لأن غزة تقع على بحرٍ جميلٍ وكريمٍ، ولأن غزة بحرٌ من الصمود والشموخ أراد العدو أن يصنع بحراً آخر من الدماء ظناً منه أنه سيعلو ما سواه ويزيل ذلك الإباء.. اعتقد خطأ فكان بحر الدماء كريماً في العطاء غير أنه لا يقبل فيه صيداً ولا صيادين، في حين يقبل سفن العزة فقط. ظن القاتل أنه يقتل رجال ونساء وأطفال غزة ليجفف منابع البطولة والكرامة.. فإذا بمذبحته تُريق دماً يسقي تلك المنابع ويزيد من فورتها في كل متربع من غزة وبقية الأرض الفلسطينية وحتى في مخيمات اللجوء خارجها. غزة التي رفضت وترفض تسوّل البقاء وتوسُّل فتات العيش يتعامل معها العدو الجامح فوق خوفه بغباء قلّ نظيرهُ.. فقد جرّب أكثر من مرة قياس مدى صبر وعزم أهلها فكان كمن يلقي دلواً في البحر ليقيس عمقه.. غبيٌ لأنه لا يتعلم من التجارب وما يزال يرسل دلواً إثر دلو.. هذا العدو مرعوبٌ.. يسقط تباعاً ثلاث قنابل في مكان واحد ليقتل الأرواح ويحرق الأجساد، وليفتت الأشلاء وكأنه يخاف أن تتجمع الأشلاء أو أن تصير شظايا تعود مع الزمن وترتد في وجهه.. نعم هذا القطاع وكل شبر يحيا فيه مقاوم يقتطع من العدو راحته واطمئنانه.. هذا القطاع يحتل العدو - وليس العكس- بإصراره على الحياة وبصلابته في الاتصال بها ومعها بأجياله المتعاقبة والمتهافتة على الموت من أجل الحياة.. وانظروا الفارق الواعد.. العدو يستدعي احتياط جيشه وغزة لا تستدعي احتياط عزتها، فما يزال منتوجها الرئيسي يتداول العزة والشموخ.. ومع ذلك فاحتياطيها لا ينضب وتاريخها شاهد على أنها ولاّدة مثلها مثل الضفة والقدس والمخيمات برجال ونساء الصمود والنضال. اليوم.. تلك البقعة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، هي الأكثر حشداً للدماء وأكثر اعتداداً بالبقاء.. هي اليوم تتوج صمودها الأسطوري في وجه الحصار وفي وجه المتخاذلين.. هي اليوم الشرف الذي يخضَّب بالأحمر القاني لحى فيما أيام غيرها عبارة عن أمواس تحلق الكرامة وتحاول غلق مساماتها حتى لا تبزغ من جديد.. أهل غزة لا ينتظرون دموعنا التي تتبخر من عيوننا وكأنها تستكثر علينا أن تسقط أو كأنها تعرف مسبقاً تصنيفها ومسماها المخزي.. فهي إما دموع تمساح أنهى أكلته وذرف الدمعة كناتج من نتائج عملية الهضم لديه.. أو دموع جاءت بعد تقطيع كثيف للبصل.. ذاك هو حالنا وإلى جانبه أحوال ممتلئة بالخزي.. فهذا حال فيه معبر مغلق.. وذاك حال فيه أذن مسدودة، وذاك حال واقف في شرفة يتفرج.. ذاك غارق في همومه المجلجلة وإذا استفاق طلب إلى وزير خارجيته التصريح ببيان وَقْعُهُ أشد من حروق القلقلة.. وذاك يرفع يديه يطلب المغفرة بعد أن سبق ورفعهما عن التدخل وانزوى يغض الطرف عن المحرقة.. رغماً عن كل أنواع التخاذل والذي ستبقى الأرض المحتلة والمحاصرة صامدة في وجه الريح المصرصرة والذئاب البشرية.. ستبقى غزة "أصدق إنباء" من الكتب وسيبقى في صمودها الحد بين الجد واللعب.