها شرف المحاولة، وعدم التورط في اليأس سريعاً، أو الذهاب في اتجاه افتعال وفتح خناقات جانبية وهامشية هرباً من مواجهة الحقائق والمعوقات الفعلية. تبقى الوحدة كحلم (طبعاً ليس "وحدتنا" الحالية) جديرة بالدفاع عن مشروعيتها، لكن أخشى ما أخشاه إن بقي الحال بما هو عليه، أنه وبعد نضوب النفط، الوشيك نضوبه، سينتهي مآل الحاملين لمشروع الوحدة، والحالمين به في صنعاء، إلى مآل شبيه بمآل إبراهيم الحمدي والقوى الناصرية واليسارية في فترة سابقة للوحدة. أما أنت عزيزي محمود، فاسمح لي بأن أتطفل عليك بالقول، إن السياسة بمفهومها السطحي والأيديولوجي، أي بما هي مشاحنات وصراعات في كل اتجاه، تنهك طاقاتك الإبداعية كثيراً، وقد تذرها هدراً، وربما تكون أمنيتي في أن تتفرغ لإنجاز روايتك، والتي لو انهمكت بإتمامها ستكون قد فعلت خيراً بنفسك أولاً، ثم بمتابعيك ممن يتوقون لقراءتها أكثر من توقهم لما يمكن أن يتمخض عنه "الحوار الوطني" من نتائج!.. وأتذكر في هذا الصدد ألبير كامو، حين وجد نفسه غارقاً في السياسة، ومُداناً بسبب موقفه من ثورة الجزائر، انكفأ على نفسه، وشرع في كتابة روايته "السقوط"، وبعد صدورها ببضعة أشهر كان على موعدٍ مع تكريم نوبلي رفيع. مرات عديدة، ومن وحي رصدي لمواقف كثيرة جرت في أماكن متفرقة وأزمنة مختلفة، لا أدري ما الذي يجعلني أصل إلى رأي غريب مفاده أن الأدباء، أو المشتغلين بالأدب، حين ينغمسون في السياسة، يكونون كمن يمضغ قات، في البداية تحضر "النّشوة" و"الآمال العريضة" و"الآفاق الرحبة الوارفة" في كامل حللها، ثم يفضي بهم المطاف في نهاية السهرة إلى "بصقٍ" و"تُفالٍ"!..كامل الود حينما يُصاب محمود ياسين بالسأم (1) إذا كان السئم فأساً..فأحذر أن تكون جذع شجرة" مثل أنجليزي كان عليّ كتابة هذا المقال ودفعه للنشر منذ وقتٍ مُبكرٍ، لكن طارئٌ ما حال دون ذلك. في غضون السنوات الأخيرة، ومنذ انطلاقة الحراك الجنوبي، كان هناك الكثير ممن وقف بجانب قضية الشعب في الجنوب، البعض نظر إليها، وما زال، باعتبارها قضية عادلة في جوهرها تتجاوز التوظيفات (التبخيسية) للسياسة والايدولوجيا ، والبعض الآخر استخدمها كبضاعة موسمية للترويج السياسي الرخيص، وثالثٌ لم يدر ماذا ينبغي عليه فعله، وما هي الوجهة البراقة التي يُفضل أن يوليها شطره في وسط هذه الزحمة والتهافت؟ كانت الحشود تستحث الخُطى جيئة ورجعة، وكان كلما قالت له الحاشية كُن؛ كان! وفي ذروة مشهد ميلودرامي سابق، وعلى منوال غراميات كونديرا المضحكة، ظهر علينا فجأة الثائر ورجل التمرد حميد الأحمر، وقال في "لقضية الجنوبية" (أو "قضية شعب الجنوب" كما نُفضّل أن نسميها) ما لم يقله المسيح في "المحبة"، كان حميد بفطرته السياسية وخبرته المكتسبة منذ وقت مبكر يستجيب على نحو تلقائي لنصائح وإرشادات نيقولو مكيافيللي بكل حذافيرها، السياسة العارية من الأخلاق والمبادئ، وظن أن الأمر جولة واحدة وستنتهي، والفرصة بالظفر بها تبدو مواتية تماماً.. لكن، ولمقتضى الأمانة ، لم يقل حميد، ذو الأفك المبين، أنه قد سئم التملق للجنوب إلى حد اللحظة! صحيح إن ممارساته هي من البشاعة ما يجعل كل براكين عدن الخابتة منذ آلاف السنين تثور وتتفجر من أعماقها السحيقة، لكنه على مستوى الخطاب لم يصل بعد إلى القول بالسئم، أو على الأقل لم يشمل الجنوب بكل طوائفه وتوجهاته. وأرجو أن تعذروني يا أصدقائي وأعزائي على حديثٍ كهذا بدون طائل عدا في انه يستفز مشاعركم الكريمة، ويُقلّب عليكم المواجع! لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ فلطالما أثّرت السياسة في الناس بطريقة تُذكِر بالأسباب الطبيعية كما يقول بول فاليري، ولطالما خضعوا لها مثلما يخضعون لتقلبات السماء وقشرة الأرض والمناخ بفصوله الأربعة (بالمناسبة هناك مقال رائع لصديقي الفيلسوف والمفكر د.قاسم المحبشي يُصنف فيه القوى الأربع المهيمنة في الشمال منذ الأزل، محاولاً تفسير الكيفية التي تتعاقب بها بطريقة تُشابه تعاقب فصول الطبيعة الأربعة في تسلسلها وتكاملها، أما في جوهرها فواحدٌ، بردٌ قارسٌ، مع وجود فتراتٍ خريفيةٍ نادرةٍ تبدو كلحظاتٍ خاطفةٍ تُمهدُ لعمليةِ الانتقالِ بين فصلٍ وآخرٍ. والمقال نشرته صحيفة "الوفاق" الجنوبية طيب الله ثراها!.. بعنوان "القضية الجنوبية والمشكلة الشمالية"). كان الفرنسي ميرلو-بونتي قد حاول أن يُهذّب ما أفشاه شيطان السياسة الأعظم عن حقيقة السياسة وخباياها وأسرارها وأساليبها في إجادة تامة حتى ظن النّاس أنه هو مبتدعها الأصلي فسموها ب "الأساليب المكيافيللية"، ضداً لهذا، زعم بونتي أن للسياسة أخلاق، ولكنه موضوع صعب وشائك ولم يُعالج بوضوح. إلا أنه حين حاول أن يستوضح الأمر وصل إلى نتيجة لم تذهب بعيداً عن التقاطات صاحب "الأمير" النافذة: " حين تضطر السياسة إلى خيانة أخلاقها فإن اختيار الأخلاق يغدو خيانة للسياسة"! لا أخفيكم سِراً أنني أحاول جاهداً الوصول إلى مدخلٍ مناسبٍ لفهم واستيعاب ما تفضل به الزميل محمود ياسين في مقاله "سئمت تملق الجنوب"! واسمحوا لي أن أزعم هنا أنني على معرفة جيدة بالعزيز ياسين، فقد قرأت له ما يكفي كي أراه جيداً وعلى قدرٍ كافٍ من الوضوح. وبناء على ذلك، سأزعم أن المبررات التي عدها وراء ما استدعته أن يقول ما قاله هي كقميص عثمان، ولا يمكن أن تقنعه هو قبل أي أحدٍ آخر. لنفترض مثلاً أن الأحداث جرت في سياق عملٍ روائيٍّ، فهل يُعقل لدورٍ هامشي للغاية كدور "فتى الحبيلين" الرّعِن أن يحرف مسار أحداث الرواية كلياً، بما يفقدها تماسكها وتوازنها على نحوٍ جذريٍّ، وتبدو مشطورة إلى جزأين على طريقة "فسكوت كالفينو المشطور"؛ على أن فسكوت كالفينو شُطِر بفعل قذيفة في الحرب العالمية وليس بمجرد اتصال هاتفي من فتى أرعن! لا أظن العزيز محمود لم يقرأ عن سيكولوجية الإنسان المقهور وسيكولوجية الإنسان المهدور، والديناميات النفسية والعقلية والعلائقية المتولدة عن واقع القهر المضني، وواقع الهدر القاتل، والتي توجه السلوك وردات الفعل. وليس بخافٍ عليه أن الناس في الجنوب لا تحس سوى باحتلاًلٍ عاريٍّ ومتخلفٍ وبربريٍّ، ويوجهٍ قبيحٍ، وبعملٍ منظّمٍ ودءوبٍ يهدف إلى تدمير كل القيم والمؤسسات والوعي وكل ما تم مراكمته منذ مئات السنين. فليس أبين وحدها ما يدل على ذلك، وليس سقوط جزء كبير من الشباب في عدن، المدينة التي أنارت المنطقة كلها على مدى عقود طويلة بسخاءٍ قل نظيره، في فخ تعاطي الحبوب والمسكنات ما يعزز ذلك أيضاً، هذه أمثلة بسيطة جداً وزهيدة لما تخفيه الأكمة. فحتى نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) في جنوب أفريقيا كانت له بعض المحاسن كما يشير يلسن مانديلا في سيرته الذاتية التي جاءت تحت عنوان "رحلتي الطويلة من أجل الحرية"، فهو عدا عن أنه لم يسع إلى خلخلة المجتمع على نحوٍ فاضح وتدميري، فقد فتح المدارس بتعليمٍ ذي جودة عالية يضاهي أرقى جامعات العالم وقد كان مانديلا ورفاقه في قيادة حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" من ضمن مخرجات هذا التعليم. وعلى ذكر حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، وحديثنا عن الطبيعة السيكولوجية للإنسان المقهور، كان الشعار الرئيسي للحزب " سنقذف بالبيض (ذوي البشرة البيضاء وليس بيض الدجاج!) إلى البحر"، ومع ذلك، لم يمنع هذا الشعار العنصري أن يكون طليعة المدافعين عن حق السود في الحياة الكريمة والحرية والمواطنة المتساوية من ذوي البشرة البيضاء، ولم يمنع ذلك يلسن مانديلا نفسه من أن يحصل على جائزة نوبل، ويكون زعيماً خالداً من زعماء السلام! قد اختلف مع كثيرين في أنني لا أؤمن بأنه ينبغي علينا أن نستحث الخُطى في سبيل استجداء التعاطف، ربما قد أضطر مرات عدّة إلى التذكير به، لكنني لا أرى في ذلك فائدة تُذكر، وتستحق العناء. التعاطف موضوع ذاتي يتولد تلقائياً وعلى قدر من التجرد حيال أي قضية عادلة، وكما هو موضوع ذاتي، فإنه فقط يخص صاحبه ويعبر عن مدى اتساقه مع قيمه ومبادئه، أما القضايا فهي تحمل عناصر نجاحها وانتصارها وكذلك عناصر فشلها ونكوصها، فأينما رجحت الكفة مالت، كما تتوقف مآلاتها على مدى إيمان أنصارها بعدالتها، أما التعاطف (السلبي) فلا يقدم ولا يؤخر، ومن العبث الفادح أن نكون في وضعية من يضرب كفه بكفه الأخرى انتظاراً لمواقفٍ من قبيل مواقف سارتر الفرنسي من ثورة الجزائر أو مواقف نعوم تشومسكي اليهودي من القضية الفلسطينية، بالقول والفعل، في السر والعلن. في نفس السياق، لكن على طرفه النقيض، لن يقف التعريض بأي قضية، وكيل التهم والأوصاف المُحِطة لشأنها، وتضخيم السلبيات والمآخذ حتى الشيء التافه منها في طريق انتصارها طالما قد حملت عوامل النجاح الكافية والضامنة، ولو كان الأمر صحيحاً لكان البير كامو بجلالة قدره قد افشل الثورة الجزائرية وأسدى صنيعاً عظيماً لفرنسا في حال كانت قد استطاعت الاحتفاظ ب"الجزائر الفرنسية" في حضيرتها إلى ما شاء الله، وهو ما سيكون موضوع حديثاً في مقالٍ قادمٍ! مقالة "سئمت تملق الجنوب" كانت واضحة بخلاصة أرادت القول بأن الجنوب كقضية لا يستحق مجرد التملق، وحتى التملق، إن وجد، فهو كثيرٌ عليه! والزميل محمود له كامل الحرية في قول مثل هذا الرأي؛ حتى وإن كنّا قد عدينا أرائه في الماضي تعاطفاً خالصاً وليس مجرد تملق تنوء بصاحبها، وقد صدقناه من أعماقنا قبل أن يكشف لنا عن سره العسير بنفسه. لكن كيف يمكن لرجل بسيطٍ في الجنوب أن يثق بالشمال ونخبه بعد الآن؟ إذا كان رجل الحداثة وربما ما بعد الحداثة وحارس القيم في صنعء قد انتهى به المطاف في نهاية الأمر إلى انقلابة ارتدادية غير متوقعة إطلاقاً كهذه، وباتت المسألة تمثيل في تمثيل؛ فكيف بمن هم على شاكلة الإرياني والأنسي واليدومي؟.. وأي حوارٍ "وطني" يمكن الحديث عنه يا أعزاء؟ المصدر:الاولى