أبدأ زاوية هذا الأسبوع بشرح للعنوان الذي قد يبدو غريباً على بعض الشيء بالنسبة لغير المختصين بالأدب عموما والأدب الإنجليزي بصفة خاصة أو الذين لا يرتادون قاعات السينما.(الدكتور جيكل والمستر هايد) هو عنوان رواية للكاتب الإنجليزي روبير لوي ستيفنسون المتوفي أواخر القرن التاسع عشر(1850 1894) وقد اشتهر بعالمه الروائي الغرائبي الذي يركز على صراع الخير والشر.ويقال إن زوجته ماني اسبورن التي اقترن بها في فرنسا في مدينة( فونتان بلو) تركت أثراً مهما في اختيار شخصيات رواياته ومنها الراوية التي نتحدث عنها والتي تحولت من بعد إلى أكثر من فيلم سينمائي آخرها فيلم أخرجه فيكتور فيلمنغ ولعب فيه دور البطولة كل من نجم الأربعينات والخمسينات سبنسر ترايسي وانغريد برغمان بطلة أفلام المخرج السويدي الشهير انغمار برغمان. المهم في الأمر إن رواية جيكل وهايد تقوم على الصراع بين الخير والشر وفيها ينتصر الخير كما هي العادة في الأعمال المتفائلة في ذلك الحين.أما الخير فيتمثل بالدكتور جيكل وهو شخصية محببة وفي غاية اللطافة لم يعرف عنه انه ارتكب أعمالا مؤذية في حياته نهارا لكنه في الليل يتحول إلى مجرم خطير ويتقمص شخصية المستر هايد.وتدور أحداث الراوية حول أفعال الرجلين أي الرجل الواحد المنفصم الشخصية بفعل محلول معين إلى أن يكتشف جيكل بنفسه انه هو المستر هايد ويصعق لهذا الاكتشاف. ويقال أيضا أن ستيفنسون استعار شخصية هايد من مجرم شهير عاصره يحمل الاسم نفسه لكننا لا نعرف ما إذا كان الدكتور جيكل شخصية حقيقية مع ان البعض يرى أن مواصفاته الأخلاقية الرفيعة ربما تنطبق على الكاتب أيضا. أما لماذا وصف الديموقراطية الغربية بصفات جيكل وهايد فناجم عن الانفصام الفاضح بين السلوك الديموقراطي الغربي في البلدان الغربية والسلوك المنفصم وغير الديموقراطي في البلدان غير الغربية.هذا الانفصام يلاحظ من خلال الوجوه التالية: ديموقراطية (جيكل) تظهر بأبهى صورها في البلدان الغربية:تحقيق صحافي يسقط رئيسا أمريكيا.تحقيق صحافي آخر يدفع رئيس وزراء فرنسا إلى الانتحار.قانون خاص يجيز لأي مواطن في فرنسا المطالبة باستفتاء عام حول قضية وطنية.خطأ طبي يستدرج إعادة نظر كاملة في النظام الطبي في بلجيكا.إعتذارات بالجملة عن النقاط السوداء في التاريخ الأوروبي في عدد من بلدان القارة العجوز.تداول للسلطة يعمل بإيقاع دقيق شبيه بإيقاع الساعات السويسرية.احترام حقوق المرأة والطفل والمعاقين وإحاطة الحيوانات الأليفة والمتوحشة بعناية ملحوظة .انتهاك حقوق سجين يمكن أن يحدث ما يشبه الهزة الأرضية في الجسم القضائي. رئيس جمهورية سويسري يتنقل بالدراجة الهوائية في عاصمة بلاده.تثبيت عناصر دائمة لاستقرار سياسي يقوم على تنظيم لعبة سياسية مضبوطة القواعد تحميها اطر قانونية محترمة من الجميع انهاء الحروب والنزاعات بين الديموقراطيات الغربية بالوسائل السلمية....الخ. أما ديموقراطية (المستر هايد) فهي تظهر بأبشع صورها في بلداننا من خلال سلوك غربي اختبرناه في مناسبات عديدة من بينها:التعذيب في سجن أبوغريب وهو عمل يكفي في البلدان الغربية لإسقاط عشر حكومات لكنه لم يسقط في العراق ضابطا برتبة ملازم.اعتماد ازدواجية في المعايير كلما اتصل الأمر على الصعيد الدولي بحقوق العرب والمسلمين.اعتبار السيادة الوطنية في البلدان الغربية شرطا للنمو الديموقراطي واعتبار الاحتلال في بلداننا شرطا للديموقراطية.اعتبار الاختلاف شرطا للديموقراطية هناك واعتباره مؤشرا على الطائفية والاتنية عندنا احترام القانون و حقوق الإنسان هناك واستخدامها عندنا من طرف الدول الغربية وسيلة للضغط وذريعة للتدخل من اجل تحقيق مصالح معينة.القبول بالقواعد الديموقراطية لحل المشاكل بين الغربيين ورفض الديموقراطية والتعددية كلما اتصل الأمر بالعلاقات الدولية.احترام البيئة بكافة عناصرها عندهم ودفن النفايات السامة عندنا. اعتبار التطرف حالة عابرة عندهم واعتباره حالة دائمة عندنا...الخ. نكتفي بهذه الأمثلة المختارة عشوائيا للقول أن الديموقراطيات الغربية تتصرف إزاء غيرها كما تتصرف الكواسر مع أطفالها فهي تحنو عليهم وترعاهم برموش عيونها وتقاتل دفاعا عنهم حتى الموت في حين تلتهم في الوقت نفسه كل ما حولها من كائنات ضعيفة. كنا نأمل منذ زمن طويل ومازلنا نأمل بأن تكون الديموقراطية قيمة عالمية يحترمها كل الأمم بغض النظر عن عرقها ولغتها ودينها وكنا نأمل بان يقوم عالم جديد بعد انهيار الحرب الباردة خال من الحروب والصراعات وينطوي على مستقبل مشرق لجميع الشعوب والامم لكن الوقائع الراهنة هي للاسف تحمل في طياتها الكثير الكثير من المخاطر والشرور والقليل القليل من الوعود الزاهرة. في نهاية روايته ينتصر الخير لدى ستيفنسون على الشر عندما يكتشف الدكتور جيكل هول ما يصنعه المستر هايد. نريد فعلا ان تكون خاتمة العلاقات الدولية على منهاج ستيفنسون لان المنهاج الراهن لا يتسع بحق إلا للشر.