نشر القاضي ريتشارد غولدستون الشهير بتقريره عن حرب غزة (2008 - 2009) مقالا في صحيفة "واشنطن بوست" أكد فيه أنه لو كان يعرف ما يعرفه اليوم عن تلك الحرب لكان تقريره مختلفاً عن ذلك الذي أعده. وطالب بأعادة النظر في تقرير "بعثة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة" في الانتهاكات التي أرتكبت أثناء العدوان على غزة. ويفهم من كلام القاضي الجنوب إفريقي أن إسرائيل لم تتعمد إيذاء المدنيين خلال الحرب. معلوم أن التقرير الصادر عام 2009م يدين كل من إسرائيل وحماس بارتكاب جرائم حرب أثناء العدوان على غزة. وقد سارع الوزير الأول الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى المطالبة بسحب التقرير وبالتالي التخلص من إدانة إسرائيل بالاستناد إليه.. وقال متبجحا أن تقارير حكومته عن الحرب كانت صحيحة وأن أجهزة التحقيق في دولته تتمتع بالكفاءة والمهنية العالية وأنها "ظلمت" في التقرير المذكور. ينطوي كلام غولدستون على محاولة جدية لإضعاف التقرير الأممي الذي يمكن أن يحرج الدولة الصهيونية في فضاء حقوقي لا تملك ولا يملك حلفاؤها السيطرة التامة عليه بل يمكن للتقرير أن يتحول إلى ورطة حقيقية للدولة العبرية إذا ما نجحت الدبلوماسية الفلسطينية والعربية في دفعه نحو محكمة الجنايات وبالتالي استدراج قيادات صهيونية إلى قاعة المحكمة وتسليط الأضواء العالمية على الاحتلال والعنصرية و الأبارتايد وفي أسوأ الاحتمالات إجبار هذه القيادات على البقاء في إسرائيل والامتناع عن السفر خوفا من الاعتقال. وإذ يعتقد أنصار التقرير أن تصريحات غولدستون لا يمكن أن تعيد النظر في مضمونه لأن الأمر لم يعد بيده بعد أن سلم تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان فإن مناهضي التقرير يرون أن تصريحات الرجل تطعن في صحة التقرير الذي يحمل اسمه فهو يؤكد انه بني على خطأ وبالتالي فإن استنتاجاته خاطئة ما يعني أن الحرب الصهيونية على القطاع الفلسطيني كانت مشروعة وأن كلامه يحرر القيادة العسكرية الصهيونية في أقل تقدير من الإدانة المعنوية أو الأخلاقية. والواضح أن المقاومة الفلسطينية قد أصيبت بخيبة أمل إزاء تصريحات غولدستون فهي كانت تعقد رهاناً جدياً على التقرير الذي يراد منه ليس فقط عقاب القيادات العسكرية والمدنية التي أرتكبت مجازر غزة وإنما أن يلعب أيضا دوراً وقائياً في تصعيب حرب محتملة على القطاع وفي ردع القادة الصهاينة عن ارتكاب مجازر بحق المدنيين وتهديم البنى التحتية المدنية خلال الحرب.أضف إلى ذلك أن التقرير مفيد للتعاطف الخارجي مع القضية الفلسطينية ذلك لأنه يخاطب الثقافة القانونية للرأي العام الأوروبي والغربي عموماً وبالتالي يمكنه أن يطعن في دعاوى الدولة العبرية من أنها محاصرة من كل صوب و أنها ملتزمة بالقوانين الدولية وتقاتل "الإرهاب" و تحترم قوانين الحرب. بكلام آخر يضع التقرير هذه الدولة في خانة المعتدي والجلاد بدلاً من خانة الضحية التي تدافع عن نفسها في محيط "همجي" لا يقيم وزناً للقوانين في حياة البشر. ما من شك في أن " تل أبيب " قد نجحت في الإفادة من الفضاء العربي المشتعل بالثورات والتمرد وإعادة النظر بالحكومات و تشكيل الجامعة العربية من أجل توجيه ضربة معنوية لتقرير غولدستون. ويدرك الصهاينة أن إعادة بناء الفضاء السياسي العربي قدتحتاج إلى سنوات طويلة قبل أن يتفرغ العرب مجدداًللموضوع الفلسطيني وبالتالي خوض معارك حقوقية مؤثرة على الصعيد الدولي. غني عن الذكر أيضا أن اللوبيات الصهيونية في الغرب قد نجحت في تكثيف الضغوط على المحقق اليهودي الأصل والمدافع بقوةعن إسرائيل وحملته على التنصل المعنوي من تقريركان يفخر بمهنيته وعدالته وموضوعيته. تبقى الإشارة إلى السلطة الفلسطينية التي لم تبد حماساً استثنائياً للتقرير بل خضعت للضغوط الإسرائيلية عندما دعت لتأجيل النظر في الإجراءات المترتبة عليه وعندما غيرت رأيها كانت الفرصة قد ضاعت في تضاعيف البيروقراطية الدولية وإنهيار الزخم المعنوي ولا تتصدر السلطة الفلسطينية اليوم القوى التي تجابه الصهاينة في المحافل الدوليةللحؤول دون المس بجوهر التقرير والإصرار على محاكمة المعنيين بالتهم الواردة فيه. وإذا كان من الصعب على مجلس حقوق الإنسان في جنيف أن يعيد النظر في تقرير أعدته لجنة تحقيق امتنعت إسرائيل عن التعاون معها وزارت ميدان العمليات واستمعت إلى مئات الشهادات وجمعت مئات الوثائق وبذلت أسابيع طويلة في الصياغة والمطارحة إذا كان من الصعب أن يعيد المجلس النظر في التقرير استناداً إلى مقال القاضي في صحيفة أمريكية فلربما يكون من السهل على المجلس أن يدرج التقرير في صناديق الأرشيف إلى جانب عشرات التقارير المهملة التي لم تجد القوة والحماس الكافي لمتابعتها ومعاقبة المعنيين بها. ولعل الوجه الأسوأ في هذه القضية يكمن في تشويه الانتصار الحقوقي العربي الأول في موقع أممي تنفيذي وفعال فقد نجح العرب للمرة الأولى في التغلب القانوني على الدولة العبرية في مجال حقوق الإنسان والمجازر الجماعية وللمرة الأولى يتصالح العرب أو بعضهم مع المجتمع الدولي الذي كان وما برح ينحاز منهجياً إلى إسرائيل وحماتها الغربيين.نعم لم نخسر معركة غولدستون بعد على الرغم من الأثر المعنوي السلبي لتصريحاته حول التقرير لكننا خسرنا مع الأسف الشديد فرصة ذهبية عندما أحجمت السلطة الفلسطينية عن الإيذان بترجمته إلى إجراءات تنفيذية كان من شأنها تحويل القادة الصهاينة إلى المحاكمة الدولية للمرة الأولى في تاريخ هذا الكيان اللقيط.